03-مايو-2020

الموت في ديترويت لـِ"دييغو ريفيرا"

تطل موجات من المقالات والمقولات من إهالة القدسية على الأدوات الميدانية الاستعمالية بطبعها، لا الأيدولوجية ولا حتى السياسية بالمعنى المكتمل والمتعاضد، رغم ما يمكن أن تحمله من رمزيات متراكمة في كثير من الأفهام التي يتم تحصيلها على قارعة الوعي الجمعي الممارس غير الكامل بالضرورة. يحصل هذا تقريبًا رفقة كل موجة يستشهد عليها من الحراك/ات الشعبية القاعدية المواقعية في غالبها، لا الحركاتية على ضروريتها.

كي لا تتوه أي حركة ثورية ضمن حركة الواقع وحركيتها هي أيضًا، من الأساسي الإبقاء على عنوان أن السلطة وآليات الهيمنة إنما يقوم عليها بشر حقيقيون، لا مجرد أفكار وأطروحات هائمة وأدوات مجردة

تأتي الحراكات المعنية قاعدية بطابع جمهورها وطبائع قوى الدفع التي تحوزها ومتطلباتهما، رغمًا عن أنف إعلام الهيمنة/ات ومموليه ممن لا يقرون بهذه القاعدية نزوعًا لاختطافها أو تحسرًا على إحباط "سلبية التثوير" ومساع الكونترا/الثورة المضادة خاصتهم في الاختطاف والتجيير. يسري مثل هذا النزوع "الأونلايني"، في ظل مخاتلة القول بصحفيته وصحافيته، عربيًا وغير عربيًا كذلك، حينما تتبدى أقلام كثيرة، شابة وغير شابة، نحو مرثيات ومرويات تقديس الأدوات، والأنكى التوقف لدى الأدوات وحسب، لا عليها أو بخصوصها. في مثل هذا الحال لا تشكل الفطرة السليمة مخرجًا تبريرًا، لأنها ليست كذلك، ولا النوايا تشكل أدنى تفريق عندما يكون الضرر قد وقع ومضى في شأنه وشأن ما جلبه من تبعات.

اقرأ/ي أيضًا: لكمات مقترحةٌ لرأسماليّة تترنّح على وقع الكورونا

بشكل من الأشكال لا مناص من حقيقية واقع أن المشكلة الأساسية ربما تتعلق بالحراكات عينها وأطيافها المكونة قبل كل شيء يمكن النحو إليه، بما هي  حيرة التعرف إلى الكفة الراجحة ضمن ثنائية لا تبادلية قائمة في الواقع، كذلك في الوعي أقله منذ صلب المسيح الأول المعرف في التاريخ المدون سبارتكوس وصحبه. الثورة أم الوضع القائم، هنا حيث لا مكان لـواو العطف غير اللازمة أبدًا بقدر استحالة الالتقاء بين جذر الثورة وأس الوضع القائم إلا تضادًا وصراعًا.

سدًا لمسارب تحولها إلى معضلة/دليما بالمعنى الكامل للإعضال في مسار أي حركة ثورية، حراك تغيري، أو ما تيسر من اصطلاحات قد لا تهم البتة، بقدر ما لن تؤثر على واقع تضاد القوى الاجتماعية المضادة للوضع القائم والوضع القائم بذاته، يستوجب الخروج الممكن من إشكالية مماثلة خطوات عملية لا يمكن تجاوزها. حتى لو تم التفكير في إيقاع تجاوز مماثل، يبقى تفكيك مسار وواقع الثورة المضادة/السلبية ومعها الوضع القائم الذي تذود عنه شكلًا نضاليًا مركزيًا قبل التغزل بالأدوات التي يمكن استهلالها في مواجهته على درب تقويضه.

لكن هل هذا التحليل إن وقع، أو جلب فهمًا فعالًا للوحش الموصوف يكفي؟ لا بد عن النفي، من باب الضرورة لا نفي الضرورة. لكن أيضًا إن لم يتم تفكيك طابع الثورة المضادة وقوى الوضع القائم ووحوشه رفقة الاستفهام المعمق بخصوص خصوصيات القوى الاجتماعية والإنتاجية التي تقف خلف كل من الوضع القائم بكليته والنزوع لتخريبه تقويضيًا فكأن فهمًا لم يقع.

