16-ديسمبر-2019

ستعيد عودة الحريري لبنان إلى ما قبل الانتفاضة (Getty)

إذا أخبرت أي لبناني اليوم، أن ثمة عجز في الميزان التجاري، فقد يتفاوت رد فعله تبعًا لدرجة معرفته بماهية الميزان التجاري، وكيفية حسابات الربح والخسارة.  لكنه غالبًا لن يستغرب أن يكون الميزان خاسرًا، بل خاسرًا لدرجة هائلة، حيث تبلغ قيمة الصادرات اللبنانية تقريبًا 3 مليارات دولار، بينما يستورد اللبنانيون ما قيمته 17 مليار دولار، أي تقريبًا تسعة أضعاف ما يصدّرون.

هكذا هو الجو في لبنان هذه الأيام. هناك فئة قليلة تنتظر الاستشارات، والفئة الكبيرة صارت خارج هذه المعادلة، ولم تعد تنتظر شيئًا من سلطة غير شرعية

ليس العجز الرهيب هو ما قد يثير الاستغراب، بقدر ما أن كثيرًا من اللبنانيين العاديين، من غير المهتمين بالاقتصاد، قد يسألون أنفسهم ما الذي يمكن لبنان تصديره أصلًا لتصل قيمته إلى 3 مليارات دولار أمريكي. صحيح أن الناس ليسوا خبراءً في الاقتصاد، لكنهم اعتادوا باريس 1، وباريس 2، واعتادوا الحديث عن الدين، وعن أن لبنان دولة مديونة. قبل الانتفاضة، بدت الأمور كما لو أن جزءًا كبيرًا صدّق أن الدين هو قدر اللبنانيين، وأن "سيدر" هو الحل، أي المزيد من القروض والديون. ومن أهم المكاسب المعنوية للانتفاضة، هو سقوط هذه السياسة التي صارت ثقافة. الدين ليس حلًا، الدين كالأغلال.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيسّمي "حزب الله" الحريري لرئاسة الحكومة؟

لكن مهلًا، الحريري عائد

ليس بعد، ربما. ربما صار رئيسًا في الكواليس. ربما تم الاتفاق. حسنًا، بعد تصريحات "دار الفتوى" وتحويل الموضوع إلى مسألة طائفية، سيعود عاجلًا أم آجلًا. قد يأتي ممثل عنه، شخص يسميه. لكن إن ليس الحريري، فالرئيس سيكون حريريًا. لديه ذات الأهواء، وذات الآراء، وذات الحلفاء، وذات الحلفاء الذين يتصرفون كخصوم، وذات العدة النيوليبرالية لإفقار من يمكن إفقاره.

هناك استشارات، ليست هناك استشارات. هكذا هو الجو في لبنان هذه الأيام. هناك فئة قليلة تنتظر الاستشارات، والفئة الكبيرة صارت خارج هذه المعادلة، ولم تعد تنتظر شيئًا من سلطة غير شرعية. الاستشارات هي اللقاءات التي يجريها رئيس الجمهورية مع النواب في البرلمان، لكي يسموا رئيسًا للحكومة. حدثت الاستشارات، لم تحدث الاستشارات. الأكثرية الشعبية لا تكترث، وليس لديها أي ثقة. والبرلمان بات يشبه البرلمانات العربية أكثر من أي وقت مضى. تجمع لممثلين عن مصالح السُلطة. وفي بلد مثل لبنان، ومنذ سنوات طويلة، بعد الحرب وخلال وجود الجيش السوري في لبنان وحتى بعد خروجه، يعد التوافق السياسي بين أقطاب طائفية ومن خلفها أوليغارشية حاكمة، على تشكيل الحكومة بموازاة آراء الدول الغربية، هو العامل الأساسي في تشكيل الحكومة، حتى وإن سميت تسمية طريفة: حكومة وحدة وطنية.

وعلى هذا الأساس، يعد خطاب أمين عام حزب الله الأخير ضروريًا لفهم مصير الحكومة، نظرًا لأن الحزب يُعد الحاكم الفعلي للبلاد. عاد نصر الله وأكد تمسكه بالحريري، في مقابل عقبة جبران باسيل الذي يرفض تياره المشاركة في حكومة يشكّلها الحريري، وإعلان الحريري نفسه عن عدم رغبته بتأليف أي حكومة إلا من "تكنوقراطيين"، أي لا تضم أشخاصًا من حزب الله ولا من التيار الوطني الحر، ولا سيما رئيسه جبران باسيل.

