05-نوفمبر-2023
مستوطنون يهود قرب قرية دير شرف في نابلس

صعّد المستوطنون اعتداءاتهم بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية (Getty)

هذه ترجمة لتقرير في صحيفة "فايننشال تايمز" عن اعتداءات المستوطنين بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية.


في الليلة التي شهدت إعلان "إسرائيل" الحرب على "حركة حماس" في قطاع غزّة، هبط عشرات المستوطنين اليهود المسلحين إلى قرية وادي السيق الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.

ارتعدت فرائص أطفال القرية خوفًا حينما أخبرهم أهاليهم بأنّ المستوطنين انتزعوا ثلاثة رجال من أكناف عائلاتهم، وخلعوا عنهم ملابسهم الداخلية، ثم عصبوا أعينهم بتلك القمصان وتناوبوا فيما بينهم على ضربهم والاعتداء عليهم. ولمّا ناشدهم أبو حسن، وهو راعٍ بدوي عمره 58 عامًا، مسترحمًا إياهم ومشيرًا إلى ندبة قديمة لعملية جراحية في القلب، ضرب أحد أولئك المستوطنين صدرَه بعقب بندقيته، ثم بال عليه.

تعرّض 1512 فلسطينيًا للاعتقال منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، بينهم قرابة 700 شخص محتجز دون توجيه أي اتهامات بحقهم

يستذكر أبو حسن صيحاتهم وهم يصرخون في وجوههم: "ارحلوا من هنا، اذهبوا إلى الأردن أو غيرها وإلا قتلناكم". وسرعان ما انهمكت بعدها عائلات القرية الثلاثون في جمع ما وسعهم من حاجياتهم، ثم مضوا وخيّموا في سهل منبسطٍ على مسافة ساعتين من بلدة الطبية. كانت خيامهم تتمايل في مهب الريح، فقد طُردوا من منازلهم التي عمّروها طوال الأعوام الإحدى والعشرين الماضية، وهم إلى ذلك في خوف وترقب من السيارات التي تقترب منهم. وفي لحظات كهذه يتساءل السيد محمد عرارة، ذو الأعوام الثمانية والستين، عن حالهم تلك فيقول: "ما مصيرنا؟".

لمّا شن الجيش الإسرائيلي حربه على قطاع غزة الواقع تحت سيطرة "حماس"، شدد إجراءاته الأمنية المفروضة على الضفة الغربية، التي احتلها سنة 1967، فأصحبت المنطقة خاضعة لغطاء أمني مشدد. واتّبع الجيش الإسرائيلي أساليب وتكتيكات جرى تطبيقها سابقًا خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أو الانتفاضة التي اندلعت شرارتها عام 2000، فحظر التنقل والسفر بين المدن، وأغلق منافذ بعض مخيمات اللاجئين، وأرسل قواته إلى قلب المدن الفلسطينية مثل جنين ونابلس، ساعيًا بذلك إلى تحقيق هدفه الرامي إلى القضاء على القوات المسلحة الوليدة هناك.

وتندلع هناك مواجهات مسلحة متقطعة كل بضع ساعات، وقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى التعويل على الإسناد الجوي للمرة الأولى منذ أعوام لدعم توغلاته البرية ضمن مخيمات اللاجئين، التي تشهد نشاطًا كبيرًا لسوق الأسلحة السوداء على حد زعم أحد المهربين.

وكانت دولة الاحتلال الإسرائيلي قد شنّت هجومًا جويًا وبريًا على قطاع غزة في أعقاب الهجمات التي شنها مقاتلو "حركة حماس" على مواقع عسكرية إسرائيلية يوم السابع من شهر أكتوبر الماضي. ووصِفَ هذا الهجوم بأنه الأعنف في تاريخ دولة الكيان، وأعقبه هجوم إسرائيلي واسع النطاق على القطاع المحاصر، فأفضى إلى مقتل ما يربو عن تسعة آلاف فلسطيني في قطاع غزة بحسب مسؤوليين فلسطينيين.

وتشير بيانات السلطات الصحية المحلية في الضفة الغربية وبيانات الأمم المتحدة إلى مقتل نحو 125 شخصًا في الضفة على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين خلال الأسابيع الماضية. ولم يكتفِ المستوطنون بهذا الأمر، بل عمدوا إلى تهجير قرابة ألف فلسطيني وإجبارهم على ترك قراهم الموجودة في رقعة واسعة تعرف بالمنطقة (ج)، حيث تكون السلطة المباشرة للجيش الإسرائيلي.

