13-سبتمبر-2020

كتاب "فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ"

تُعنى هذه الزاوية باستعادة كتاب من الكتب الفلسطينية، على اختلاف أنواعها، بهدف إعادته إلى حيز التداول من جديد، ذلك لأنّ الكتب لا تتقادم، ولأنّ معرفة فلسطين ضرورية في يومنا هذا أكثر من أي وقت آخر.


في كتابه المترجم حديثًا والصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربية" بعنوان "فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ"، يتحدى نور مصالحة المقاربة الاستعمارية لفلسطين والخرافة الخبيثة القائمة على مقولة "أرض بلا شعب"، ويرى أن يُقرأ تاريخ فلسطين بأعين شعب فلسطين الأصلي.

 لم يُغفل نور مصالحة معارضته لمن يقولون أن فِلَسطين حديثة الولادة كما يدّعي بعض الأكاديميين الفلسطينيين

تستعرض هذه المادة، في خمس حلقات، فصول هذا الكتاب القيّم والذي لربما يُعتبر الأشمل فيما يتعلق بتاريخ فلسطين الجغرافية لما فيه من تفاصيل ومعلومات.

لقد ظهر اسم فِلَسطين لأول مرّة في العصر البرونزي المتأخر، حوالي 3200 سنة قبل الميلاد، وهو الاسم الذي بقيت عليه تلك المنطقة أيضًا منذ العام 450 ق.م ولغاية عام 1948.

يوضّح مصالحة في مقدمة كتابه أن استدعاء الصراع الفِلَسطيني- الإسرائيلي بوصفه صراعًا ما بين ثنائية العرب مقابل اليهود في فلسطين بأنه أمر مضلل جدًا، ويشير إلى أن الفِلَسطينيين يمارسون انتماءهم لبلدهم إفراديًا وجَماعيًا، وأنه وعلى الرغم من أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني قد سلبهم حقهم في تقرير المصير في وطنهم التاريخي، إلاّ أنهم مواظبين على الحديث عن بلادنا فلسطين أو فِلَسطيننا أو البلاد، وهو بحد ذاته يعبر عن عقلية وطنية تجاه كلمة إسرائيل.

كما لم يُغفل مصالحة معارضته لمن يقولون أن فِلَسطين حديثة الولادة كما يدّعي بعض الأكاديميين الفلسطينيين، إذ أنهم يعززون ما ينشره الكتّاب الإسرائيليون في هذا الصدد، وردًا على هذا يوضح مصالحة بأن الاستعمار لم يخلق فِلَسطين أو الوطنية الفِلَسطينية، بل إن الاستعمار البريطاني والقومية الصهيونية الاستيطانية – الاستعمارية ولّدا دولة إسرائيل وعملا على تدمير الكثير من فِلَسطين، بالاضافة إلى ذلك، فإن لفظة الأمّة العربية عمرها أكثر قليلًا من 100 عام، بينما لفظة فِلَسطين يتجاوز عمرها 3000 عام.

كما يُشير مصالحة أيضًا، إلى أن قصّة قيادة موسى للقبائل الإسرائيلية من مصر إلى كنعان لا تتجاوز كونها نصًا أدبيًا متأخرًا لا يروي بالضرورة عن أي حقبة تاريخية، أو أي تاريخ حقيقي مبني على أدلّة، لكن هذه القصة تعتبر مركزية في سرديات الأسطورة للأسفار السامرية وهي خمسة أسفار مكتوبة بالأبجدية السامرية وهناك نحو 6000 فارق بينها وبين العهد القديم (ص45).

كما يُثير الكاتب نقطة مهمّة حين يذكر أن آثار مصر التي نُبشت خلال القرنين الماضيين أكثر من أي مكانٍ آخر لم تكشف أي دليل عملي أو أثري لتأكيد أو دعم قصة العهد القديم عن مصر. بالاضافة لذلك، فإنه بعد أكثر من 150 عامًا من الحفريات التوراتية في مدينة القدس وما حولها، لا يوجد حتى اليوم مواد تاريخية أو أثريّة أو أدلة علمية على وجود مملكة داوود عام 1000 قبل الميلاد، ولا دليل تاريخي على السرديات الأخرى من العهد القديم، ويعود السبب في ذلك إلى أنها جميعًا، تقاليد مُخترعة.

