26-مايو-2020

هالة عمار/ تونس

منذ بداية القرن العشرين ونعي الرواية ورثاؤها لا يتوقفان إلا ليظهر شكل آخر من أشكال تأبينها، فالرواية حسب المنظرين لمَوتها قد استنفذت كل طاقاتها ولم يعد أمامها إلا أكل نفسها، أو الانتحار باستنساخ ذاتها حتى الجنون أو التلاشي في الدوران، فلا شيء سيجعلها تستعيد ألقها.

يفقد الروائي بخروجه الفظ شيئًا من سحره، فثلاثة أرباع الغول سيرة غيابه لا حضوره

هذا السؤال حول مصير فن الرواية يعود اليوم في ظل مفارقة كبيرة؛ الهيمنة الكبيرة له على بقية أجناس الكتابة من ناحية وإخفاقاته الكبيرة وضمور غوايته وتحوله إلى كائن باهت لم يعد يفاجئ أحدًا بعدما كان عصيًا على الحد ككائن عجائبي إمبريالي يلتهم في وحشية كل شيء لكي يتجشأ في النهاية بصوته الغامض.

حشرجةٌ في صوته

هناك حشرجة في صوت الروائي لا ينكرها أحد. فهذا الوحش الكتابي لم يتعود الحديث للناس علنًا. كان فقط يحدثهم من وراء شخصياته الكثيرة ولذلك هو موجود في صدى صوته لا في صوته وغيابه عن ساحات الأدب التي سقطت منذ زمن في أيدي الشعراء شكّل جزءًا من غموضه الساحر، فيتصيد القراء أخباره من الإشاعات والأخبار، ولا أحد يمسك بالروائي متلبّسًا بالحضور المباشر إلا نادرًا.

اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون في قصائد "كما في السماء".. صورة عراق يتلاشى

لذلك ظل الروائيّ بلا صوت لاتكاليّته على ألسنة الآخرين، ويوم خرج للناس (عبر وسائل التواصل الاجتماعي وورشات الكتابة وقنوات اليوتيوب والتلفزيون) كان يعاني من حشرجة في صوته. حروفه متعثرة، لسانه يلحن وعيناه زائغتان مرتبكتان من الضوء كأهل الكهف وقد خرجوا للعالم بعد رقدة طويلة. خرج الروائي يكلم الناس بصوت شخصية واحدة من العامة بعد أن كان يكلمه بعشرات الشخصيات. وأمام نفور الجماهير حاول الروائي أن يقلد صوت الشاعر ليتحدث إلى الحشود، لكن الحشود سرعان ما اكتشفت أنه شاعر مزيف فأنكرته ليستجير بصوت الفيلسوف لكن أفكاره لا تخرج كأفكار الفيلسوف، لا مفاهيم مكثفة كالأحجيات، فيستجير في آخر المطاف بصوت الحكاء ليتحلّق حوله الناس لوقت قبل أن ينفضوا من حوله مع ظهور القرد على كتف الحاوي في الجانب الآخر من الساحة. لا مكان في الساحة يسع عرضَ الروائيّ. حركاته ثقيلة ويده لا تمتد لهم بالصحاف. الروائي مُتخَمٌ وعفيف أكثر من اللزوم والجماهير تريد أن تسمع حكاء جائعًا، والجماهير تصنع الحكائين بشروطها ولا تتحمل المتعففين. الحكاية عندهم في أولها استجداء والروائي سقط في الدرس الأول.

يفقد الروائي بخروجه الفظ شيئًا من سحره فثلاثة أرباع الغول سيرة غيابه لا حضوره. هذا الحضور الفج للروائي يحوله من نحات إلى خزاف بأقدام عارية ملطخة بالطين. والوحش حتى وإن كان حافيًا لا يترك لك الفرصة لكي ترى أصابع قدميه. ومن ثم فالمبالغة في الحضور وإنهاك الصورة في التغطيس في حامض سيفضي إلى تفسّخ الروائيّ لأنه كائن بلا جلد، ينوجدُ عبر الآخرين، الذين يشكلون حول جسده جسمًا صلبًا؛ قوقعة كقوقعة السلحفاة.