ولا شكّ أنّ هذه القيود المشددة أثارت احتجاجات كبيرة استقطبت آلاف الأشخاص، في حين ارتأى بعضهم ملازمة المنزل خشية الحضور البارز والكبير للجنود الإسرائيليين. وفي هذا السياق، يقول جمال (28 عامًا)، وهو مواطن خسر وظيفته في القدس لأنه عجز عن مغادر الضفة الغربية بسبب تلك القيود: "لقد وضعونا في طنجرة ضغط، ثم أشعلوا النار تحتنا".

وتزامنت هذه الصعوبات والقيود مع تصعيد المستوطنين لاعتداءاتهم بحق الفلسطينيين، لا سيما الذين يعيشون منهم في مناطق وقرى نائية. وكان الاتحاد الأوروبي قد وصف هذه الاعتداءات بأنها "إرهاب استيطاني"، وهو إلى ذلك طالب "إسرائيل" بكبح جماح المستوطنين.

وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى تضاعف اعتداءات المستوطنين منذ السابع من أكتوبر؛ إذ وثّقت جماعات حقوق الإنسان، ومنها منظمة "ييش دين" الإسرائيلية، ارتفاع الحالات التي ظل فيها الجنود الإسرائيليون- ومنهم المستوطنون الذين دعوا للالتحاق بالخدمة الاحتياطية- متفرجين على هجمات المستوطنين، أو تدخلوا لمساعدتهم فيها.

هجّر المستوطنون قرابة ألف فلسطيني من قراهم الموجودة في المنطقة (ج)، حيث السلطة المباشرة لقوات الاحتلال

وتقول ياهاف إيريز، منسقة الدعوة الدولية في منظمة" ييش دين": "يدرك المستوطنون في قرارة أنفسهم أنهم يحظون بالحصانة حينما كانوا مدنيين، وهم يحظون بها أيضًا حينما أصبحوا جنودًا في الجيش"، وتشير إيريز إلى ندرة حالات العنف التي ارتكبها المستوطنون أو الجنود وحُقِّق فيها، فضلًا عن ملاحقة المجرمين قضائيًا.

وتقول المنظمة إنها نجحت في تحديد هوية مواطن إسرائيلي خضع للاستجواب بخصوص هجمات على الفلسطينيين، وأتى هذا الاعتقال عقب يوم واحد من كلام الرئيس الأمريكي بايدن بضرورة "محاسبة" المستوطنين المتطرفين. في المقابل، تعرض نحو 1512 فلسطينيًا للاعتقال منذ 7 أكتوبر الفائت حسبما أفادت به بيانات السجون المقدمة إلى "هموكيد"، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية؛ ومن المعتقلين قرابة 700 شخص محتجز دون توجيه أي اتهامات بحقهم.

ويشارك المستوطنون بابتهاج فيديوهات الاعتداءات على قنوات "تلجرام" التي تضم آلاف المشتركين؛ فعلى سبيل المثال، نشر أحد المستوطنين المعتدين فيديو الاعتداء على أبي حسن، في حين انتشر فيديو آخر من مدينة الخليل يظهر فيه رجال يرتدون الزي العسكري الإسرائيلي، ويضربون بسرور رجالًا فلسطينيين مقيدين ومعصوبي الأعين ومنزوعي الملابس بمعظمهم.

ويظهر في الفيديو شخصٌ ينحني ويركل فلسطينًا أعزل على الأرض، ولو دقق المرء بالمشاهد، لرأى القلنسوة المحبوكة التي يفضل المستوطنون القوميون المتدينون وضعها على رؤوسهم دومًا. وفي أعقاب هذه الحادثة، خرج جيش الاحتلال بتصريح مفاده "أنّ استعراض القوة في المشاهد لا ينسجم مع أوامر الجيش"، وأكد أنهم سيحققون في الحادثة. 

واللافت للانتباه امتناع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي- ريتشارد هيشت- عن الرد على الاستفسارات المرتبطة بحوادث الاعتداء، وهو إلى ذلك قال سابقًا إنّ: "الجيش الإسرائيلي يتمتع بالسيادة في يهودا والسامرة"، فهو أورد في كلامه الوصف الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية. ولكن إذا كان الجيش الإسرائيلي صاحبَ السيادة في تلك المنطقة، فهو إذًا ملزم بمقتضى القانون الدولي والإسرائيلي بحماية المدنيين، ومنهم الفلسطينيون.

