17-يونيو-2020

كاريكاتير لـ عماد حجاج

هل نحنُ محظوظون بأننا ما زلنا على قيدِ الحياة كشهودٍ على تداعي العالم أجمع بفعلِ فايروس؟ هل ستكونُ لنا حكاية بعدَ عقدٍ او أكثر نرويها في المهرجانات أمامَ جيلٍ ولدَ وسيولدُ للتو؟ هل سنسمعُ عن آخرِ مُعَمرٍ عاصرَ الكورونا يحتفلُ بعيدِ ميلاده الثاني بعد المائة في نُزلٍ مخصص لكبار السن؟

سيسجلُ التاريخ أن الكورونا كشفت زيف أقوال الكثير من القادة، وهشاشة الأنظمة، وشعار اليدِ الواحدة التي تُمثل البشرية لا معنى له

هُناكَ تاريخٌ يدون في كل يوم عاديّ، ومهمة البشر تتمثلُ في نقله من جيلٍ لآخر حتى ينالَ الصفة التي تؤهلهُ أن يجلسَ تحتَ زُجاجٍّ مقوى داخلَ صالةٍ فسيحة محكومةِ الحرارة في مَتحف للتاريخ البشري. ما أضعفَ الإنسان حين تختارهُ الطبيعة هدفًا لحربها الدورية.

اقرأ/ي أيضًا: إليهم جميعًا

سجنٌ كبير أضحى هذا العالم، والمساجين لا ذنبَ لهم سوى أنهم أحياء، الحُكم الصادر يشملُ الجميع، والتهمةُ إنسان. ضاقت مطالبنا من عدلٍ لجميعَ المستضعفين في الأرض إلى خمسِ دقائق في الهواء الطلق أو ربطة خبز طازجة، والحصولُ على صدر دجاجٍ مُشفّى من العظم صارَ أمنية، صرنا نُطالبُ بالعودة إلى بؤسنا اليومي المعتاد، فقط كي نشعرَ بأننا أحرار.

وهل كُنّا أحرارًا؟

سيسجلُ التاريخ أن الكورونا كشفت زيف أقوال الكثير من القادة، وهشاشة الأنظمة، وشعار اليدِ الواحدة التي تُمثل البشرية لا معنى له، فالكل يبحثُ عن خلاصه الفردي متناسين أننا، كبشر، ومهما فرّقتنا كل المحددات التي وضعناها نحن، الذينَ تكونّا بنفس الطريقة، وخرجنا إلى الحياةِ من ذات الثقب.

*

ستطيرُ الطائرات وتنطلقُ القطارات، وسيحترقُ وقودٌ كثير لتعمل مُحركات هذا العالم، وسنعودُ منشغلين بكفاية الثلج لآخر السهرة، وهل المزّة مناسبةٌ أم لا؟ وهل مرارُ اللوزِ ناتجةٌ عن تَغيرِ المبيدٍ حشري أم لأنه قُطِفَ قبلَ أوانه؟ وسنتناسى، كما نسينا أولُّ حبٍّ، تشنُجاتٌ أصابتنا ونحنُ متسمرون أمام التلفاز نعدُ الضحايا والإصابات وكأنها لم تكن، والخبرُ العاجل لن يسترعي منّا الضغط على شاشة الهاتف لنقرأه، وسنعتادُ النمطَ الجديد ليومنا، ونعيش.

وسننسى كيف كانت الحياة قبل هذا أيضًا.

*

"أهلاً بكم في قسم كوفيد-19 من متحفنا، نرجو من جميع الزوّار الإلتزام بارتداء قناع الوجه والقفازات التي إشتريتموها قبل الدخول ومن يرغب في سماع القصة فليضع السماعات الموزعةَ عليكم، للغة الإنجليزية اضغط الرقم 1، وللفرنسية اضغط...".

هكذا سَيُرحبُ بالسياح في متاحفِ العالم، فسنكونُ نحنُ واجهةَ العرض، يمرّون أمامنا ملتقطين صورًا لا معنى لها، ستنساها ذاكرة هواتفهم فيما بعد، وسيخرجون متأففين من علامةٍ تركها مطاطُ القناع على وجوههم. ولا أحد منهم سيعرفُ كم من جولةِ اكتئابٍ حاربنا، ومحاولةَ انتحارٍ قاومنا، وانسدادُ شريانٍ تفادينا.

سجنٌ كبير أضحى هذا العالم، والمساجين لا ذنبَ لهم سوى أنهم أحياء، الحُكم الصادر يشملُ الجميع، والتهمةُ إنسان

سنغدو ذكرى وتماثيل لا دورَ لها سوى تسلية المتفرجين.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا إكسبريس

في الإرشيف العالمي، سيحتفظونَ بنموذجين أو ثلاث لمقاومة هذا الوقت، ولن يتسعَ التاريخَ لكل شيء، لكنَّ المُدونَ منه لن يُنسى، فوثيقةٌ أصليةٌ موجودة تحتَ شجرةٍ في بلادٍ فقيرة، لهي أهمُ من كل تاريخَ دونهُ عابرٌ مرَّ بها يومًا ما.

*

الورقُ الأبيض المهمل في المستودعات يحتاجُ حبرًا ليصبحَ تاريخًا، ونحنُ هذا الحبر، فلندوّن شكلَ أيامنا، وكيف تترتبُ الدقائق فوقَ الدقائق، ولنتركَ نافذةً مواربة ليدخل منها من يشاء حينَ يحتاجُ العالم لقصص حقيقية عشناها نحن العاديين، الذين خدّروا أنفسهم بإيمانٍ غريب، بأن كلَّ هذا لا بد أن يَمُر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نحو عالم ما بعد كوروني

الصحافة وكوفيد 19.. كرنتينا على رأس الصنعة