19-أكتوبر-2020

في بيروت يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر 2020 (مروان طحطح/Getty)

لم تكن أيّامًا عابرة في تاريخ لبنان، ولا مجرّد لحظة طارئة في حياتنا، كانت عيوننا تتلهّف نحو السّماء، أصابنا الحلم لحظة، ثمّ هوى الواقع بنا على أرضه لترتطم به قلوبنا قبل أجسادنا.

ثمّة مشاعر متضاربة تتداخل في النفس حين تحضر ذكريات تلك الأيّام في هذا الوقت من السّنة الماضية، رغبتان تتصارعان، واحدة تعيش على الذّكرى فتحوّلها إلى ذكريات، نمارس عادتنا في استحضار النوستالجيا، وأخرى تنظر لما حصل بعين الخيبة وتمارس النّقد الذّاتيّ وتحاول أن تقرأ ما جرى، لتدرك أين أخطأنا، وأين أصبنا.

إذا كانت السّياسة تعرّف بإحدى تعريفاتها بفنّ الممكن، فالثّورة هي تحويل المستحيل إلى ممكن، ثمّ تصبح بعد نجاحها عملًا سياسيًا نمارس فيه الممكن

حين تأتي الهبّة الشّعبيّة لا تسأل نفسك هل أشارك أم لا، أنت التّواق دومًا للتّغيير والرّافض للواقع، والممتلئ غضبًا على أهل الحكم والسّياسة. هي فرصتنا، فلنجرّب هذه المرة، حين تحدث الثّورة لا بدّ من وضع احتمالات الفشل في ميزان يفوق احتمالات النّجاح. الفشل في الثّورة هو القاعدة، والنّجاح هو الاستثناء، هكذا علّمنا التّاريخ، يمكنني أن أعدّد الثّورات النّاجحة فيه، لكن الثّورات والتّحركات التي فشلت وانهزمت أكثر من أن تعدّ وتحصى.

اقرأ/ي أيضًا: الشارع اللبناني ينتفض من جديد في ذكرى احتجاجات أكتوبر

في تلك الأيّام كان حضورنا في الشّارع، ونحن نعلم أنّنا لا نواجه الممكن بل نقارع المستحيل، فإذا كانت السّياسة تعرّف بإحدى تعريفاتها بفنّ الممكن، فالثّورة هي تحويل المستحيل إلى ممكن، ثمّ تصبح بعد نجاحها عملًا سياسيًا نمارس فيه الممكن، وتدور الدّائرة. هل ارتقى تحرّكنا إلى ثورة؟ لهذا الأمر نقاش آخر، رغم أنّ تعبير الثّورة له وقع رنّان في آذاننا وقلوبنا، ولكن فليكن تعبير الانتفاضة هو الأدقّ لوصف تحركنا الذي حصل في الشّارع.

"لا تحلموا بعالمٍ سعيد

فخلف كلّ قيصر يموت

قيصر جديد

وخلف كلّ ثائر يموت

أحزان بلا جدوى

ودمعة سدى".

هكذا يعبّر أمل دنقل في قراءته للواقع، واقعنا، ونحن حين نخوض في أيّ تحرّك لا بدّ أن تكون كلماته نصب أعيننا، نتحرّك، ننتفض، نثور، وفي أذهاننا احتمالات الفشل قبل احتمالات النّجاح. علينا أن لا نسرف في التّفاؤل، فالإسراف يجعل خيبتنا أكبر، ونحن لا نواجه قيصرًا واحدًا، نواجه مجموعة منهم، نواجه منظومة تكتّلت وبنت مجدها على الدّماء والحروب، ولن تترك أمكنتها وكراسيها بمجرّد نزولنا إلى الشّارع لنهتف ضدّها، ستفعل كلّ ما يمكنها لإحباط التّحركات، ستناور وتلتفّ وتشيطن وتحاول أن تستغلّ كل شاردة، تارة لتلتفّ، وتارة لتضرب. 

أصابنا التّفاؤل لحظة، وأدركَنا الحلم لحظات، شعرنا في أوقات كثيرة بأنّنا سننجح، كان صوت الشّارع يعلو ويهبط، كانت قلوبنا تنشد النّجاح، ونأمل أن تكون هذه فرصتنا لتحقيقه. هل أسرفنا في التّفاؤل؟ هل خدعنا العدد الكبير الذي شارك؟ لأوّل مرّة في تاريخ لبنان يشارك هذا العدد في تظاهرات غير حزبيّة، تهدف إلى إسقاط  السّلطة، كلّ السلطة، هل بالغنا في أحلامنا وانجرفنا بها حتّى أصبنا بعد كل ما حصل بخيبة نعاني من آثارها اليوم؟