وقد أشار زئيف هرتسوغ وهو أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب ومدير معهد الآثار فيها بين الأعوام 2005-2010 مايلي: "بعد 70 عامًا من الأحفار المكثفة في أرض إسرائيل، وجد علماء الآثار أن أعمال الآباء الأوليين (ابراهيم واسحق ويعقوب) أسطورية، والإسرائيليّون لم يسكنوا مصر ولم يخرجوا منها، وليس هناك أي ذكر لإمبراطورية داوود وسليمان، لكن إسرائيل شعب عنيد ولا أحد يريد أن يسمع هذا" (ص47).

يشدد مصالحة في كتابه على أن الصراع في فلسطين كان بين المستَعمِر والمُستعمَر على الأرض، والتعداد السكاني والسلطة والامتلاك، بالإضافة إلى التوصيف وسوء التوصيف وتوصيف الذات. ويبين أن التوصيف الذاتي لدى المستَعمِر الأوروبي هو بمثابة عودة إلى التاريخ، فعمل من أجل اقتلاع المواطن الأصلي وفصله عن التاريخ. وفي فِلَسطين، أدّى إنتاج المُستَعمرين الأشكيناز الصهيونيين إلى خلق طيف من الأساطير التأسيسية وتحويل الذات إلى سكّان محليين باستخدام أساطير الشتات والعودة، والعودة إلى التاريخ، بالإضافة إلى محو شعب فِلَسطين الأصلي، وإقناع العالم بعدم وجوده.

الفِلِستيّون وفِلِستيا: العصر البرونزي المتأخر حتى عام 500 ق.م

إن أقدم الأسماء المعروفة لفِلَسطين ورد ذكرهما في قصّة سينوهة المصرية كانت ريتينو ودجاهي، القصة التي تم اعتماد القرن الرابع عشر قبل الميلاد زمنًا لنشوئها، أطلقت على المناطق الساحلية في شرق البحر المتوسط اسم ريتينو وشملت عمورو في الشمال ولبنان وشمال نهر الليطاني، أمّا دجاهي فقد أُطلق على المنطقة الجنوبية من ريتينو وصولًا إلى عسقلان وربما غزّة.

بينت المُكتشفات الأثرية في مقبرة عسقلان نظرةً جديدة إلى أصل الفلسطينيين، وأوحت بقوة أنهم لم يكونوا من غزاة مُغيرين من بحر إيجه

ويشير مصالحة إلى أن المُكتشفات الأثرية الحديثة في فِلَسطين، والنقوش المحفورة على الجدران والهياكل والنُصب التذكارية وكذلك المقابر الفِلِستيّة المكتشفة أخيرًا في عسقلان والتي تعود إلى 3000 عام قد أدّت إلى تعديل لفهمنا تاريخ فِلَسطين القديم. وقد عُثر على اسم قريب من لفظة فِلَسطين في خمسة نقوش وهو بِلست تُشير إلى شعب جاء من البحر إلى ساحل فلسطين منذ القرن الثاني عشر ق.م في أثناء حُكم رعمسيس الثاني ورعمسيس الثالث من الأسرة الفرعونية التاسعة عشر.

وقد تبين في نقش يعود إلى العام 1150 ق.م في هيكل رعمسيس الثالث بمدينة هابو في الأُقصر ما يُشير إلى بِلست على أنهم شعب حارب ضد رعمسيس الثالث مُشيرًا إليهم بشعوب البحر. وقد بينت المُكتشفات الأثرية في مقبرة عسقلان نظرةً جديدة إلى أصل الفلسطينيين، وأوحت بقوة أنهم لم يكونوا من غزاة مُغيرين من بحر إيجه، أو من شعوب البحر الذين ظهروا في فِلَسطين في زمن عصر البرونز، بل هُم شعب أصلي من الشرق الأدنى.

إن العهد القديم مؤسس على أوهام وبدع أدبية وخيال منذ السبي البابلي وما بعده وفق مصالحة، ويشير إلى أن رواياته الأسطورية يجب أن تُقرأ على أساس أنها لاهوت أدبي وليس كحقائق مثبتة، فالكنعانيون مثلًا هم ذاتهم الفنيقيّون، وقد عُرفت الأبجدية الفينيقية في مناطق فلسطين ولبنان الساحلية بأنها الأبجدية الكنعانية وتحدث بها الإغريق، والآراميين، والعرب والعبرانيين.