ولا ريب أنّ عمليات الإغلاق والقيود أفضت إلى تفاقم حالة الركود في اقتصاد الضفة الغربية؛ فالمار بالطريق الواصل إلى نابلس لا يسعه إلّا أن يلاحظ انقلاب الحال في مدينة حوارة التجارية، التي قفرت شوارعها وجابت الكلاب الضالة وجنود الاحتلال شوارعها المهجورة. وعلى حيطان الشوارع ملصقات فيها صورة أسد تقتبس آيات تلمودية وظفها الإسرائيليون منذ أمد طويل لتسويغ عمليات القتل الوقائي وهي: "انهض واقتل أولًا".

وكان بتسلإيل سموتريش، وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، أجرى بعض الخطوات لإيقاف تحويل 500 مليون دولار أمريكي إلى السلطة الفلسطينية التي تتولى إدارة شؤون الضفة الغربية؛ ومن شأن هذه التصرفات أن تلحق خسائر كبيرة باقتصاد الضفة. وتَعمَد دولة الاحتلال إلى جمع أموال الجمارك والضرائب الأخرة بدلًا من السلطة الفلسطينية، التي تكرّس هذه الأموال لدفع الرواتب وتنظيم إدارتها المحدودة للمنطقة. وسبق لسموتريش القول: “لن نُحوّل الأموال إلى هذا العدو الخسيس”، قاصدًا بكلامه هذا السلطة الفلسطينية.

ويحذر مراقبون دوليون وفلسطينيون من تفجر الأوضاع في الضفة الغربية، لا سيما في ظل استمرار قطع الأموال عن السلطة الفلسطينية، وتشديد الخناق على الاقتصاد والتهجير القسري للفلسطينيين، ومنع المستوطنين للفلسطينيين من الذهاب إلى موسم قطاف الزيتون السنوي في شهر أكتوبر.

وفي هذا السياق يقول السياسي الفلسطيني جمال الطيراوي: "لن تظل الأوضاع في الضفة الغربية هادئة بتاتًا، فهم يفصلوننا عن بعضنا ويفصلون بين المدن ومخيمات اللاجئين والقرى. إننا نشهد حقبة جديدة أمام أعيننا؛ فالمستوطنون يرون الآن فرصة سانحة للقضاء على المشروع الفلسطيني برمته، وقصّ جناحيه في غزة والضفة الغربية".

وأفضت حوادث الاعتداء الأخيرة إلى خسارة بعض العائلات الفلسطينية لعدد من أفرادها، ومنهم عبد الحكيم وادي (52 عامًا) الذي تعرض أخوه وابن أخيه للقتل؛ ففي يوم 11 أكتوبر، أطلق مستوطنون الرصاص على أربعة أشخاص من قرية قصرة، فعزم شقيقه إبراهيم وابنه أحمد (26 عامًا) على المساعدة في الجنازة.

وينحدر كلا الرجلين من عائلة سياسية مرموقة في البلاد؛ فغرفة المعيشة في منزلهما مزينة بصور لقاءاتهما مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس. ومعروف عن إبراهيم عمله في مجال الكيمياء، في حين كان أحمد طالبًا في كلية القانون.

وفي يوم الحادثة، قصد الرجلان مستشفى قريب ضمن موكب صغير ضمّ سيارات إسعاف لنقل القتلى، وهم بذلك أملوا أن يتفادوا المستوطنين الذين يعيشون على مقربة من أراضي القرة المصادرة. وفي طريق العودة طلب منهم ضابط اتصال إسرائيلي تغيير مسارهم.

استُشهد نحو 125 شخصًا في الضفة الغربية بنيران جيش الاحتلال والمستوطنين خلال الأسابيع القليلة الماضية

ويقول السيد وادي إنّ السيارة مضت نحو الكمين مباشرة، حيث سدّ المستوطنون الطريق أمامهم وأحرقوا الإطارات، وما هي إلا لحظات قليلة حتى باغتتهم رصاصات البنادق والمسدسات من بستان زيتون قريب، وعن ذلك يقول السيد وادي: "كانوا يصرخون بملء أفواههم: احرقوا سيارات الإسعاف، احرقوا الجثث".

وتبين اللقطات التي صورتها كاميرا السيارة الأمامية جنودًا إسرائيليين يطلقون النار على مقربة من الفلسطينيين، حيث قال وادي إن شقيقه حاول إفساح الطريق لمرور سيارات الإسعاف. وفي تلك اللحظة استدار ورأى شقيقه يتهاوى على الأرض جرّاء الرصاص، في حين انطلق ابن أخيه نحو سيارته لكن الرصاص قتله قبل بلوغه إياها. يقول وادي بنبرة حزينة: "لقد قتلا في غضون ثوانٍ معدودة. إنني لست مؤيدًا لحماس، فانظر ما فعلوه بنا".