25-ديسمبر-2021

جزء من جدارية لـ ضياء العزاوي/ العراق

أن ترى جثة ولا تقف، هذا ليس غريبًا بالمرة

كائنٌ حي في مقدوره أن يتعود على أي شيء. هكذا يعرّف الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الإنسان، وهو تعريفٌ يسلط الضوء على أهم وأخطر صفات الكائن البشري، وهي الاعتياد على أمرٍ ما والسير على درجاتهِ وصولًا إلى الانمساخ أو التحول.

اعتياد الموت وتقبله بوصفه أمرًا طبيعيًا هو أخطر ما وصل إليه الكائن البشري الذي حوّلته الحروب وأعمال العنف إلى جثة متحركة

"عندما استيقظ غريغور سامسا من نومه ذات صباح عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحول في سريره إلى حشرة عملاقة"، بهذه الجملة يفتتح فرانز كافكا قصته الطويلة "التحول"، التي انطوت على كمٍ هائلٍ من الأسئلة التي تكسر البحر المتجمد داخل الإنسان، وتحفزه على البحث عن طرق الخلاص، مثل: لماذا يتحول الإنسان؟ وكيف يعرف بأنه في طور التحول؟ وما هي مبررات هذا التحول؟

اقرأ/ي أيضًا: شوارع دمشق: البكاء من سفعة برد

وفي فيلم "My Dinner with Andre"، يقول أندريه لصديقه والاس: "لا أظن أننا حتى واعون بأنفسنا أو بردود أفعالنا تجاه الأشياء. نحن نسعى طوال اليوم كآلاتٍ غير واعية، وفي الوقت نفسه فإن كل هذا الغضب والقلق والاضطراب، الذي تعلو أسواره داخل أنفسنا، هو إننا عندما نكون في حفل ما، نكون جميعًا مشغولين بالتمثيل. كان هذا أحد الأسباب التي دفعت بـ "غروتوفسكي" إلى هجر المسرح، لقد شعر أن الناس في حياتهم حاليًا يمثلون بشكلٍ ممتاز، لأنه شعر حقًا أننا نحيا اليوم في ما يبدو كابوسًا أورويليًا ما، وكل ما تسمعه الآن يساهم في تحويلك إلى إنسان آلي".

بعد غزو العراق عام 2003، هربت عائلتنا، مثل كل العوائل، إلى مكانٍ يقيها القصف. وكانت قبلتنا في ذلك الوقت أحد الأرياف التي لنا فيها أقارب وأصدقاء. وبعد مدة خفتت فيها أجواء المعارك، ذهبت برفقة صديق لي لتفقد منزلنا. كنت أسير متعثر الآمال وأرسم خيالات مختلفة حول الشكل الذي سيكون عليه منزلنا، وفجأة صرخ صديقي: انتبه لا تسحقه. لقد كدت أن أسحق جثة مغطاة بقطع الكارتون ومرمية قرب الرصيف وقد انساب من رأسها دمٌ كثيف.

هذه أول جثة أراها في حياتي على أرض الواقع، ومنها انفتحت عيناي على جثثٍ كثيرة، وبأوضاع غريبة ومفزعة. كانت آخر مسلسلات الجثث التي رأيتها هي في أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حيث كنت أمارس عملي الصحفي والاحتجاجي وسط ساحات الموت والاغتيال، أصور الجثث وأرسلها. كانت الصورة عندي تشبه عمل التحنيط، كل صورة كفيلة بتجاوز الزمن، تحنط الصورة وتوضع في مكان ما وتكون شاهدًا على الاستبداد ومآلاته. أصور وفي رأسي تدوي عبارة كونديرا "إن كفاح الإنسان ضد السلطة هو، في جوهره، السعي لنشر الحقائق وتوثيقها كي لا تنسى".

جثث متفحمة..

في ليلة من ليالي تشرين، شاع خبر العثور على 12 جثة متفحمة في مقر "منظمة بدر" في محافظة القادسية، الذي أحرقه المتظاهرون. وبعد التوجه إلى الطب العدلي تأكدت من الخبر. دخلت مع ذوي الضحايا وشاهدت الجثث المتفحمة. كانت الغرفة مملوءة بالدخان ورائحة تشبه رائحة الشواء. كان منظرهم مروعًا، وما هي إلا دقائق حتى بدأت المزيد من العوائل تتدفق لمعرفة مصير أبنائهم، الذين لم يعودوا حتى الآن بعد انسحاب المتظاهرين وانقطاع الاتصال بهم.

