19-أكتوبر-2020

تفصيل من بيروت (Getty)

-I-

رئات بلا هواء

الضجيج في كل مكان. المدرسة. المشاغبون. ضجيج الأولاد في الطريق. ضجيج امرأة وهي تعترض على الأولاد. ضجيج عوادم السيارات. محرّكات الدراجات النارية. ضجيج يصدر من عربة. من عربات. من مشاة. من طائرات العدو. ضجيج الجيران. صوت يخرج من الشاشة. زعيق. أصوات تدخل الشاشة. ضجيج المنتفضين والمنسحبين والعائدين والمهاجرين. أصوات تنسحب. أصوات ترتفع. ضجيج ذكريات. إطلاق نار في الهواء. رصاص طائش. سيارات إسعاف. إشكال أمني. حادث فردي. خلاف بين عشيرتين. ضجيج المعبد. حشرجة في صوت المؤذن. أجراس عملاقة. إنذارات خاطئة. مؤتمر صحافي. جماهير في المقهى تشاهد في التلفزيون مباراةً بلا جمهور. ضجيج في الطريق إلى وسط المدينة. غربان بيروت الجائعة. قرقعة كؤوس حزينة في الجمّيزة. آخر السهرة. هواء يحرّك الركام. يسقط حجر آخر. تسقط قصة. ضجيج الذاكرة. طنين. انفجار في المرفأ. انتفاضة. أصوات لا تتوقف. رجل ينتحر في شارع الحمرا. امرأة تبكي. عاملة تُشنق. طقطقة العظام. كلب ينبح وحيدًا في مار مخايل. كلب يعترض. ضجيج في النفق المؤدي إلى البحر. شاحنة تحمل بيتًا تفتت. قلب مكسور. النفق تابوت المدينة. تجعر الشاحنة. من بعيد، يظهر البحر. ضجيج المتسول على الكورنيش. امرأة تضرب ابنها. سائحة بيضاء تنظر بعنف إلينا. ضجيج الشوارع الخلفية. موسيقى رديئة من التسعينيات. ماضٍ لا يمضي. وقت لا ينقضي. ضجيج في الرأس. رئات بلا هواء. مرضى الأعصاب ينفقون ما تبقى. رجل يصرخ في الطابق الخامس. عاصفة. زجاج ينكسر. انفجار. أصوات مع بعضها البعض. نحيب. أسئلة. دعوات إلى الاستعجال. عيون مغلقة. مدينة بعد الانفجار. الصوت لا يتوقف. يبدو أن ثمة انفجار. انفجار. انفجار.

 

-II-

يستمر الضحايا في السقوط من السماء

عابرون في وطن عابر. شهداء هنا. شهداء هناك. شهداء حروب وحوادث سير وخلافات على مواقف سيارات. ضحايا بالمئات. بالآلاف. الحرب الأهلية التي انتهت. الحرب التي لم تنته. طفل يهرب. لاجئون. نساء يواجهن. مختفون قسرًا صورهم معلّقة في وجوه أمهاتهم. خيّم في الحديقة. جلادون يتوبون. ميليشيات. زعران. أوادم. حمقى. متقاعدون من تقاعدهم. جرذان في سيارات خلف زجاج عازل. مسلّحون. بلاطجة. أشخاص يمشون نحو صناديق. أشخاص يجلسون خلف الصناديق. برلمان يشبه الصندوق. نواب يشبهون أعشاب الصبار. مبان معطلة كثيرة. السراي الكبير. الحمّامات العمومية. القصور التي نهبها الاحتلال. فندق نزلت فيه سعاد حسني. مسرح وقفت عليه صباح ورقصت. شجرة عبد الحليم حافظ. المظلات المفتوحة على كل الاحتمالات. الفقراء الذين يسبحون في مياه ملوثة. شبان ينظرون إلى باحة السجن من زنازينهم. بشر مثلنا من على شرفاتهم ينظرون إلى باحة المدينة. الهامشيون في مقهى شعبي. رجل الأمن الذي يتحول ليلًا إلى مصفاة لتكرير اليأس. إلى نسخة كئيبة من بطل كافكا الشهير. في الطريق صف طويل من النمل. من البشر. من التائهين. من الذين يمشون خلف الشاعر ولا يصلون. يستمر الضحايا في السقوط من السماء. طفلة. امرأة. شاب كان مارًا بالصدفة. أشلاء في البحر. على رصيف المرفأ. موتى في الاهراءات لا قمحًا. غيمة سوداء إلى الأبد هي بيروت.

 

-III-

انكسارات

نتجول في الظلام. لا ذنب لنا. نراقب كيف عمّرت المدينة. حجرًا تحت حجر. بدأوا من فوق. بيروت نزلت من السماء. الوقت ضدّ الوقت. الفقراء ضدّ الفقراء. الخير والشرّ جنبًا إلى جنب. الأفراح والجنازات واحدة. الطريق نفسها إلى الهاوية وإلى البداية. دوامة أحلام، دوامة انكسارات. حانات مفتوحة، حانات مغلقة. البحر والجبل.

 

-IV-

مسرح الأوهام

عند منتصف الليل تنطفئ التلفزيونات في الضواحي. عند الواحدة فجرًا يعود السكارى. عند الثانية يستيقظ الخبّازون. عند الثالثة يدس الصيادون شباكهم في البحر. عند الرابعة يؤذن الفجر. في الخامسة تخرج الشمس. يتصرفون جميعهم كما لو أنهم في مسرح، وهذه المسرحية يجب أن تنجز. يشاهدون أنفسهم. يمثلون لأنفسهم وعلى أنفسهم. يتابعون: عند السادسة تقل الباصات ركابًا من وإلى، من وإلى. عند السابعة تفتح بائعة الورد محلها بأسى. عند الثامنة يبدأ النهار. عند التاسعة تباشر الصيدلانية عملها. عند العاشرة يضع الهامشي كرسيه أمام محل الحلاقة ويجلس حتى بعد الظهر. عند الحادية عشرة، صار الأمر مملًا. في منتصف النهار ينتصف النهار. عند الواحدة ظهرًا يشتد الضجيج. عند الثانية يكثر العابرون. عند الثالثة ظهرًا يستسلم بائع اللوتو. في الرابعة يرحل. عند الخامسة يغلق الكيوسك نافذته. عند السادسة يحدث انفجار. عند السابعة تدلف الشمس إلى البحر. تستمر هكذا الحياة إلى ما لا نهاية. معطّة. تمشي ولكن في مكانها. تحفر حفرة أمامها وتسقط فيها. إلى ما لا نهاية. إلى ما لا نهاية. إلى ما لا نهاية.

 

* العنوان مقتبس من ديوان الشاعر العراقي سركون بولس "الوصول إلى مدينة أين".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف كان وجه بيروت عام 1900؟

إعادة اكتشاف وسط بيروت