أين ذهب هذا الجمال؟ وهذا التّفاؤل؟ هل ضاع الحلم في زحمة الواقع؟ هل انتصرت السّلطة فانكفأنا إلى صفحات فايسبوكنا نلعن التّجربة تارة، ونتحسّر، ونسخر. بات التّهكّم ملاذنا، هذا التّهكم الذي يقاوم الإحباط القاتل، هل غاب عنّا لهذه الدّرجة أنّنا كنّا نقارع المستحيل، وأنّ فشلنا كانت احتمالاته أكبر بكثير من احتمالات النّجاح؟ دائمًا على قدر التّوقعات والتّضحيات تأتي الخيبات، وخيبتنا ربّما كانت لأنّ الطّعنات أتتنا من الخلف، من قطاعات من وسط الشّعب قبل القوى الأمنية، حرّاس السّلطة، من هؤلاء الذين ظنّنا أنّ الأوضاع المعيشية ستجعلهم في صفوف المحتجّين، قبل أن ندرك بأنّهم ما زالوا حرّاسا لزعمائهم وجنودًا في نظامهم الطّائفي العصيّ على التّفتيت.

اقرأ/ي أيضًا: "رفع الدعم" في لبنان.. استكمال الانهيار بالانهيار

على الأقلّ سنخبر الأجيال القادمة بأنّنا حاولنا، بأنّنا كنّا أحرارًا، لم نكن تابعين منساقين منقادين، تحرّرنا من عباءة الطّائفة ولبسنا ثوب وطن، ظنّنا للحظات أنّه سيسعفنا، قبل إدراكنا بأنّ هذا الوطن نفسه مصادرٌ من زعماء الطّوائف وملوكها. حكم ملوك الطّوائف طويلًا في الأندلس، قبل أن يتفتّت حكمهم ويسقط، فمتى سيكون سقوط ملوك طوائفنا؟

لا وقت للبكاء، لا حاجة بنا للخيبة، ثمّة جولات قادمة تنتظرنا، ربّما يطول هذا الوقت، ربّما يقصر، نزلنا في سنة 2011 مع موجة الثّورات العربيّة، نزلنا في عام 2015، ثمّ في 2019، إذًا كلّ 4 سنوات لنا جولة مع هذا الحكم، شيء ما في هذه الحسابات يدعو للتّفاؤل، نعيش في سيرورة ثوريّة في هذا البلد، لا شيء يأتي بسهولة، نظامنا عصيّ على التّفتيت، لكن هل توجعه هذه الضّربات؟ أم تزيده قوّة وصلابة وتمكّنا واستشراسًا؟.

حين تنظر في أعمار المنتفضين، ترى معظمهم لم يتجاوز العشرين من العمر، الجيل الجديد كان أفضلّ منّا، فعل ما لم نقدر عليه نحن، تحرّر من عباءة الطّائفة، تمرّد على واقعه، على السّلطات كلّها. الحماس لديهم ما زال موجودًا، هم كانوا أجمل ما في انتفاضتنا، طلّاب المدارس والجامعات، كانوا فاكهة التّحركات، هم وحدهم من يبعث بعض الأمل في ظلام سياستنا الحالك، ويفتح كوّة للأمل في مستقبل نراه مظلمًا.

تنساب الذّكريات يوميًا على فايسبوك لتعيدنا إلى تلك الأيّام، إلى حلمنا الجميل، هذا ربّما ما يذيقنا طعم المرارة في ما وصلنا إليه، في انطفاء وهج التّحرك. ذكريات جميلة ومؤلمة رغم لذّتها، نعيش معها خيبتنا الجميلة، هذا ما يمعن أكثر في نكئ جرحنا، الذكريات قاسية، حين تعيدنا إلى لحظات كنّا فيها نستشق الألم ونغبّ الحلم، الذكريات ستطول، بعضها نقرأه بابتسامة، وبعضها بغضب، لا بدّ من التّعامل معها كحدث وحصل في حياتنا، لن تقف عنده، لن تعود حياتنا كما كانت قبل 17 تشرين، لن نعيش على أطلالها ونبكي، ولن تتحوّل إلى ذكرى. فالذكرى في أحد معانيها تعني انتهاء الشّيء أو نجاحه، ستظلّ بيننا وبين هذا النّظام جولات قادمة، وكثيرة، ومهما كان عمق الألم وحجم الخيبة، سنكون في الشّارع عند أيّ هبّة أخرى، هذا قدرنا نحن الّذين تمرّدنا على واقعنا ورفضنا أن نكون أرقامًا على عدّاد الطّوائف وقطيعًا في مواسم الانتخابات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا تنفع الانتخابات في لبنان؟

مركزية في اللامركزية.. تاريخ لبنان وحاضر الانتفاضة