03-ديسمبر-2019

لوحة مستوحاة من رواية الأمير الصغير (etsy)

ترغمنا كلُّ روايةٍ عظيمةٍ على أن نضربها مثالًا على الكتابة نفسها، إلى الدرجة التي يصبح فيها استشهادنا بإحدى تلك الروائع نوعًا من إعلان فهمنا لفنّ الرواية. ومهما ذكرنا من أعمال مختلفة في المناخات والسياقات والمواد التي استُمِدتْ منها، مثل "الأمير الصغير" أو "الإخوة كارامازوف" أو "عرس الزين" أو "العمى".. فإنّ ما يجمعها أكبر من العوائق التي يمثلها اختلاف لغاتها ومواضيعها وزمان أحداثها، كونه يأتي أساسًا من الهالة الفكرية والشعورية التي تخلقها شخصياتها. عظمة الرواية في أعيننا تأتي من هنا، وتكمن في هذه النقطة المحورية، لأنها مبتدأ الأشياء ومنتهاها، ذلك أن الشخصية تكثّف ما تريد الرواية الذهاب إليه، وحولها تدور الحكاية، ومنها تنبثق الأسئلة، وتأخذ الحوارات مداها من قوة الإمساك بجوهرها النفسي.

ترغمنا كلُّ روايةٍ عظيمةٍ على أن نضربها مثالًا على الكتابة نفسها، إلى الدرجة التي يصبح فيها استشهادنا بإحدى تلك الروائع نوعًا من إعلان فهمنا لفنّ الرواية

لعل ما يعطي الرواية سحرها هو القدرة التي تكتسي بها الكلمات والجمل والصفحات، والكتب في حالة الروايات المسلسلة، على أن تكون مسافات نقطعها داخل الشخصيات، بأفكارها وهلاوسها وقصصها، بحيث تصير كل خطوة اقتراب مما لم نكن نعرفه، وذهاب إلى ما لم نكنْهُ يومًا. تلك الهالة التي تحيط بالشخصية تجعلنا قريبين منها بمقدار ما تجعلنا قريبين من أنفسنا، أو تجعلنا قريبين لأنها أبعدتنا عن أنفسنا، إن لم تُنسنا إياها.

اقرأ/ي أيضًا: مقدمة في تطوّر الرواية الأوروبية الحديثة

ثمة روايات ترمينا في مواجهة شخصيات جديدة، نستكشف أغوارها العميقة، ثم تجبرنا ألّا نتعامل مع الشخصيات النسائية الكثيرة أننا نعاين وحسب، ولا نسمع صوت المرأة وحسب، لأنها تفعل ما هو أكثر من ذلك، إنها تجعلنا نساء. كيف؟ لماذا؟ هل لأنّ من يروي هو امرأة؟ أم لأن النص يحتوي على نساء من كل الطبقات الاجتماعية؟ هل لأن هؤلاء النسوة تكلمنّ؟ هل لأنهنّ ارتبطن بأفكار اجتماعية وسياسية؟ الأمر بسيط على الرغم من كل ما يحيط به من تعقيد، ففرضية أن نكون امرأةً هنا فرضية يمكن أن نستبدلها بفرضية أن نكون مجرمين ولصوصًا بذات المقدار، لأنّ زخم الحكايات بعناصره التي تبني حياة أمامنا، يجعلنا نعيشها، ثم نأخذ بتبني ما يحدث أمامنا، ونتشارك معها همومها وقلقها، بالتالي نكونها.

المرأة التي نكونها، ولنأخذ مثالنا من رواية عظيمة مثل "صديقتي المذهلة"، ليست جسدًا يلد، أو يمارس الجنس، تلك أشياؤها هي، أما نحن فامرأة عركتها الحكايات التي عركتها منذ السؤال الأول، والحب الأول، إلى أن أخذتها الحياة في متاهات فادحة، ولأننا نرافق كل ذلك كله عن كثب نصير المرأة التي صارت حكاية، لأن الحكاية صارت مصيرًا، لا يمكننا بعد التورط فيها إلا الانتماء إليه.

تلك الهالة التي تحيط بالشخصية الروائية تجعلنا قريبين منها بمقدار ما تجعلنا قريبين من أنفسنا

في خضم روايات مثل هذه، لا نعود نبالي في كون المكان الذي تدور فيه هو مدينة نابولي الإيطالية، مثلما لا نبالي بأن المكان الذي تدور فيه "مقبرة الكتب المنسية" هو برشلونة الإسبانية بدايات القرن الماضي وأواسطه، فالمكان يتراخى بين أيدينا. كما لا تعود نبالي بغرابة الأسماء القادمة من ثقافات أخرى، فعلى الرغم من صعوبة التلفظ بها، وعدم التأكيد من أننا نقولها كما يجب، نشعر أن هؤلاء ناسنا وأهلنا، فالأسماء أيضًا تتراخى.

اقرأ/ي أيضًا: الرواية بحسب ميلان كونديرا

تفعل الروايات ذلك كلما وطّدت علاقاتنا نع شخصياتها، فلا يعود المكان مجرد حيز فيزيائي، تبنى فيه علاقات إنسانية في شرط إنساني واجتماعي، ولا تعود اللغة مرتبطة بمفردات محلية بمقدار ما تكون عالمًا على الدواخل الإنسانية، وبهذا تخلق هذه الروايات نوعًا من المواطنة المفتوحة التي تجعل من إمكانية عيش هؤلاء في مكان آخر، وزمن آخر، ولغة أخرى، احتمالًا واردًا بقوة، وهكذا سنرى أن نابولي التي رأيناها في "صديقتي المذهلة" وبرشلونة "مقبرة الكتب المنسية" ليست مدنًا على الخرائط، تلك التي لها تاريخها وجغرافيتها ومجتمعاتها، بل هي ما رسمته السطور، وما بنته الحكايات في شخصيات محدّدة، وهذه المدن لا يعرفها أحد كما يعرفها قرّاء تلك الروايات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أشياء على سطح الرواية

إلى أيّ مدى تقتفي الرواية أثر الواقع؟