وقد استخدم اسم كنعان في العصر البرونزي المتأخر ولم يكن يعني دائمًا منطقة غرب نهر الأردن من غزّة إلى نهر الليطاني، ولم يكن هو الاسم الوحيد الذي سُمّيت به هذه المنطقة، حيث كان هناك أسماء أخرى تم استخدامها مثل فِلَسطين، وريتينو ودجاهي قبل ذلك.

في الألف الأول ق.م كان اسم فينيقيا يُطلق على المنطقة الساحلية الشمالية والتي ضمّت لبنان آنذاك، قبل ذلك، كان يُطلق عليها كنعان وفي الآشورية كان اسمها فِلِستا.

ومن الواضح أن الحركة التجارية بين فِلَسطين ومصر كانت مزدهرة  بين الأعوام 4000 - 3200 ق.م، حيث تم اكتشاف عدد كبير من الأوعية النحاسية والفخاريات الفِلَسطينية الكنعانية من هذا العصر في مصر كانت تُستخدم كحاويات خمر وزيت وزيتون.

في فترة ما بعد العصر البرونزي، حل اسم فِلَسطين محل الأسماء القديمة مثل كنعان ودجاهي وريتينو، وقد كان الاسم الغالب استخدامه في القرنين الثامن والسابع ق.م. في الكتابات الآشورية. وأصبحت فِلَسطين تعني المنطقة الكُبرى (بالاشتو، بِلِستي أو فِلستيا) ومعناها الحرفي هو أرض البِلست من جنوب المشرق، وكانت تضم المنطقة ما بين لبنان ومصر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم أسماء مُدن فِلِستيا مثل: غازا (غزّة)، أسكليون (عسقلان)، أشدود (إسدود)، تنتور (طنطورة)، غات (جِت)، عقرون (عاقر) بقيت حتى العام 1948 تحتفظ بأسمائها العربية الفِلَسطينية لحين ما قامت به العصابات الصهيونية من تهجير أهلها وتشريدهم.

بِلِستي وفِلِستيا في المصادر الآشورية

لقد أطلق الآشوريين على المنطقة المسمّاة اليوم فِلَسطين أسماء بالاشتو، بالاستو أو بيليستو، وقد وُجدت في سبع لوحات مسمارية آشورية معروفة، وذلك في فترة حكم ملك آشور أدد نيراري الثالث من عام 811 إلى 783 ق.م، وفي كتابات نمرود عام 800 ق.م، وحتى حُكم أسرحدّون مابين الأعوام 681 إلى 669 ق.م.

وفي حوليات سنحاريب والتي تمثل سجل أعمال التحسين في العاصمة الآشورية عام 694 ق.م تقريبًا، تحدثت عن شعوب كوي وهيلاكو، بِلِستي وصور، ويذكر سِجل آخر وهو معاهدة أسرحدّون عام 675 ق.م موقع دور أو طنطور في مقاطعة بِلِستو أو بِلِست.

ومن ضمن توثيق حملات سرجون الثاني، وُجد ما يَتحدث عن ضم منطقة بِلِستو إلى الإمبراطورية الآشورية، ويبين أيضاً هُنا أن بِلِسته أو بِلِستو هما الاسم الآشوري للفلِستِيين، بينما بِلِست هو الاسم المصري لإحدى مناطق من يُسمّون شعوب البحر في عهدي رعمسيس الثاني ورعمسيس الثالث.

فِلِستيا في العصر الحديدي

يتحدث العهد القديم عن أرض البِلستيم، وكان الاسم الذي يُطلق على البحر الأبيض المتوسط في التوراة هو بحر الفِلِستيين، على اسم من كانوا يقيمون على سواحله. ويقول معظم الباحثيين التوارتيين الأمريكيين والإسرائيين بأن بِلِست هذه هي كيان تاريخي وواقعي وهي أرض الفِلِستيين التوارتية وهي المنطقة الساحلية ما بين غزّة إلى الطنطورة.

لقد تحولت فِلِستيا في العصر الحديدي إلى كيان جيوسياسي مُستقل تحت سيطرة الفِلِستيين، تتمتع بروابط تجارية دولية قويّة، واقتصاد مستقل، وبيئة حضرية متطورة. لكن أبرز ما عانى منه الفِلِستييون كانت الأوصاف السلبية التي وصفوا بها في أسفار العهد القديم وقصصه. ومن قصّة جالوت ودليلة، شَخصنوا الآخر الشرير بالفطرة في الأقصوصة الأسطورية لشعب إسرائيل، وقد جعلهم العهد القديم كبش فداءٍ إيديولوجيًا نموذجيًا.

