21-فبراير-2020

تطور في لبنان خلال مرحلة ما بعد الحرب الأهلية نمط ريعي غير مستقر (أ.ب)

في عام 2000، تحرر الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن اغتيال الحريري قد وقع بعد (2005). وباستثناء وجود الجيش السوري في لبنان، فإن هذه الفترة، من الناحية "الأمنية"، كانت فترة السِلم في أقصى مراحلها، بعد فترات الاحتراب الطويلة. لكن في "عز" الحرب الأهلية اللبنانية، لم تترنح الصناعة اللبنانية، مثلما ترنحت في "عز" السلم. تحول الاقتصاد في البلد من الزبائنية التي طورت نفسها خلال الحرب، إلى ريعية طورت نفسها خلال السِلم، واكتملت أخيرًا بتحكم القِلة في اقتصاد ليس منتجًا وحسب، بل ربما ليس جاهزًا لقبول فكرة الإنتاج من أساسها.

 في "عز" الحرب الأهلية اللبنانية، لم تترنح الصناعة اللبنانية، مثلما ترنحت في "عز" السلم. تحول الاقتصاد في البلد من الزبائنية التي طورت نفسها خلال الحرب، إلى ريعية طورت نفسها خلال السِلم

الليبرالية الممسوخة

لبنان ليس بلدًا صناعيًا، وطبيعة اقتصاده الريعية قبل تحولاتها القاسية، لا تتكل على ريوع محددة مثل النفط وغيره. مصدر الريعية كان عبارة عن مداخيل ثابتة ومتحركة. لكن، لا يحتاج أحد إلى معرفة عميقة بالاقتصاد لكي يعرف أن الطبيعة الريعية لا تعمّر طويلًا، إلا في حال استثمرت العائدات لتحفيز معدلات النمو، وليس لإنفاقها كفوائد على الدين العام، الذي تستفيد منه طبقة قليلة بالكاد تُرى.

اقرأ/ي أيضًا: "يسقط حكم المصرف".. عقدة رياض سلامة في منشار الاقتصاد اللبناني

ولا يحتاج أحد إلى هذه المعرفة، ليعرف أن الطابع الريعي للاقتصاد، ومع مرور الوقت، يؤدي إلى شرخ بين الدولة كمؤسسة وبين المجتمع، خاصةً في ضوء الأنظمة الضريبية التي تعزز من الفروقات الاجتماعية. وإن كانت بعض الدول التي تتكل على الريعية وليس على الإنتاج، مثل الدول النفطية، قادرة على تغطية نفقاتها بسبب تدفق الريوع، فإن دولة غير منتجة كلبنان، لا يمكنها تدبر نفقاتها من الدين، أو بما هو أخطر، مثل الحديث عن الخصخصة في الآونة الأخيرة.

أما الفكرة الأخيرة الناتجة عن الاتكال على الريعية، فهي نابعة من صلب أي نظام اقتصادي، أي مسألة تدوير الثروة في البلدان التي تلهث لتحقيق النمو ضمن محددات النمط الرأسمالي للإنتاج. ذلك أن الريوع ليست "لوجه الله"، كما أن الطبقة الريعية قادرة على تطوير نفسها وتوسيع خريطة مصالحها على حساب مصالح الأكثرية التي تخسر من غياب دورة إنتاجية حقيقية. وحسب كثير من الاقتصاديين، فإن لبنان تجاوز مرحلة الريعية إلى ما هو أسوأ، ومنذ فترة تعود إلى ما قبل الحرب، بدأت ملامح "النيوليبرالية" تتشكل بوضوح، بتراجع مشاركة القطاع العام في الحياة الاقتصادية وبتراجع إنفاقها على الخدمات الأساسية، مقابل المزيد من الاتكال على الأموال الآتية من الخارج لحساب قطاعات "خدماتية". الليبرالية اللبنانية "الممسوخة"، بشكلها الريعي الظاهر وتحولاتها الشنيعة، تجعل الحديث عن اقتصاد "منتج" اليوم، أشبه بالحديث عن بناء أهرام عملاقة في الصحراء.

ما يمكننا الحديث عنه، هو السياحة والمصارف، كقطاعين ظنّ اللبنانيون لوقتٍ طويل أنه يمكن الاتكال عليهما للعيش ولصناعة اقتصاد يوفر عدالة ما، أو حدّ أدنى من مقومات العيش للجميع. كان وهمًا كبيرًا، لا أحد يمكنه أن يفهم كيف عاش طوال هذا الوقت. كان هذا الوهم متداولًا، لدرجة أن الكتب المدرسية اللبنانية كانت تقول عن لبنان: "اقتصاده يعتمد على السياحة والخدمات". اليوم، سنجد مئات الخرّيجين أو ربما الآلاف، في اختصاص مثل "إدارة الأعمال". وستجد عشرات الشبان والصبايا، الذين يهتمون بمظهرهم، لأنهم يتوقعون أعمالًا في الـMarketing والـSales. وإلى جانب هؤلاء، هناك مهن "الطبقة الوسطى"، مثل المحامين والمهندسين والأطباء وأساتذة الجامعات، إلخ. لكن سيرة الحرفيين مثلًا، لا ترد على لسان اللبنانيين، إلا عندما يتذمرون بسخافة من "سيطرة" العمال الأجانب على سوق العمل.