البحث عن إجابة، بناقل حركة ألي أو يدوي، لا يفرق، إن كان من الواضح في الحرب المفتوحة والمتوفرة دومًا أن ممارسة الهيمنة المضادة للهيمنة القائمة، وفرض هيمنة بديلة بكامل معانيها ربيبة التوقيت المناسب ما قبل التحصل على السلطة. كي لا تتوه أي حركة ثورية ضمن حركة الواقع وحركيتها أيضًا، من الأساسي الإبقاء على عنوان أن السلطة وآليات الهيمنة إنما يقوم عليها بشر حقيقيون، لا مجرد أفكار وأطروحات هائمة  وأدوات مجردة. وعليه يكون من بين المهمات الثورية الانطلاق من تقديس البشر وحاجاتهم المحقة رفقة ابتغاء التخلص من أوجاعهم لا التنصل منها. بما يستدعي كل هذا من ضرورة تعاطي الأدوات بما هي أدوات في ذاتها. تمامًا كما يتم استعمال موس الحلاقة والمرآة أو ستيريو الصوت كأدوات نافعة وضرورية ممكن الوقوع في تورط عاطفي تجاهها لكن هذا لا يجب غائيتها أو يشرع تجاوز هذه الغائية بأي حال.

علمًا بمقدار ما في أجهزة السلطة ومفاعيل الهيمنة الأيديولوجية وكافة أدواتها المادية الملحقة، من ضمنها المجموعات الحاكمة، من إمكانية لتلمس أنها غير معبرة أو ممثلة لكيانات اجتماعية واحدة موحدة أو متجانسة بالضرورة، بقدر ما هي ممثلة لمروحة مصالح وتبادليات هيمنة لا تقوم إحداها بمعزل عن أخواتها غير الشقيقات. كما علمًا بتنويع الأدوات المستمر وتلويناته الذي تمارسه القوى المهيمنة على صيانة الوضع القائم ومراكمة إعادة إنتاجه تتكشف إحدى ملامح ضرورة الإبقاء على الأدوات كأدوات وحسب. المولوتوف ليس أداة صاحبة موقف رغم جماليتها اللاسلطوية، لكن يمكن للسلطة أن تستعمل نسختها الخاصة من الزجاجة الحارقة وتطرب لرنتها أيضًا. كذلك الحال فيما يختص بالبرلمان  والغرف التشريعية، إذ يحضر صراخ المناضل سميح شقير الشفيف مسائلًا رفيقه سلفادور اللينيدي بأن "كيف نبني دولة العمال  في هذا الزمان تحت سقف البرلمان؟". كذلك الحال مع قرقعة الكلاشينكوف وتصاويره، بمختلف نسخه ومقاسات طوله كون قطره موحدًا كما سبطانته، والأعلام والرسومات والحجارة والمقاليع. صحيح مثلًا أنه تم التغني بكل هذه الأدوات الطبيعية الضرورية في الحالة الفلسطينية مثلًا، كما تم ترسيم الكلاشينكوف بوسترًا ثوريًا في جنوب العالم وبعض من شماله، لكن ألم يلجأ فتية استيطان تلال الضفة الغربية لذات الأدوات وأكثر في حربهم منذ مناحيم بيغن حتى اللحظة التالية!.

لأن المهمة السياسية الحقيقية والفعالة تتمركز في نقد عمل المؤسسات التي تبدو محايدة ومستقلة، بما يكفل فضح العنف السياسي وغير السياسي الذي مورس دومًا عبرها قد يكون من المفيد الاستزادة من تمثيلات حصلت وستحصل شبيهاتها على ما يبدو، ما لم يتم فضحها وحصارها وسحب الطاقة من إمكانيات تفعيلها. لم توفر النخب السياسية والإعلامية كما النقابية حتى، صاحبة الوضع القائم فرنسيًا وأوروبيًا، سخط التجريم ومسخ الإدانات  الكبرى لحراك السترات الصفراء ومن يعبر عنهم كما من ينشط من خلاله. كما لم يعرف أي تقصير إعلامي في توظيف الإدانات والوصم الاستعلائي الذميم متعدد الزوايا بحق المنتفضين لأجل قوت يومهم. تمامًا كما حصل، وهو حاصل عربيًا حتى اليوم. لكن من مصادفات كرنتينا كوفيد التاسع عشر الكوكبية أن مساجد طرابلس المفقرة والمقتولة والمغدورة مغلقة تمامًا، فلم تنطلق منها الموجة المتجددة من الحراك اللبناني ضد حكم المصرف وأعوانه من أمراء الحرب القائمة والمستمرة تحت جنح الطبطبة والتربيت على كتف شعارات السلم، خاصة ذلك الأهلي. فهل سحبت مفردات "الدعشنة والدعوشة والداعشية.." من أعداء الحراك؟ ربما يكون من المناسب افتراض وجوب سؤال: هل سيكون السلم الأهلي للمجموعات الاجتماعية، كما تراها سلطة المحاصصة لبنانيًا، موضع تهديد ضمن منظومة سلطة غير تلك القائمة بمجموعات الحكم والضبط المتوفرة لسوء حظ لبنان وساكنته، بما فيهم من جرتهم أقدار شرق المتوسط للجوء القسري داخل حدوده غير منتهية الترسيم حتى اليوم، كما هي غير ناجزة التحرير للمناسبة.