وقد استمر هذا الوصف في العنصرية الأوروبية الحديثة والأدبيات التوارتية فصارت تَعني كلمة فِلستين Philistine شخصًا جاهلًا للثقافةـ أو مُعاديًا مُعتدًا بنفسه.

ولقد ربطت الذاكرة الجماعية لدى المُستعمرين الإسرائيليين بين الفِلِستيين القُدماء وشعب فِلَسطين الحديث من المتكلمين بالعربية، ويذكر التاريخ أن التكتيكات الصهيونية الإثنية في حرب عام 1948 اعتمدت هذا الربط وكيّفت رواية شمشون الأسطورية عن الحرب المقدسّة ضد الفِلِستيين، بل وحتّى قامت بتسمية واحدة من أهم وحدات مغاويرهم باسم ثعالب شمشون.

لقد أثبتت آثار فِلِستيا أن مدُن فِلِستين كانت تملك ثقافة بالغة التطور، وكان شَعبها متحضرًا جدًا، وكانوا بحارّة متطورين، ومعماريين مهرة، ومخططين حضريين، وصنّاع فخار جيدين، وبارعين في كل من الحياكة وتصنيع العاج والمعادن.

طريق الفِلِستيين والنقود الفِلستية

تاريخيًا، استثمرت فِلسطين تمامًا موقعها الجغرافي الرابط بين ثلاث قارات في خدمة التجارة الدولية، وقد سيطر كل من الفِلِستيين والفينيقيين على كثير من سواحل المشرق في فِلِستيا وفينقيا (لبنان الحديث)، وقد جاء وصف طريق الفِلِستيين أو كما عُرف "فيّا مارس" في سفر الخروج على أنّه طريق الفِلِستيين البريّة.

 أطلق الآشوريين على المنطقة المسمّاة اليوم فِلَسطين أسماء بالاشتو، بالاستو أو بيليستو، وقد وُجدت في سبع لوحات مسمارية آشورية معروف

ولما كان لهذا الطريق من أهمية، فقد نشأت على امتداده أهم مدن البلاد، ومنها غزّة وأشدود وعسقلان ويافا وطنطورة وقيسارية. وقد وصلت أيضًا إلى مدينة بيترا النبطية (البتراء) وعبر طريق التوابل واللُّبان الطويلة الآتية من شبه الجزيرة العربية واليمن.

وشهد العام 538 ق.م ضرب أول نقدٍ فِلِتستي في غزّة، وبه تحولت البلاد من اقتصاد الذهب إلى اقتصاد النقود، وبقيت تتداول حتى عام 332 ق.م حين قام الإسكندر الكبير باحتلال فلسطين، وفيما بعد ضُربت نُقود الدراخما على الطريقة الإغريقية القديمة في عدّة مُدن فلسطينية. وكان لتصميم النقود الفِلستية مزيجٌ فريد من المصادر الإغريقية والصيدونية، والإخمينية، والمصرية والمصادر المحلية الفِلستية، وكذلك مثّلت النقود أكبر مجموعة من آلهة آشور، ومصر، واليونان وفِلَسطين.

بداية تاريخ فِلَسطين الكلاسيكي القديم 500-135 ق.م

لقد كان اسم فِلَسطين هو الأكثر شيوعًا واستخداماً لمدّة تقارب الـ 1200 عام، وذلك من بزوغ الحضارة الأثينية عام 500 ق.م وحتى احتلال الجيوش الإسلامية لفِلَسطين عام 637 م. ويشير مصالحة إلى أن استخدام وصف أو اسم كنعان لوصف المنطقة الجغرافية التي كانت معروفة باسم بالستينا يعادل إلغاء تاريخ هذه المنطقة ويقيم عوائق دون أساسية تحول دون فهم العصرين الكلاسيكي والقديم المتأخر.

إن عبارة كنعان عُرفت لمدّة محدودة في العصر البرونزي المتأخر، واستخدامها بكثافة يمثل إلغاء أي معرفة تاريخية حقيقية لإحدى أهم الحقب في تاريخ المنطقة القديم، أي في الحقبتين المسيحية الأولى والبيزنطية.

