28-أبريل-2020

أثناء وقفة دعم للمناضل التحرري سيفرينو دي جيوفاني (كارنيه هاتش)

حضرت المغناة الإيطالية/الأممية Bella Ciao مؤخرًا على مسامع قطاع من الجمهور العربي في فلسطين المحتلة وغير فلسطين من أمكنة محتلة وغير محتلة عبر منصات اللاتباعد الاجتماعي والتلصص غير الاستخباري والاستخباري بالضرورة. لم يأت حضور القطعة اللاسلطوية التحررية إلا بـاللحن المسروق والإيقاع الممسوخ رفقة سخط ومسخ عام شل أركان ومفاصل كلماتها الثورية الشفافة دون أدنى مغالاة، لصالح تنميق وتزلق وتسلق المديح في غير مكانه لجهاز إداري كولينيالي بطبعه وطبيعته بحكم النشأة والمسار المراد والفعال.

من بين ما تجهد السلطة إلى اختطافه في حال الفشل في إجهاضه يحضر الانتقال بصوت الرفض من الدوائر المهمشة القصية، أو المقصاة، إلى تصدر عمارة المشهد العام، هنا أحد مكامن خوف السلطة وتهديد الهيمنة حقًا

أتت حمى انتشار كوفيد التاسع عشر على الكوكب ليحل معها كشف لأوراق كثيرة، تناولته أقلام أكثر. لكن لم يحضر هذا الكشف/المكاشفة كجديد مستجد كما هو الفيروس المعني المستجد والمتجدد، بل أتى أميل لناحية المناسبة، أي أن مناسبة المكاشفة  ازدهرت بعض الشيء، لهول المصاب وفداحة التراخي والإهمال والقصور الذي أضاء عليه. ليس فقط عالمثالثيًا/جنوبيًا، بل أيضًا في أرض الإمبراطوريات البيضاء وجاداتها التي تحتل مخيال كثر من أصحاب الميل الهجروي، يوازيهم في الميل أهل النزوع للوجبة الديمقراطية السريعة والجاهزة التي يعتقدون بصلاحيتها الكاملة بالنسخة الإمبراطورية التي لم تغلق عليها شاشة التاريخ بالمرة، خاصة ما بعد ثنائي تاتشر – ريغان ومصائبيته. بتغييب لا يبدو إلا متعمدًا لفهم ما للرأسمالية على الديمقراطية ومنها. كما إدارة الجانب لما تعنيه هيمنة المجال الاقتصادي على الفضاء السياسي، بما يقصد إليه بشكل مبسط من وجود أحدهم في الحكم اليوم لكن خارج السلطة، فكلما نجحت السلطة بالإبقاء على هذا الفصل يكون الهدر في أقصى حالاته، وهذا ما يمكن تسميته الحرمان، للصالح العام لا الأفراد والمجموعات فقط، من عوائد الإنتاج واحتكار الموارد، بل السرقة والتضليل معًا في باب توخ صدق المعنى وصلاحيته.

اقرأ/ي أيضًا: الدلعونا وأزمة العصر

المغالطات وتنبيهات المكاشفة كثيرة بينما ورد في نسخة التحوير السلطوية للتراث اللاسلطوي في إحدى أشهر وألطف نغماته. ليس أقلها الاستهلال والتلفط بـ"حكومتنا". كأن النسخة الحالية من التركيبة الإدارية لجهاز الإدارة شبه الذاتية، أي السلطة الفلسطينية الممهورة بـاتفاق 13 أيلول/سبتمبر1993 على رصيف ميناء وبلدية العاصمة النرويجية أوسلو ما هي إلا حكومة الشعب الفلسطيني الديمقراطية الشرعية على درب تقرير مصيره وتمثيل صالحه العام في كافة أشتات تواجده!.

كل تفاصيل المماحكة والتحوير واللعب البذيء في مسارات التراث العام الإنساني والمشترك الأممي، عبر Bella Ciao بنسخة سلطة التمول والتمويل في الضفة الغربية المحتلة، قد لا تهم كثيرًا أمام تساؤلات أكثر قبلية وأولوية. ما هذه التوقفات/التساؤلات إلا بشأن الفضاء العام وضخ المعطيات فيه وإليه، خاصة تلك ذات اللبوس الفني والأداتية سهلة التلق ومأمولة المفعولية.