أصبح الموت مألوفًا بحيث أن الناس صاروا يدفنون أقرب الناس إليهم من دون اكتراث يُعتد به

كان مشهد الأمهات الباحثات عن أبنائهن بين الجثث المتفحمة مرعبًا أكثر. تعرفت إحداهن على ولدها من بقايا ملابسه (قالت بصوت متهدج لقد عرفته من ملابسه) التي كانت بقايا قميص أزرق ضمّته إلى صدرها، وهزت المستشفى بصراخها.

اقرأ/ي أيضًا: يحيى جابر الذي يسبقنا بوجع على الأقل

سبات الشعور الإنساني..

في حالات الحروب وأعمال العنف تتصحر مشاعر الإنسان، ويتحول إلى جثة متحركة. وعندما تنتهي هذه الحالات وتتبدد الأوهام، يشعر أو قد لا يشعر، بمدى التلوث الذي أصابه، وأي درجة من درجات البشاعة وصل إليها.

إنها جريمة الاعتياد التي حولته إلى آلة متحركة. فضلًا عن ذلك، فإن هذا الاعتياد جعلنا نعيد النظر في الحكايات التراجيدية التي تحفل بها نصوص التاريخ، تلك التي كان لها فيما مضى حضورها الطاغي، وقدرتها على تحريك المشاعر الإنسانية. أما في وقتنا الحاضر، فإن هذه النصوص تبدو وكأنها منتهية الصلاحية، إذ لم تعد مؤثرة في الواقع الذي يفوقها بؤسًا وبشاعة لدرجة أنها تبدو أمامه أقرب إلى قصة أطفال مكررة في ظل واقع ملوث بشتى أطياف العنف.  

يذكر المصور الصحفي جون ستيل الذي أمضى عدة سنوات في ميادين الحروب: "كنا في حارة تسمّى حارة القناصة، وتمكنت من تصوير فتاة أصيبت بطلقة نارية في رقبتها، وقد صوّرتها وهي تحتضر داخل سيارة الأسعاف. وبعد أن توفيت اتضح لي فجأة أنَّ آخر شيء شاهدته هذه الفتاة قبل موتها، كان عدسة الكاميرا التي وجهتها إلى وجهها. كان لذلك أثر بالغ في نفسي هز كياني. فحملت الكاميرا ورحت أعدو في الحي وأصور المدنيين البوسنيين وهم يركضون هربًا من مكان إلى آخر. أظن أن سبب انهياري يعود إلى شعور مخيف بأن الناس كانوا يموتون كي أظهر بمظهر البطل واحصل على صورة استثنائية". كلمات ستيل ذكرتني بنص شعري لشاعرٍ أفغاني يدعى إلياس علوي يقول فيه: "نحن نموت حتى ينال مصور (التايمز) الجائزة".

كُسرت في داخلنا المشاعر المشتركة، وصرنا نتقبل الموت قتلًا واغتيالًا وحرقًا كحالة طبيعية، الأمر الذي يعطي دفقة آمل كبيرة للطغاة

حال الإنسان المُستلب في المجتمع المعاصر، نجده متجسدًا في الواقع وفي بطون الكتب والروايات والنصوص الشعرية والسينما. فعلى سبيل المثال، يكلَّف أحد الجنود في مسلسل "Chernobyl" بقتل الحيوانات خشية أن تكون ملوثة بالإشعاعات. وحينما يدخل على كلبة تُرضع جرائها الصغار، ينكسر قلبه ويحجم عن إطلاق النار، ولكنه يُجبر على قتلها بعد انكشاف أمرها من قبل الضابط الذي أخبره حينها: "لقد أصبت أحدهم برصاصة، أنت لم تعد كما كنت بعد الآن، ولن تكون كذلك مرة أخرى أبدًا".

اقرأ/ي أيضًا: أن تكون دومًا على صواب!

هذا التحول المرعب الذي يصيب الإنسان، نجد جذوره ضاربة في أوج التاريخ وأساطير الأمم، حيث نجد في الأساطير اليونانية ما يسمى بنهر "الليثة"، وهو نهر النسيان حيث كان يسعى إله الحرب الإغريقي مارس إلى إغواء الجنود عندما يدخلون أرضه، وعندما يخرجون يسقيهم أكوابًا من ماء الليثة للحيلولة دون انهيار كل شيء من حولهم حينما تصحى مشاعرهم، ويتملكهم الحس الإنساني بعد أن ذابوا في خضم هيجان جماعي. 

