30-أبريل-2020

لوحة جدارية مرسومة على خزان نفطي في تكساس، 23 نيسان/أبريل 2020 (Getty)

أدّت وضعيّة الإغلاق التي قامت بها كلّ دول العالم تقريبًا لمواجهة جائحة كورونا المستجدّة، إلى انكشاف الناس أمام اثنتين من أهمّ رذائل الرأسماليّة المعولمة المُعاصرة، الأولى: هي ما يمكن تسميته بتقسيم العمل على مستوىً دوليّ، بعد القضاء على الأشكال الاقتصاديّة القائمة على الإنتاج المحليّ المخصّص للاستهلاك المحليّ والكفاية التي تحقّق الأمن الغذائيّ للمجتمعات، وتحميها من التبعيّة؛ والثانية: التحوّل من الإنتاج الماديّ (الاستثمار في، والتربّح من، إنتاج السّلع: عملٌ يُنتجُ سلعةً تُنتجُ مالًا)، إلى "الإنتاج" الماليّ (الاستثمار في، والتربّح من، توليد الأموال: مالٌ يُنتجُ مالًا يُنتجُ مالًا).

سيشكّل هذا الوضع الكارثيّ فرصةً جديدةً لبناء وعيّ طبقيّ في مواجهة النظام الرأسماليّ الظالم والمجرم، يضع الأغلبيّة السّاحقة من المُستغَلّين في مواجهة الـ1%، في مواجهة النّظام الذي يتيح لهم الوجود على هذا النسق من اللامساواة الفاضحة

تقسيم العمل الدّولي يعني أن تتحوّل المجتمعات من الاكتفاء الذاتيّ المستقلّ عن النظام الماليّ العالميّ، وبواسطةٍ من بروباغاندا "التّحديث" و"التنمية" التي تُعنى بـ"استغلال الإمكانيّات الكامنة والثّروات غير المُستغلّة"، عبر شركاتٍ تأتي من وراء البحار، مدعومةً من دولها الكبرى، لتنهب هذه الثروات، وتُغرق البلد بالدّيون لإنشاء البُنى التحتيّة والتشريعيّة لخدمة مشاريع الشّركات، وتُثبّت فيها مجموعات حاكمة فاسدة تُيسّر النّهب وتقمع مُعارضيه.. تتحوّل إلى تصدير سلعٍ محدّدةٍ بعينها إلى السّوق العالمي، غالبًا ما تكون خامات أوليّة، مقابل الاستيراد المكثّف لمروحةٍ واسعةٍ من المنتجات الأساسيّة والكماليّة التي تسحب جميع مدخّرات تلك المجتمعات، وتُفاقم فقرها ومديونيّتها واختلال ميزانها الاقتصاديّ وتبعيّتها للسوق العالميّ "الحرّ"، الحرّ فقط في إتاحته المجال لهيمنة القوى الكبرى على الضّعفاء، وإخضاعهم من خلال الأدوات الماليّة العالميّة الإخضاعيّة الضّاربة (صندوق النقد والبنك الدّوليين) بمزيد من الدّيون، ومزيد من برامج إعادة الهيكلة الاقتصاديّة التي تضمن انتزاع كل فلس في هذه البلدان لصالح "خدمة الديون" (أي فوائدها)، وتحويل أيديهم العاملة (عبر بوابة الإفقار والبطالة) إلى عمالة رخيصة لشركات أخرى تأتي –هي الأخرى– لتستثمرهم من وراء البحار.

تقسيم العمل الدوليّ هذا، مترافقًا مع الإغلاق الناتج عن الجائحة، وضع العالم أمام ظرفٍ عجزت فيه كثير من الدّول عن تأمين حاجاتها من الأساسيّات والمستلزمات الطبيّة الوقائية، فاستيقظت اقتصاداتٌ كبرى، وأخرى عظمى، على حقيقة أنّها لا تصنع أشياء تافهة وبسيطة، لكنّها بالغة الضّرورة، مثل الكمّامات، فصاروا يخطفونها بعضهم من بعضٍ في المطارات والمصانع كالعصابات الدّاشرة؛ وانتبهت اقتصادات أخرى لأمنها الغذائي؛ فيما وعى الجميع مركزيّة ومحوريّة وكفاية الأساسيّات، ولا جدوى، وعدم نفع، بل وسفاهة وعبثيّة ما ظلّت صناعة الدّعاية تقنعنا أن لا حياة لنا من دونه: سلع البذخ والهدر والمباهاة. ترى ما جدوى الآيفون 11 Pro في حال نفد الخبز أو لم تتوفّر الكمّامات للطواقم الطبيّة وأجهزة التنفّس لمرضى العناية الحثيثة؟