ظل الروائيّ بلا صوت لاتكاليّته على ألسنة الآخرين، ويوم خرج للناس كان يعاني من حشرجة في صوته

إن هذه الهشاشة التي خرج بها الروائي إلى العالم متخلّيًا عن قوقعة السلحفاة وصدفة الحلزون يجعله عرضة للخطر بل للفناء الحتمي، لأن جسده المائي لن يتحمل الفضاء الخارجي ولن يعطيه القوت ليشكل مثل الثعابين ثوبًا جديدًا. سيهاجمه الهواء وستحرقه الحرارة وينشف جسمه ويسكت صوت المتحشرج إلى الأبد إذا لم يعد فورًا إلى القوقعة.

الرواية عضت لسانها

أصبحت الرواية بتبجحها تتكلم بلسانه معوضة علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، وحتى العلوم الصحيحة والدين، وهي بذلك أصبحت تقدم نفسها باعتبارها خطابًا شموليًا، غير أن هذه القوة التي تبدو عليها في الظاهر سببًا من أسباب هشاشتها لأنها أهملت الناقص والفردي والمختلف، وهي وإن حاولت الالتفات إليها أقحمتها في خطاب أقلي يعني الجماعات الصغيرة عرقية أو جنسية أو غيرها. ولا تتعامل معها كحالات فردية أصيلة.

اقرأ/ي أيضًا: خمسون عامًا على الرواية الأولى لنور الدين فارح

استنزفت الرواية نفسها في ما نلاحظه من ترديد مواضيعها. فما يعرف بالثيمات عجّل في تجفيف الرواية ومحاصرتها في أهداف بعينها. لقد تخلت الرواية عن الإنسان واعتنقت ديانة حقوق الإنسان. تقول الإيرلنديّة إيريس مردوخ: "من المدهش أن الأدب الحديث، وفن الرواية تحديدًا، المعني كثيرًا بالعنف، يحتوي على صور قليلة مقنعة للشر، وعجزنا عن تخيل الشر هو نتيجة لتصورنا الدرامي المتفائل والساذج عن أنفسنا التي نكتب عنها".

استنزفت الرواية نفسها في ما نلاحظه من ترديد مواضيعها. فما يعرف بالثيمات عجّل في تجفيف الرواية ومحاصرتها في أهداف بعينها

أصبحت الرواية تقول توقعاتنا ولا تفشلها وهذه بداية النهاية. نحن نعلم جيدًا أننا على حافة موسم كبير مع أدب الديستوبيا الجديد إثر جائحة الكورونا وستغرق المكتبات والتلفزيونات بالحروب البيولوجية والذكاء الاصطناعي، لأن الواقع يصنع ثنايا أصبحت معلومة للفنون والرواية تحديدًا. فلماذا على الرواية أن تقول القضايا التي يقولها الناس جميعًا مع أن كل فرد من هذا الجميع يفكر بأشياء أخرى فردية جدًا، ويعلم جيدًا أن تلك القضايا التي يلهج بها أيديولوجية وسياسية وقومية وجنسية ليست قضاياه الحقيقة، وأن جسده وفكره يضجان بحاجات أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: النجاة بالكتابة.. هكذا فعل ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي في العزل القسري

هل خدع المتلقي الروائي وورطه في الوهم؟ لماذا على الروائي أن يعيش في القفص ويتحمل أن يبقى في فصل الدراسة وينتقل كل سنة من قسم إلى آخر بأمر يوقعه المدير ومجلس القسم؟ لماذا لا يقفز الروائي من النافذة في أول أيام الدراسة كالمغربي محمد المرابط لينتصب في العالم روائيًا أميًا؛ لوحة مجمّلة بالبراز أو الروث؟ ليقول أمرًا غير متوقع ولا يردد زيف الأصوات في الخارج؟ لماذا لا يتوغل الروائي كريشة سلفادور دالي الحادة في عمق أحشاء الكائن ليخرج لا وعيه الذي يخفيه وراء صياحه في المظاهرات السلمية؟ لم لا ينتزع الروائي سكينًا من مطبخه ويشق قلبه ويستنطق سواد الدم الذي سيهاجمه؟ لماذا يطرب الروائي إلى سماع تلك العبارة الساذجة التي تقال له دائما: "كأنك كنت تكتبني في روايتك"؟ أليس مطالبًا بكتابة شيء آخر يجعل ذلك القارئ يصاب بالرعب والهلع وهو يرى لأول مرة أحشاءه بين يديه؟ لماذا على الرواية أن تظل تحمل رسائل صفراء كساعي بريد تائه منذ قرن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أدباء جرّدوا من جنسياتهم

نيتشه.. فلسفة التخفّي