في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى"، ينقل فيكتور فرانكل هذه القصة: "قضيت فترة من الوقت داخل كوخ للمرضى المصابين بالتيفوس ممن يتعرضون للحرارة العالية والهذيان، وغالبًا ما يموت الكثير منهم. وبعد أن لقي واحد منهم حتفه، صرت أشاهد هذا المنظر بدون أي تأثر وألاحظه وما يتبعه من مشاهد تتكرر كل مرة مع كل موت.... كان مكاني في الجانب الخلفي من الكوخ، بالقرب من النافذة الصغيرة الوحيدة... وبينما كانت يداي الباردتان تمسكان بسلطانية من الحساء الساخن الذي كنت أرتشفه بشراهة، حدث أن اتجهت عيناي خارج النافذة. وإذا بي أجد الجثة التي أخذوها تحملق فيّ بعينين جاحظتين لامعتين. وقلت لنفسي حينذاك أنني من ساعتين فقط كنت أتكلم مع الشخص الذي صار هذه الجثة. والأن أواصل ارتشاف حسائي".

وفي مذكراته التي حملت عنوان "في مهب العراق"، يروي الدكتور علي عبد الأمير عجام هذه القصة: "مع تواصل فصول الحرب مع إيران، قدّر لي أن أكون في جبهة شرق البصرة 1982، حيث دارت واحدة من أكثر معارك الحرب ضراوة وشراسة، ومعها تحوّل ذلك الخائف المرتعد إلى متآلف بشكل عجيب لا مع التهديد بالموت، بل مع الموت ذاته. فقد تنبهت إلى نفسي، بعد نهاية المعركة، وأنا أتناول جزءًا من طعامي ضمن "أرزاق المعركة" التي كنا نحملها معنا وكان قطعة خبز صلبة بالكاد قطعتها بأسناني مع جبن من علبة صغيرة نوع "كرافت" وعلبة "مربى رقّي" صغيرة من إنتاج معمل كربلاء للصناعات الغذائية، تنبهت إلى أنني كنت أتناول طعامي وفمي بالكاد أزلت عنه الغبار الثقيل، بينما كان حولي ستة من عناصر وحدتي وهم قتلى!".

هذا التدمير والتغريب للروح الإنسانية وتلف المشاعر، خلق أشباحًا للإنسان تصدرت هي المشهد، وتنبأ أيضًا بـ "اختفاء الكائن البشري"، وهذا الأخير عنوان كتاب لـ بيري ساندرز يتكلم فيه عن ضياع الإنسان وتشوهه. ذلك الإنسان الذي لم يعد يشعر بمأساة الأخرين وآلامهم وموتهم اليومي، فمشاعره متلبدة، ولا يبدي حراكًا إزاء ما يلاحظه. لقد سحبته موجة الاعتياد وجعلت مشاعره تعيش في سبات، تاركةً إياه يتعفن من الشعور بالملل والاغتراب.

حال الإنسان المُستلب في المجتمع المعاصر، نجده متجسدًا في الواقع وفي بطون الكتب والروايات والنصوص الشعرية والسينما

ينقل الدكتور علي الوردي عن المبشر الإنجليزي "غروفز"، الذي كان يسكن بغداد سنة 1831، قوله إن: "عدد الموتى أخذ يتزايد يومًا بعد يوم حتى بلغ تسعة آلاف في اليوم الواحد... إن الموت قد أصبح مألوفًا بحيث أن الناس صاروا يدفنون أقرب الناس إليهم من دون اكتراث يُعتد به كما لو كانوا يقومون بعمل اعتيادي".

اقرأ/ي أيضًا: سعادة إيلون ماسك الإلهية

هذا أخطر ما وصل إليه وضعنا الحالي، إذ انكسرت في داخلنا المشاعر المشتركة، وصرنا نتقبل الموت قتلًا واغتيالًا وحرقًا كحالة طبيعية، الأمر الذي يعطي دفقة آمل كبيرة للطغاة الذين يحكمون شعوبًا لا تحس بموت الآخر وغربته ومأساته، ذلك أنها شعوبٌ من دمى، فاقدة للحس الإنساني، ولم تعد تهزها أخبار الموت والمقابر الجماعية والسجون السرية، وهذا أخطر ما قد يصل إليه الكائن البشري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صحراء اللغات

قصّة شَعر شيرين