27-أكتوبر-2020

ساحة الشهداء في بيروت يوم 22 تشرين الأول/اكتوبر 2020 (جوزيف عيد/أ.ف.ب/Getty)

شكلت الاحتجاجات منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في لبنان وعيًا مستجدًا عند اللبنانيين. حيث سقطت ورقة الشجر التي كان يختبئ خلفها العديد من الفرقاء السياسيين، وباتت المعطيات السياسية والاجتماعية أكثر وضوحًا مما كانت عليه قبل 17 تشرين. يمكن القول أن لحظة 17 تشرين وما بعدها أفصحت وكشفت عن طبيعة السياسة والمجتمع في لبنان ورتبت الأولويات والانتماءات لدى اللبنانيين بشكل أصلب مما كانت عليه.

يمكن اعتبار التحريض الدائم على العنف الثوري الذي اتسم بالعبثية والعشوائية في ظل غياب أي شروط موضوعية لهذه الدعوة من بين عوامل الفشل الذاتي لـ17 تشرين

تعذرت الثورة في لبنان وما كان لها القيام أصلًا ولكن وقعنا تحت تأثير نشوة المصطلح وربما كانت الحماسة عائدة إلى ارتباط معرفي لطالما قرأناه في الكتب وربطناه بالغرب وحركات التنوير والثورات وفي مقدمتها الثورة الفرنسية والثورة الروسية. فما أن تفتح صفحات الفيسبوك حتى تنهال الاستشهادات بهذه الثورات. فهناك رغبة للتغيير والتشبه بالغرب وهي رغبة ليست سيئة بكل الأحوال لأنها تنزع إلى الإصلاح ومحاربة الفساد والظلم وتقليص التفاوت الطبقي ونشر الديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة 17 تشرين وذكرى الخيبة الجميلة

وظهرت مصطلحات جديدة على الساحة لم تكن متداولة: الأوليغارشية والطبقة الحاكمة والنظام الطبقي وتحالف البرجوازية، والبرجوازيات الكبيرة والصغيرة والطبقة الوسطى والبروليتاريا والبروليتاريا الرثة والأناركية والثورة الدائمة والاستلاب الطبقي والسيرورة التاريخية والكولونيالية والديالكتيك والانقسام بين الأرياف والمدن الخ..

الثورة المرتهنة

أراد اليساريون خوض المعركة في مواجهة أركان السلطة لكن مع تحييد حزب الله على اعتبار أنه يمثل المقاومة وأن سلاحه سلاح مقاومة. لم يدرك هؤلاء أن شرطاً جوهريًا في الصراع الطبقي تم التغاضي عنه وهو أولوية الصراع الداخلي على الصراع الخارجي. وفقًا لدعاة الطبقية هناك صراع بين الطبقات الكادحة والبرجوازية الحاكمة وعلى رأسها الأوليغارشية، لكن تعاود الطبقات الكادحة والفقيرة التحالف مع الطبقة البرجوازية في صراع خارجي. وبهذه الطريقة يتم تحويل الصراع الداخلي إلى الخارج وتسخير الفقراء لصالح خدمة مشاريع الأحزاب البرجوازية- الأوليغارشية- الطائفية الحاكمة!

هذا الفهم البديهي البسيط لم تتمكن غالبية الأحزاب والمجموعات اليسارية من فك شيفرته، فلم نجد على سبيل المثال لا الحصر، أي بيان إدانة للحزب الشيوعي يدين الهجمات المتكررة على جسر "الرينغ" وسط بيروت ومهاجمة خيم "الثوار" وندواتهم، ولم تخرج أي إدانة حول التهجم الحاصل في المدن والقرى الأخرى كمنطقة صور وعموم مناطق الجنوب وفي مناطق بعلبك الهرمل. لم نسمع بيان واحد يدين خطابات الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله بعد اتهامه الثوار بالتمويل الخارجي، أو بعد إعلانه اللاءات الشهيرة: لن تسقط الحكومة، ولن يسقط ميشال عون، ولن يسقط النظام.

وهكذا صار بالإمكان وضع المقاومة المتمثلة في حزب الله تحت خانة "النضال البرجوازي" وليس تحت خانة "نضال الفقراء والطبقات الكادحة". مقاومة إسرائيل ومقاومة الإرهاب والحروب الخارجية التي يشارك فيها حزب الله هي قضايا برجوازية أعاقت أي تقدم أمام الفقراء والطبقات الكادحة والعمال وغيرهم من الفئات الذين تم استلابهم من قبل طبقة أقلية في لبنان، وبات الصراع يعيق تحصيل حقوقهم من الأوليغارشية الحاكمة. ومن هذا المنطلق فإن كل فكر ينطلق من خلال تحالف الفقراء مع البرجوازية الحاكمة في لبنان في وجه عدو خارجي (مفتعل أو وهمي) إنما يخدم أجندة الطبقة البرجوازية ويتعامى عن أصل الصراع وأولوياته.