لقد كانت لفظة فلسطين واسعة الانتشار في اليونان القديمة، وقد تم استعماله بين الإغريق المؤرخين القدماء، وراسمي الخرائط، والكتّاب، والفلاسفة، والعلماء، منهم هيرودوتس، أرسطو وبطليموس.

وفي كتابات هيرودوتس، اتخذ الاسم شكله الإغريقي، بالستينه أو فَلَسطين، وتحدث أيضًا عن سوريا – فلسطين، وسوريّي فلسطين وميّز بينهم وبين الفينقيين. وقد استخدم هيردوتس الاسم بالمعنى الواسع، أي قد شمل منطقة فِلَسطين كاملةً بما فيها المناطق الداخلية.

ويشير مصالحة إلى أن المؤرّخين الكلاسيكيين الإغريقيّين هيرودوتس وثوكيديدس عملا على فصل الأسطورة الواردة في العهد القديم عن الحقيقة المستندة إلى الحجّة العقلانية، وفصلا تواريخ الآلهة عن تواريخ البشر، وأهملا السرديات السياسية والأسطورية لمصلحة الوقائع على الأرض. وقد سجّل هيرودوتس الكثير من محادثاته مع الفلسطينيين والجماعات الأخرى التي قابلها والمعلومات المثيرة التي عَرَفها عن حياتهم. بالإضافة لذلك، يذكر مصالحة أن هيرودوتس الذي ارتحل كثيرًا في فلسطين وسوريا وبعيدًا من المنطقة الساحلية لم يذكر اليهودية أو يُشر إلى اليهود، ولم يذكر عبارات مثل كنعان أو الكنعانيين أو الإسرائيليين في فلسطين، وحتى أنه لم يصف عبادة التوحيد في البلد.

وقد وصف أرسطو في كتبه الشهير "الرصد الجوي" البحر الميت كمايلي: "كذلك إذا كان هُناك، كما يُقال في الأساطير، بحيرة في فلسطين، لو قَيَّدتَ رجلًا أو حيوانًا ورميته فيها، فسيعوم ولا يغرق، فهذا يؤكد ما قُلناه. يقولون إن هذه البُحيرة مُرّة ومالحة إلى درجة أن لا سمك يعيش فيها، وأنك لو نقعت ثيابًا فيها ونَفَضتها، لَتنَظفت".

بالإضافة إلى أرسطو وهيرودوتس، فقد وضع الجُغرافي الإغريقي الأشهر أول خريطة معروفة في وَصف فلسطين، وقد مَيَّزَ بوضوح بين ما سُميَّ سوريا – كويله، وفينيقيا وفلسطين على نحو يُثبت أن فِلَسطين كانت موجودة وتُعامل على أنها كيانٌ منفصلٌ ومستقل. وينوه مصالحة إلى الخلط ما بين الاسم الجغرافي سوريا – كويله أو كويله –سوريا مع الاسم المخترع حديثًا وهو سوريا الجنوبية، الأمر الذي يرمي جُزئيًا إلى التمويه على وجود فلسطين تاريخية كوحدة جيوسياسية.

ونرى أيضًا أن فِلَسطين وبالستينا مذكورتان على خرائط العالم التي رسمها محمّد الإدريسي، وبييترو فيسكونتي، ومارينو سانودو وفرا ماورو في القرون 12 و14 و15، وقد تم إعادة انتاج هذه الخرائط ومراجعتها لدعم الأعمال السياسية لمختلف القوى عبر قرون متعددة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، أعاد كلود رينيه كوندر إنتاج خريطة بطليموس لصالح صندوق استكشاف فلسطين، واستخدمت في دعم طموحات الإمبريالية البريطانية في الشرق الأدنى وفِلَسطين.

من فلستيا إلى مقاطعة سورية بالستينا 135 – 390 م

في الفترة ما بين عام 135 إلى 390 ميلادي، حَكم الرومان فِلَسطين، وفي عهدهم صارت واحدة من كبرى مقاطعات الإمبراطورية. وكانت اللغات المستخدمة في فِلَسطين اللاتينية والإغريقية، وتستخدمان في التجارة والإدارة والتربية والعمارة والدبلوماسية والنقود.