علمًا بتنويع الأدوات المستمر وتلويناته الذي تمارسه القوى المهيمنة على صيانة الوضع القائم ومراكمة إعادة إنتاجه تتكشف إحدى ملامح ضرورة الإبقاء على الأدوات كأدوات وحسب

بما أن النخب المهيمنة على جبهات متعددة من بينها السلطة تنظر إلى الناس وتتعاطى معهم كمجاميع وحواصل ضرب وتقسيم، إضافة إلى تعاطي هذه القوى، بما هي قوى صيانة الوضع القائم المستمرة، مع الناس كونهم أشياء فكيف للوعي المضاد لمثل هذه المصفوفة أن يغلق على مشهدية الأشياء التي يمكن لاستعمالها في المواضع والمواقيت الملائمة أن يهز أركان من ينظرون إلى الناس كأشياء؟ إنها متتالية رديفة لمشاريع الاحتيال الكبرى ليس إلا. لا تحلها إلا القبضات المضمومة بعنف مضاد للعنف المادي والرمزي الممارس على المضطهدين، حين تشخص تلك القبضات، كالأشجار وقوفًا بتعبير سميح شقير مجددًا، ليس في باب نشد الاعتراف أو تجاوز النكران الممارس من طرف الاستبداد و/أو الاستعمار إنما تحضيرًا لجنازته المشتهاة.

اقرأ/ي أيضًا: تراكم السلطة في إعادة إنتاج واقعها

كل هذا وغيره يأتي من بين ما تلخصه الحفريات في عدة نصب سلطة الهيمنة التي ليست للناس بل عليهم، إذ تقع عين هذه السلطة دائمًا على ما يمكن أن يخرس ممكنات تقويضها، حتى لو كان الإلهاء. كم هو مريح للسلطة توفير عتاد ومتاع سوق عكاظ متكامل في مديح المولوتوف، وكم هي مؤلمة أثار كوكتيل التنر، البنزين، الزفت، ممزوجة بالرمل وأشياء بلاستيكية أخرى ممكنة على وجه السلطة أو أحد وجوهها.

"ولكم عبرة يا أولي الألباب" في سينما المخيال العلمي بما توفره مقاربة بسيطة وأولية بين 3 عناوين سينمائية، من شأنها أن تشف الكثير حول عدة النصب السلطوية. إذ عندما يكون الأصلح والأشهى لحاصل القوى الاجتماعية المضطهدة عيش ما في سلسلة "ستار تريك" من ممكنات لممارسة معقولية الحياة المنتجة والنافعة، تدور في الوقت عينه آلة التضليل والدعاية على بث الرعب الهابط من "حرب النجوم"/ صراع الحضارات في أحد الترجمات غير اللغوية بسيميائها، في حين يكون الواقع بحقيقته رهين "الماتريكس" وحبوبه الزرقاء ومجمل حقنه وتحوير الإنسان إلى بئر جديد يصطف إلى جانب الآبار النفطية التي تكون قد خوت في ذلك المستقبل الماتريكسي.

عن الحافظ الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام" قال: عَنْ أَبِي بَكْر بْن عيّاش قَالَ: قِيلَ للبطّال: ما الشجاعة؟ قَالَ: صبرُ ساعة. على غرار الشجاعة و/أو النصر بما هما في جوهرهما صبر ساعة، على اتساع الساعة وضيقها، يبقى القول أنه لمن المحبب جدًا أن تحضر قدس الأقداس التي لنا عاصمة أممية للكلاشينكوف وحتى الأر بي جي في ساعة الضرورة، وطرابلس وبيروت ودمشق وعمان.. عواصمًا للمولوتوف أو أية أدوات يلزم حضورها، لكن كل هذا الحضور سيكون إلى حين، هذا أن التورط في فكرة جمالية أداة ما سرعان ما يفقد مبررات استبطانه إن لم تعد تلك الأداة بالصلاحية التي جلبتها أو إن حققت مداها المعقول، فمن حواكم فشل/إفشال أي حراك/حركة ثورية التقوقع عند الأدوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مجموعات حاكمة غير جميلة

عجلة "فورد ترانزيت" المستمرة.. هنا فلسطين