كذلك، صارت الأحزاب والمجموعات اليسارية تبرر طائفية حزب الله تحت وطأة شعارات المقاومة وصارت تتغاضى عن كون أن هذه المقاومة إنما هي "مقاومة شيعية" بالمعنى السياسي. ووصل الأمر أن هذه الأحزاب والمجموعات صارت أسيرة ومرهونة ومقيدة مما وضعها في حالة انحياز لطرف في النظام ضد طرف آخر. وتكاد لا تنتهي معزوفة التصويب على الأحزاب المسيحية اليمينية، وهذا يمكن توصيفه بحالة النكوص إلى الماضي حيث كان تموضع اليسار التاريخي إبان الحرب الأهلية في لبنان.

العنف الثوري!

من بين عوامل الفشل الذاتية لدى دعاة الطرح الطبقي الثوري في 17 تشرين يظهر التحريض الدائم على العنف الثوري الذي اتسم بالعبثية والعشوائية في ظل غياب أي وجود لأي شروط موضوعية لهذه الدعوة. وتبني ثقافة الهدم والرفض للرفض لكل طروحات النظام وعدم تقديم أي بدائل. وثقافة النقد المستمر لكل أشكال التحرك المدني والسخرية من كل ما من شأنه تعزيز أواصر اللحمة بين الطوائف والمناطق على قاعدة أن هذا التفكير "غير سياسي". والاختلافات الجوهرية بين المجموعات "الثورية" كافة. وغياب التنظيم والقيادة والأجندة السياسية الموحدة بحجة أن الثورة الشعبية قادرة على تنظيم نفسها بنفسها عبر تشكيلات شعبية في المناطق وخلق أطر وتنسيقيات شعبية. وخرجت مقولات تتحدث عن ضرورة تأميم المصارف وأخرى حول تأميم الدولة وأخرى حول الثورة الأممية حتى ذابت الطروحات الوطنية بالنسبة للكثيرين منهم.

وتجلى تبني العنف من قبل المجموعات الثورية اليسارية في مقولات تحرض على هدم المؤسسات والإدارات العامة دون القدرة على التمييز بين أركان النظام وبين أهمية المنشأة العامة التي تقدم الخدمة للمواطنين، فتم حرق وزارة البيئة ورمي مستنداتها، واقتحام وزارة الخارجية، وضرب مصرف لبنان والمصارف وضرب شركة كهرباء لبنان وضرب شركات الاتصالات وضرب المؤسسات الأمنية فيما المسألة في مكان أخر كليًا حيث أن هذه الأجهزة والمؤسسات هي نتيجة لطبيعة النظام اللبناني وهي نتيجة للإئتلاف الحاكم وعلى رأسه حزب الله. ناهيك عن أن العنف الثوري كان لا يجد تطبيقه إلا من خلف شاشات الهواتف فيما الشروط الموضوعية الثورية لا تنطبق إلا على حزب الله، مع الأسف لكونها حالة ثورية رجعية، دون أن تتمكن الفصائل اليسارية من البوح بذلك ومواجهة هذه الحقيقة.

صار دعاة الطرح الطبقي بمثابة أدوات بيد حزب الله لتحقيق أجندته ضد المصرف المركزي والمصارف التجارية وسط مدح ما يصفونه "بالعنف الثوري" ووصل الأمر ببعضهم لاعتبار أن العنف الثوري يعني الصدام الأهلي وهو في صميمه حرب أهلية وتمادوا في مديحه.  لكن عن أي عنف ثوري كان هؤلاء يتكلمون؟ العنف الثوري في مواجهة من؟ كانت طروحاتهم للعنف الثوري تصب في كل الأمكنة باستثناء حارة حريك! وهل كان من أمل لإسقاط النظام بواسطة العنف الثوري في ظل وجود حزب لديه عشرات الآلاف من المقاتلين وترسانة عسكرية!

فحزب الله ينظر إلى نفسه على كونه هو الحزب الثوري الطليعي، حزب الجماهير، حزب المظلومين، وحركته الثورية مستمرة منذ نشأته ولا زالت مستمرة حتى تحقيق أهدافه. وتبعاً لذلك يصبح كل حديث من قبل اليساريين عن "ثورة" 17 تشرين غير منطقي بنظر الحزب الذي يعتبر نفسه حاملاً لواء الثورة وتصبح بالتالي 17 تشرين حركة مضادة كان لزامًا إخمادها من قبل حزب الله. وتبعاً لذلك كان من الأجدى تفكيك خرافة "المقاومة" المزعومة عند حزب الله من قبل اليساريين وقياس موازين القوى قبل التنطح للخوض في غمار ممارسات عشوائية من قبيل التحريض على العنف الثوري كما قرأوها في الكتب.

العودة إلى الطرح الطائفي

طوال سنة كاملة سمعنا خطابات تقول أن النظام في طور الانهيار وبأن النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكن شيئًا من ذلك لم يحصل. بل على العكس، وقع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 ومر مرور الكرام دون أي محاسبة ودون التوصل إلى كشف الحقيقة، وصار الوضع الاقتصادي أكثر ترديًا مع تدهور العملة الوطنية وتفشي وباء كورونا، لكن لم نسمع عن تحالف طبقي عريض يضم الفقراء!