لم يكن للمفهوم الروماني والهدرياني عن فلسطين أيَة علاقة بالسرديات التوراتية أو سرديات العهد القديم عن الفِلِستيين بحسب دراسة نور مصالحة

في عام 135 م، ضم الإمبراطور هدريان (117-138 م) ولاية يهودا والسامرة والجليل في الشمال، وإيدوميا في الجنوب لتكوّن ولاية جديدة كبيرة أطلق عليها سوريا – بالستينا، وهناك من يقول أنه تم إنشاء الولاية الجديدة بعد هزيمة باركوخبا اليهودي في تمرده ضد هدريان عام 135 م.

ويؤكد مصالحة أنه لم يكن للمفهوم الروماني والهدرياني عن فلسطين أيَة علاقة بالسرديات التوراتية أو سرديات العهد القديم عن الفِلِستيين. بل أن الاعتبارات السياسية والعسكرية الاستراتيجية، والتاريخية الجغرافية هي التي كانت وراء رفع الرومان مرتبة بالستينا، وقد تم اختيار اسم فلستيا الذي عمره ألف سنة، وكان التسمية السياسية الأكثر شيوعًا لفلسطين.

وكان الكُتّاب اليهود أيضًا يعتمدون تسمية فِلَسطين ومفهومها، ولعلَّ أشهرهم يوسيفوس (يوسف بن متتياهو) وهو من مواليد القدس عام 37 م، والآخر فيلو الإسكندري (25 ق.م – 50 م)، وهو فيلسوف يهودي ومعاصر للمسيح، عاش في مقاطعة مصر الرومانية وأصبح أهم ممثلي اليهودية الهلّينية.

في عهد الرومان، برزت المدينة الساحلية كايسريّا ماريتيما أي قيساريّة، والتي كانت لقرون عاصمة فِلسطين، وواحدة من أهم المراكز الثقافية في منطقة البحر المتوسط، وقد حلّت عمليًا محل أثينا والإسكندرية كبرى مدن الإغريق. ولتمييزها عن كايسريّا فيليبي أو كايسريّا بانياس وكايسريّا كبدوقيا، صارت كايسريّا ماريتيما تُدعى كايسريّا بالستينا، وما بين القرنين الثالث والسادس تعاظمت شهرة أكاديميتها ومكتبتها ومفكريها. وقد وصف يوسيفوس في كتابه الحرب اليهودية قيسارية بالتفصيل لما كانت عليه المدينة من أهمية اقتصادية وسياسية لفلسطين الرومانية البيزنطية.

بروفِنسيا باليستينا – ثلاثة في واحد

ما بين القرن الرابع وأوائل السابع م

في عهد البيزنطيين، تطورت فِلَسطين الحضرية اجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، ومعماريًا، وأضحت النظرة إلى فِلَسطين على أنها المركز الروحي لدين قوي وذلك حتى بعد استقرار الكنيسة الكاثوليكيّة في عاصمة الإمبراطورية الرومانية.

بعد أن حلَّ البيزنطيون المسيحيون مكان الرومان في فِلَسطين، قاموا بتقسيم مقاطعات سوريا – بالستينا الرومانية السابقة، فكانت فِلَسطين الكبرى تتكون من بالستينا بريما (الأولى) وتضم فِلِستيا ويهودا والسامرة، وتمتد من رفح في الجنوب إلى خليج حيفا في الشمال وعاصمتها قيساريّة. باليستينا سيكوندا (الثانية) وتضم معظم الجليل ومرتفعات الجولان وأجزاء من بييرييا (شرق الأردن) وبعض مدن ديكابوليس وعاصمتها ما كانت تُعرف بـ سكيتوبوليس وهي الآن مدينة بيسان. والمقاطعة الأخيرة كانت بالستينا سالوتاريس (ترشيا* وقد أنشئت في القرن الرابع وصارت تُعرف ب بالستينا تريشا وتضم المقاطعة الرومانية السابقة وإيدوميا، والنقب (نيغيف) وأجزاء من سيناء وجنوب غرب شرق الأردن، بالإضافة إلى جنوب البحر الميت وآربيا بيترا (البتراء) وكانت هي العاصمة.

وما يثير الاهتمام وفق ما يذكر مصالحة هو أن تسمية الفلسطينيات الثلاث استُوحي من الفكرة الكلاسيكية والمسيحية الأولى، ثلاثة في واحد. وهي تشابه المفهوم الإغريقي – البيزنطي من حيث تثليث اللاهوتية التي أُقرّت ونُظمت في مَجمع نيقية عام 325 م.