ليست القطعة الأصلية المقرصنة إلا جزءا أصيلًا لا ينفصل عما يمكن أن يقال فيه فن الشارع، اللصيق بما يدور في الشارع نفسه، سياسة الشارع ومنها الممارسة السياسية في الشارع، من تظاهر وانتفاض واستعمال للفضاءات العامة لصالح التعبير عن قضية وسؤال ما يخص العموم أو جانب ملموس منه، توخيًا لموجبات منطق التعبير عن الرأي وحرية هذا التعبير وأحقيته بإقحام المطالب في الحيز العام، خارج جنبات المؤسسة الرسمية وقنواتها. هنا مكمن الخديعة المعمقة التي لا تحتاج لنظرية مؤامرة، أو مؤامرة من أسها كي تفضح ذاتها بذاتها.

اقرأ/ي أيضًا: عجلة "فورد ترانزيت" المستمرة.. هنا فلسطين

هل بالقطع الضروري أن يكون فن الشارع أو فن الشعب وتعبيرات مأموله التحرري سياسيًا أو عامًا بمعنى ما؟ أليس من الممكن أن يكون مجرد محاولة تجميلية، أو تدخل في هيكلية الذائقة العامة وتكوينيتها على نحو يضيف من التجويد أو التجميل ما يتكفل بتضميد جراح الجدران المتعبة أو الزائفة؟ في "حكومتنا الجميلة"، وما أشد تمثيلها لقبح منجز المجموعات الحاكمة غير الجميلة بطبائعها، خاصة في السياقات الاستعمارية، هنا قدر شاف من التمهيد والإيضاح.

 ما التعويل على الفن أو أي نشاط ومنتج بشري إن لم يفضح فشل نظام الهيمنة الذي تتكئ عليه أجهزتها في التعميم الحصري لقيمها في الفضاء العام؟

هنا من الأولي الأولوي ما يلامس دورًا أساسيًا في  التنبه لممكنات الانتقال بصوت الرفض من الدوائر المهمشة القصية، أو المقصاة، إلى تصدر عمارة المشهد العام، مكمن الخطورة يكون في الناقل ومقصده أكثر مما هو تعويل على المنقول بالضرورة.

بحضوره، خاصة عندما يكون عفويًا سلسًا تقويضيًا مقاومًا، يأتي فن الشارع ناقدًا لما هو قائم على مستوى الاجتماع الإنساني، بما فيه من سياسة وما فيها من ممكنات هيمنة.  لكن ما التعويل على الفن أو أي نشاط ومنتج بشري إن لم يفضح فشل نظام الهيمنة الذي تتكئ عليه أجهزتها في التعميم الحصري لقيمها في الفضاء العام؟. وقتها يكون من الأولى إغلاق البث، مرئيًا مسموعًا ومحسوسًا حتى، على مقولات السلطة الناظمة لثالوث الهيمنة، بما في ذلك من توفير للهدر.

كذلك تستجلب حالة الغلق لممكنات التعويل على الفضاء العام والضخ فيه، الجبهة الثقافية بكامل عتادها الغرامشوي، مكاشفة للطاقة الهائلة التي تنفقها السلطة دعائيًا لصالح قيمها، أو مجرد وجودها، في مقابل الطاقة الطوعية الأليفة التي يستند إليها فن الشارع المقاوم/ الناقد التفكيكي والتقويضي في آن معًا، بما يعكس قدرة الأخير على مقارعة السلطة وإنجاز مكتسبات رمزية وممارساتية في صراعه ضد المؤسسة لا معها، والأهم أن تكون المبارزة بأدوات غير تلك التي للسلطة، أي سلطة، حتى لو كان اضطرارًا في ملعبها لكن أقله ليس بكرتها وقواعدها.

ختامًا، ما يمكن النحو إليه يقول بأن السلطة وأقطاب الهيمنة قائمة وفاعلة بأدواتها وفواعلها، لكن الأهم والأخطر في آن معًا أن تكون الهيمنة قد امتدت إلى إرث الناس ومتوارثهم مما عولوا ويعولوا عليه في نجدة الوعي، بما هو وعي ذات وضرورة. خاصة باستمرار تعميم آليات حرب الهيمنة دون حالة فهم تفكيكي نقدي فاعل ومضاد. لكن ومع كل ذلك، فهستيريا القلق والتلق لن توصل إلى أي مكان دون فهم وفعل متسقين بمنحى لا سلطوي إنساني جامع يتعاطى مع مثل هذه الكوارث والسرقات بوصفها أوبئة كونية قد تكون أقل شهرة من كوفيد التاسع عشر، لكنها ليست بأقل خطورة أبدًا خاصة وهي توظف أوجاع الناس في تمرير ألمهم بتراكم مستمر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المساكين في مواجهة الطواعين

الحاجة للوجه ذو الندب