هل الانتماء الأولي لدى اللبنانيين هو للطائفة أم للطبقة؟ وهل الفقير في لبنان ينتمي لطبقته الفقيرة أم لطائفته؟

صار الحديث عن صراع طبقي غير منطقي، إذ لا يستند إلى أي أساس على أرض الواقع. وبات من المعلوم أن مؤيدي النظام يفوقون بآلاف المرات دعاة الثورة الطبقية واتضح أن النظام لديه حماية وشعبية كبيرة وزبائنية من أزلام وقبضايات وسماسرة ومقاتلين ومناصرين ومستفيدين. تبين أن النظام قوي جدًا وقادر على الإطعام وأدواته هي الطائفية.

اقرأ/ي أيضًا: بيروت أو مدينة أين

في مجتمع متخيل كان من الممكن قيام الثورة الطبقية داخل الطائفة المسيحية ثم الثورة داخل الطائفة السنية ثم داخل الطائفة الشيعية ثم داخل الطائفة الدرزية والعلوية وهكذا دواليك. من ثم ماذا؟ الاتفاق بين فقراء هذه الطوائف لبناء دولة العدالة الاجتماعية. إنه سيناريو متخيل ومضحك في آن، لكن ما يستشف منه هو واقعي بامتياز، فهل الانتماء الأولي لدى اللبنانيين هو للطائفة أم للطبقة؟ فهل الفقير في لبنان ينتمي لطبقته الفقيرة أم لطائفته؟ أسئلة تغاضى عنها دعاة الثورة الطبقية مفضلين الغوص في الكتب دون دراسة المعاش اللبناني. لكن ذلك لا ينكر سعيهم- وأنا من ضمنهم- للتغيير والإصلاح المنشود.

مثال على ذلك، تداولت أقاويل أن الطائفة السنية ثارت ضد زعامتها وأسقطت سعد الحريري، وانتظرت أن تبادلها الطائفة الشيعية هذه الثورة لكن ذلك لم يحصل فعادت وارتدت وانتكست الطائفة السنية إلى الوراء وأعادت حساباتها. هذه مؤشرات تدل على أولوية الانتماء الطائفي على الطبقي. وحتى تعريف الطبقة الوسطى بات صعبًا جدًا في الواقع اللبناني وحمال أوجه ومثار جدل طويل عريض، فالمسائل لم تعد كما كانت عليه في السابق. التعقيد والتشبيك في العمل والهجرة والنزوح والعولمة صبغا الطبقات بظروف جديدة.

وهذا في مجمله لا يعني أن الطرح الطبقي لا يستند إلى أي أساس البتة. بالتأكيد هذا الطرح موجود وبقوة لكن في أذهان منظري هذا الطرح فقط لا غير. ويمكن الإستشهاد بغالبية عظمى من الناس حين تقول لهم بأن الصراع طبقي فإنهم سيتفاجؤون وسيطلبون تفسيرًا لذلك، أو لعلهم سيجيبون: "صحيح، معك حق، الصراع طائفي" في إشارة لعدم ورود مصطلح الطبقية في قاموسهم اللغوي.

ومن المفيد التذكير أن الشعب اللبناني خرج من الحرب الأهلية بخلاصة؛ النظام الطائفي هو المرض، ولأجل ذلك، وبعد اكتشاف المرض، يجب البحث عن الدواء، وهكذا اتفق اللبنانيون أن الدواء هو إلغاء الطائفية السياسية، لكن لم يطبق أي شيء! وصارت كل طائفة تبني دولتها التي تتدخل في وجود الإنسان من لحظة ولادته حتى لحظة مماته ودفنه وما بينهما، حتى الأرض تم تقسيمها جغرافيًا، وتمت قسمة الشعب ديمغرافيًا، وتم تقسيم اللبنانيين في المدارس والجامعات والمؤسسات المختلفة وفي الوظائف وداخل الجيش والقوى الأمنية، كل شيء بات إجباريًا أن يمر من خلال المحاصصة الطائفية.

لذا يجب التعلم من دروس الماضي والعودة إلى أصل المشكلة وجذورها. الطائفية في لبنان ليست تفرعًا من الصراع الطبقي، وحتى لو كانت كذلك، فلا وجود لغالبية ثورية يمكن لها تبني هذا الطرح والسير قدمًا فيه. لكن لا بأس من التجربة، ومسار 17 تشرين كان تجربة مميزة وعميقة وتراكمية أكسبتنا النضج، ومن هنا تأتي الدعوة إلى عدم الوقوف في الماضي واستشراف المستقبل من خلاله، فلا يمكن أن تكون النظرية الطبقية في الثورة الأداة العلمية الوحيدة لفهم طبيعة الصراع في لبنان واعتبار كافة أشكال الصراع منبثقة عن هذه النظرية وتفرعات منها ليس إلا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عندما تطفئ الصحيفة أنوارها

أدونيس مفكرًا دينيًا