كانت بالستينا بريما أكبر المقاطعات الثلاث، وأقواها اقتصاديًا وأكثرها تطورًا ثقافيًأ، وقد ظلّت قائمة من 390 م لغاية أوائل القرن السابع، وفي عام 614 م غزا الفرس الساسانيّون بالستينا بريما وسيكوندا. وفيما بعد، ما بين الأعوام 636 و638 خسر البيزنطيون سيطرتهم على الولايات الفلسطينية الثلاث دون رجعة أثناء الفتح الإسلامي لبلاد الشام وفِلَسطين، وصارت فِلسطين الكبرى التي كانت تضم كل من بالستينا بريما وسالوتاريس تُعرف بإسم ولاية جُند فِلَسطين.

عام 1099 اجتاح الصليبيّون الأوروبيّون (الفرنجة) فلسطين التي كان معظم سكّانها مسلمين، وقد وجدوا فيها مستوى ثقافيًا وتقنيًا من التطور لم تعرفه أوروبا في ذلك العصر. ونتيجة للخلاف بين الكنائس الشرقية والغربية عام 1054، قام الصليبيّون بتعيين بطريركًا لاتينيًا في القدس، وبسبب ذلك، اختار البطريرك الأرثودوكسي الشرقي أن ينتقل إلى القسطنطينيّة حتى عام 1187.

يشير مصالحة إلى أن التطور المدني وبناء المباني المدنية والكنائس في فِلسطين وصل ذروته في عهد جستنيان ما بين الأعوام 527 و 565 م. ولعلّ الدليل الأبرز لهذه الحضارة هو خريطة فُسيفساء مادبا التي تم اكتشافها عام 1884.

وتظهر الخريطة فِلَسطين، ومصر، والبحر المتوسط وفيها وصف مفصّل للمدينة المقدسّة إيليا كابيتولينا (القدس) وتحتوي أيضًا على أقدم خريطة مرسومة أصلية باقية لبالستينا البيزنطية. ومن الجدير بالذكر أن مادبا كانت تقع من ضمن ولاية بالستينا بريما وهي مقرًا لأبرشية مطران مسيحي.

ولعلَّ أبرز ما يُستخلص من هذه الخريطة ما تبينه من حدود بين مصر وفِلَسطين وأيضًا، ولعلّه الأهم، أنه لا يوجد ذِكر لكلمتي كنعان أو إسرائيل على الخريطة. وتعتبر الخريطة الدليل القوي على أن اسم بالستينا كان الاسم الرسمي للبلاد على مدى العصر المسيحي الأول وأواخر العصور القديمة.

تجتاح الصليبيّون الأوروبيّون (الفرنجة) فلسطين سنة 1099 ووجدوا فيها مستوى ثقافيًا وتقنيًا من التطور لم تعرفه أوروبا في ذلك العصر

ويذكر مصالحة بالتفصيل كيف كانت مدينة غزّة ذات أهمية بالغة في تلك الحقبة، حيث كانت تُعَدُّ مقرًا للأدب والبلاغة الكلاسيكيين يقيم فيها مجموعة من الباحثين الشهيرين، ومركزًا حَضريًا مسيحيًا ناجحًا ومُثَقِفًا لكل منطقة البحر الأبيض المتوسط.

كانت غزّة متأثرة فكريًا وثقافيًا بمزيج من التقاليد الهلّينية المختلفة، وقد أدّى الوضع المريح الذي كان يعم المدينة إلى نهوض متميز لمدرسة البلاغة التي كان يرأسها فلاسفة وخطباء مسيحييون من بينهم بروكوبيوس الغزّي (465-528 م) وتلميذه خوريكيوس الغزّي. في أواخر القرن الخامس وبدايات السادس، أصبحت غزّة مقرًا لمجموعة من السُفسطائيين والكُتّاب الكلاسيكيين والذين شكلّوا معًا ما صار يُعرف بمدرسة غزّة.

بالإضافة إلى الثقافة والفكر، برزت غزّة تجاريًا بشكل كبير، فكانت المدينة مَقصدًا أساسيًا للتوابل، والحرير، والسلع الفاخرة الآتية بالبر في قوافل من الشرق، وكانت المنتجات المحلية مثل النبيذ والفاكهة المجففة والكتّان تصدّر من غزّة إلى بقية العالم الروماني.