بالمعنى السياسي الذي كان سائدًا قبل 17 تشرين الأول، فهذا خلاف على الحصص أو في أفضل الأحوال معركة بين أخصام. لكن بالمعنى الحقيقي للكلمة، والذي تحقق بعد الانتفاضة، ونقل معركة اللبنانيين من معارك وهمية، إلى معركة حقيقية بين فئات متضررة من جهة وفئة محتكرة تربطها شبكة مصالح بالسُلطة السياسية من جهة أخرى، فالخلاف على تشكيل الحكومة هو معركة تنصل. محاولة من كل طرف، من موقعه، الاستفادة من الوقت، لإنقاذ مصالحه الضيقة من الانهيار الاقتصادي الوشيك.

في الواقع، نقلت مصادر متعددة أن الحريري بدأ يفكّر جديًا بالاستعانة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبالاقتراض، وبالسير بمشاريعه التي قدمها فيما سميت "الورقة الإصلاحية"، التي عرضت بيع الدولة للخارج، وزيادة الدين العام. وهكذا حكومة، يرأسها الحريري، في حال تمت في نهاية الأمر، برضوخ فريق لآخر، ستعني الانهيار التام. ستعني اقتصاديًا كل ما يلي، ما بين جملة أشياء كثيرة:

  • استمرار فاجعة الدين العام وارتفاعها. هذا الدين الذي بلغ في نهاية 2018 نحو 85 مليار دولار، إضافة إلى زيادة الفوائد المستحقة على هذا الدين، والتي تبلغ نحو 35 مليار دولار تقريبًا. وتاليًا، نزف إيرادات الخزينة العامة لسداد هذا الدين، بحيث أن هناك رفضًا تامًا من الفريق الحاكم بإعادة جدولته، أو الحديث عن إلغائه.
  • ارتفاع احتمالات تمرير عمليات الخصخصة وبيع ما تبقى من مؤسسات الدولة لسد الدين، الذي تبلغ قيمته مع الفوائد 120 مليار دولار، ولا سيما أن الحريري ما زال متمسكًا بورقته الإصلاحية.
  • الاستمرار في عجز ميزان المدفوعات، بسبب صعوبة دخول الدولار إلى لبنان، في ظل وجود إصرار أمريكي على التضييق على أي حكومة يكون حزب الله شريكًا فيها.
  • نفاذ كبار المودعين من أي عملية "قص شعر"، وتدفيع الأسر والطبقات الفقيرة كلفة الدين، بينما ستبقى الودائع الكبيرة التي تبلغ قيمتها 85 مليار دولار آمنة، علمًا أن جزءًا كبيرًا من هذه الودائع تم تهريبه إلى الخارج بالفعل حتى الآن.

في الاقتصاد، حيث تتركز المشكلة، سيعني هذا أن المصارف يمكنها أن تفعل ما تشاء، وأن تحتجز الودائع كما تشاء. وأن تحدد سقوفًا للمواطنين لقيمة السحب، وأن تأخذ حساباتهم بالدولار، وتمنحهم إياها بالليرة، حسب سعر صرف أقل من سعر الصرف الواقعي. سيخسر حتى الذي كان يعتقد أنه بمأمن، مثلما هي الحال الآن. ما هو منتظر أن تتضاعف الأزمة، وأن يستفحل القمع. سيعني ذلك أن كلفة المعيشة لن ترتفع وحسب، بل ستبلغ درجات غير مسبوقة، ولن يردعها أحد عن الارتفاع. ستترك الطبقات الفقيرة لمواجهة المجاعة.

اقرأ/ي أيضًا: "عون أكبر من بلده"..موسم السخرية من الجنرال

الدين والمزيد من الاستدانة، هذا هو شعار عودة الحريري والفريق نفسه إلى الحكم. وهذا يعني الإصرار على اقتصاد غير منتج، وسياسة مالية لصالح القلة، وارتفاع في الدين العام، والإنفاق لخدمة هذا الدين، وليس من أجل المجتمع، أي قطاعات الصحة والتربية والتعليم والأشغال وغيرها. عودة الحريري ستعني أن الحافلة التي كانت متجهة إلى الهاوية، ستسير بسرعة مضاعفة. ستعني العودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر، وستعيد الزخم إلى الانتفاضة، مثل أي حكومة من هذا الصنف.

غير أنه ثمة بعد إقليمي لا يمكن إغفاله. عودة الحريري كرئيس للحكومة، ستكرّس سيطرة حزب الله على البلد تمامًا، الذي أوصل الرئيس إلى القصر ويصرّ على الحريري للسرايا. غير أن هذا لم يعد مجديًا، حتى للحزب. المعركة الآن تحدث في ميدان آخر، بينما ما زال يقاتل هو في الميادين القديمة، وبأسلحة منتهية الصلاحية، بالنسبة للعالم وللبنانيين أنفسهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل انتحر الحريري سياسيًا؟

عون يسد الفراغ الرئاسي ونصر الله رئيسًا للبنان