تصفية القطاعات المنتجة

ثمة أمثلة كبيرة على "تبخر" الإنتاج، يمكن ذكر اثنين منها، لأن عرضها سيحتاج إلى دراسة مفصلة. المثال الأول، معامل النسيج. حسب إحصائية لجمعية الصناعيين اللبنانيين، فإن 593 مصنعًا لصناعة الألبسة أغلقت في ثلاثة أعوام فقط، منذ العام الأخير في العقد الأول من القرن الحالي (1999)، وصولًا إلى عام 2002. ثم كرّت السبحة، وفي العامين التاليين، انتهى أمر 312 مصنعًا. من أصل 1300 مصنع تقريبًا، تبقى 300 فقط. مرّ عامان، وجاءت الاعتداءات الإسرائيلية في تموز 2006، لتقلص العدد الذي تبقى إلى ثلثيه. في منتصف الألفية، وفي غضون 6 سنوات، من 2000 إلى 2006، كان الانهيار في القطاع ماثلًا بوضوح، لكن أحدًا لم يشأ أن يرى.

من بين أكثر من ألف مصنع، بقي ما يقارب المئة فقط. أحد الصناعيين يقول إن الحديث عن مئة مصنع لصناعة الملبوسات اليوم في لبنان هو رقم "خيالي"، مفترضًا أنه لا يوجد سوى 10 بالمئة من هذا الرقم اليوم. ما يعرفه "ضحايا" هذه المهنة، أن القرارات الحكومية التي تعود إلى ما قبل 2005، قضت بالسماح باستيراد ألبسة مستعملة. لكن هذه الألبسة لم تكن تباع على هذا الأساس، بل كانت جديدة تمامًا، على نحو جعل منافستها من السوق المحلية صعبًا جدًا. وطبعًا كانت "إعادة تدويرها" تتم من مجموعة تجار "مدعومين" بالمحاصصة من سياسيين نافذين.

غرزت الأوليغارشية أنيابها تدريجيًا في هذا القطاع. وحتى اليوم، هناك من التجار من يتحدث عن بضائع تصل إلى لبنان "بالكيلو"، على أساس أنها ثياب مستعملة، ثم تباع بأسعار باهظة. لم يعد هناك أي منافسة. وإذا تأخرت الأسئلة إلى هذه الدرجة، فتأخر الأجوبة متوقع أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الوقود تتفجر في لبنان وأهل الحكم "خارج التغطية"

المثال الثاني، الألبان والأجبان. لطالما كان هذا القطاع مصدرًا هامًا للعديد من اللبنانيين في الهوامش، أي خارج المدن الكبيرة، التي يسيطر عليها نمط اقتصادي ليس له أي معنى في الأرياف. ثلاثة أرباع عدد الأبقار المنتجة، موجودة في البقاع تحديدًا، على مقربة من الحدود مع سوريا. والبقاع هو من الأقاليم اللبنانية المهمشة اقتصاديًا إلى درجة رهيبة. حسب إحصاءات الأمم المتحدة، في أوائل العقد الفائت، ويمكن الافتراض أن شيئًا لم يتغيّر، يتبين أن غالبية المزارعين في البقاع هم من الفئات الأكثر فقرًا (تصرّ الأمم المتحدة على تصنيف الناس كفقراء وأكثر فقرًا للإيحاء بأن الفقر يمكن أن يكون امتيازًا).

لا ترد سيرة الحرفيين مثلًا، على لسان اللبنانيين، إلا عندما يتذمرون بسخافة من "سيطرة" العمال الأجانب على سوق العمل

بعد حرب تموز، تضرر هذا القطاع بشدة هو الآخر. ثلث الأبقار نفقت خلال الحرب، وطبعًا لم يعوّض أحد. مؤخرًا، وبعد عدة دراسات لمصلحة مياه نهر الليطاني، تبين أن النهر ملوث أيضًا من البقاع إلى الجنوب. الحديث عن اقتصاد "منتج" على ضفاف الليطاني الملوث، في هذه الظروف، وفي ظل سيطرة الأوليغارشية على لبنان، يجعلنا نفترض أن الحلول التي تدور في ظل سيطرة هؤلاء على الاقتصاد وعلى البلاد ستكون إما "خصخصة النهر"، أو محاولة بيع مياهه في غالونات!

 

اقرأ/ي أيضًا:

العمال في لبنان.. تحميل أعباء الأزمة الاقتصادية على الحلقة الأضعف

اقتصاد لبنان.. ما ذنب اللجوء؟!