فلسطين العربية المسيحية

ما بين القرن الثالث والسابع الميلادي، وصل إلى فِلَسطين موجات مختلفة من العرب قادمين من شبه الجزيرة العربية، وقد تزايدت هذه الموجات بعد انتصار المسيحية في القرن الرابع وحينَ اعتمد الدين الجديد رسميًا في الإمبراطورية الرومانية. وقد نتج عن هذه الهجرات اندماج ما بين المجتمعات الغسّانية الوافدة بالمجتمع الفلسطيني عمومًا، وبالكنيسة الفِلَسطينية على وجه الخصوص. وقد انخرط العرب الاسماعليون (الغساسنة) بالمسيحيين واليهود في فِلسطين ناسبين أنفسهم إلى نسل إبراهيم.

يذكر مصالحة أنه ما بين القرن الرابع والسادس، سارت ولايات فِلَسطين الثلاث في عملية تعريب متدرجة وتحوّلت أجزاء واسعة منها إلى دول عربية تابعة للإمبراطورية البيزنطية، حيث كان لبالستينا بريما، وبالستينا سيكوندا، وبالستينا ترشيا جميعًا ملوك غَساسنة عرب مسيحيّون.

بعد أن استقر الغساسنة في بالستينا سيكوندا وبالستينا تريشا، أنشأوا دولًا وكيلة فاصلة للإمبراطورية الرومانية الشرقية وفيما بعد البيزنطية، وحاربوا إلى جانب البيزنطيين ضد الفُرس الساسانيّين وقبائل العرب المناذرة.

وقد أنشأ البيزنطيين خلال تلك الفترة نظامًا عُرف بنظام الأصيل – الوكيل، واستحدثوا لقب فيلارخ، ويعني حاكم عشيرة أو قبيلة كبيرة، وقد أعطي هذا اللقب السياسي للأمراء الحكام الغساسنة وحلفاء بيزنطة العرب الآخرين، كما عرّف المؤرخ بروكوبيوس القيصري الفيلارخ بأنه أي قائد للعرب متحالف بمعاهدة مع الرومان، وكان من ضمن النظام الذي إستحدثه البيزنطيون تعيين فيلارخ أعلى كملك على الفلسطينات الثلاث، بريما، سيكوندا وترشيا ويتبع له كل الفيلارخون الإفراديون العرب الآخرين.

استقر الغساسنة في بالستينا سيكوندا وبالستينا تريشا، أنشأوا دولًا وكيلة فاصلة للإمبراطورية الرومانية الشرقية وفيما بعد البيزنطية

ولعل أبرز من شغل هذا المنصب في ذلك الوقت بحسب مصالحة هو امرئ القيس، وكان يُعرَف في المصادر اليونانية بإسم أموركيسوس وكان قد وقّع معاهدة مع الإمبراطورية البيزنطية تعترف بوضعه بصفة متحالف وبأنه يسيطر على أجزاء واسعة من بروفنسيا باليستينا. ويشير الكاتب أيضًا أن امرؤ القيس فضّل أن يعمل في فلسطين ليصبح ملكًا لبالستينا ترشيا على أن يظل ملكًا في شبه الجزيرة العربية، وأنه فضّل البيئة الاجتماعية والثقافية في فلسطين على تلك التي كانت موجودة في الجزيرة العربية.

نور مصالحة مؤرخ فلسطيني مواليد الجليل عام 1957، له العديد من المؤلفات المشهورة منها "طرد الفلسطينيين – مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1992، وبالإنجليزية له: الكتاب المقدس والصهيونية (2007)، سياسات الإنكار (2003)، نكبة فلسطين (2012)، فلسطين: تاريخ أربعة آلاف عام (2018). يعمل حاليًا كبروفيسور وعضو مركز الدراسات الفلسطينية في لندن، وعضو مركز فلسفة التاريخ في جامعة سانت ماري، كما يعمل كرئيس تحرير دورية الأرض المقدسة والدراسات الفلسطينية التي تصدر عن جامعة ادنبرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فلسطين: اللد والرملة.. توأمان لفلسطين خالدان

مكتبة فلسطين: قبل الشتات.. التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 - 1948