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة هشام البستاني

وضعت الجائحة العالم أيضًا أمام الدّمار الذي أحدثه رأس المال الماليّ وأيديولوجيّته النيوليبراليّة، ليس فقط في التّصفية المتصاعدة للخدمات العامّة والاجتماعيّة والصحيّة منذ ثمانينيّات القرن الماضي لصالح الخصخصة، بل في تحوّل الإنتاج نفسه، من الإنتاج السلعيّ إلى "الإنتاج" النقديّ، إذ لم يعد هدف الاستثمار هو تصنيع المنتجات، بل توليد المزيد من الأموال. فائض المال الماليّ الذي ينصبّ على المشتقّات الماليّة و"الفيوتشرز" وأدوات المضاربة الأخرى، والذي سبّب الأزمة الاقتصاديّة العالميّة 2007-8 نتيجة تداولات ورقيّة (ماليّة) على أشياء حقيقيّة (ماديّة)، أعاد الكَرّة بأن هوى بأسعار خام غرب تكساس إلى سعر سالب بعد ان اكتشف المضاربون أن سنداتهم الورقيّة التي يُضاربون بها، والتي لم تجد من يشتريها نتيجة انخفاض الطّلب الذي سبّبته الكورونا، هي نفط فعلًا، وأن عليهم فعليًّا الذهاب لاستلامه من المُنتجين. هذا المثال يوضّح كيف أن رأس المال الماليّ لم يعجز فقط عن توفير الكمّامات وأجهزة التنفس (فهو لا يصنع شيئًا سوى المزيد من الأموال لنفسه)، بل هوى بسلعة حقيقيّة (هي النّفط) إلى ما تحت الصّفر، مثلما هوى قبلها بعقارات حقيقيّة، لأناس حقيقيّين، أغرقتهم الرأسماليّة بالدّين، وشفطت ناتج عملهم الحاليّ والمستقبليّ، وربطتهم أبديًّا بالنظام الاستغلاليّ للرأسماليّة عبر أنظمة القروض والتسهيلات طويلة المدى المضمونة بالرّهن العقاريّ، لقاء "طمأنينة" بيت العمر الذين طارا (البيت والعمر) مع الانهيار.

رأس المال الماليّ لم يعجز فقط عن توفير الكمّامات وأجهزة التنفس، بل هوى بسلعة حقيقيّة (هي النّفط) إلى ما تحت الصّفر، مثلما هوى قبلها بعقارات حقيقيّة، لأناس حقيقيّين

إحدى فضائل وضعيّة الإغلاق هذه كانت إعادة التأكيد على أن "السوق الحرّ" خرافةٌ لا معنى لها، وأن "آليات السوق العالميّ" عاجزة عن تصحيح نفسها بنفسها، وعاجزة عن التّعامل مع طوارئ على مستوى الكوكب، وأن التدخّل الحكوميّ بإجراءات الضبط والتّقييد والتّوجيه وتحديد أسعار السّلع والتّأميم (كما تمّ بخصوص القطاع الصحي الخاص في إسبانيا)، هي التي تعيد التّوازن للفوضى التي تخلّفها آليّات السوق التنافسيّة-الربحيّة والرأسماليّة الماليّة، على النّقيض من كلّ ما تدّعيه النيوليبراليّة، أما الفضيلة الأخرى فكانت إعادة التوجّه في عدّة بلدان في العالم نحو الإنتاج، وفي اتّجاه معاكسٍ للعولمة الرأسماليّة، واعتبار الوباء فرصة لدعم الصّناعات المحليّة والتخطيط المستقبليّ لتطوير ما من شأنه إنتاج الحاجات والأساسيّات المحليّة التي تحقّق قدرًا من الاكتفاء الذاتيّ بعد تجربة الإغلاق وتبعاتها، وهو ما أُعلن عنه في بلدان كالأردن ومصر (على سبيل المثال).

وبينما تتعاظم البطالة، وتُصرف المدّخرات، وتتضخّم صفوف الفقراء، وتتعاظم الفجوة بين الـ1% من السّوبر-أغنياء، وبقيّة سكان الكوكب الذين يحرثون (أو يموتون) ليل نهار ليملؤوا جيوب الـ1% بالمليارات، سيشكّل هذا الوضع الكارثيّ فرصةً جديدةً لبناء وعيّ طبقيّ في مواجهة النظام الرأسماليّ الظالم والمجرم، يضع الأغلبيّة السّاحقة من المُستغَلّين في مواجهة الـ1%، وفي مواجهة النّظام الذي يتيح لهم الوجود على هذا النسق من اللامساواة الفاضحة، مثلما يشكّل فرصةً أيضًا لبناء آليّات تضامن أمميّ يوحّد المنهوبين في جنوب العالم وشماله، كنقطة انطلاقٍ لعالم يكثر الحديث عنه هذه الأيام: عالم ما بعد الكورونا؛ وبينما يوجّه كوفيد - 19 الضربة تلو الأخرى للنظام الرأسماليّ العالميّ، ويضعه في أزمة يرى كثير من المراقبين أنها ستكون أكبر وأعمق من سابقتها عامي 2007-8، يمكن للفاعلين السياسيّين أن يعمّقوا هذه الأزمة، في طريقهم إلى عالمٍ تستبدل العدالةُ والمساواةُ فيه الرأسماليّةَ، بطريقتين متعاضدتين:

اقرأ/ي أيضًا: مجموعات حاكمة غير جميلة

في شمال العالم: وبالاستفادة من تجربة الأزمة الماليّة العالميّة 2007-8، على الفاعلين السياسيّين أن يعملوا على منع إنقاذ الشركات والمؤسّسات الماليّة من خلال الأموال العامّة، وأن يضغطوا لإعادة توجيه أموال دافعي الضرائب لصالح الفئات الأكثر فقرًا وهشاشة، ولصالح الإنفاق الصحّي والاجتماعي، بالإضافة للضغط من أجل إحداث تغيير راديكاليّ في التوجّهات الاقتصادية المحليّة ينقلها من الإنفاق العسكريّ إلى الإنفاق على الاحتياجات الصحيّة والاجتماعيّة والاستدامة البيئيّة، والتي ستكون كبيرة في فترة ما بعد الجائحة؛ يتوازى ذلك مع الدفع لإنهاء السياسيات التدخّليّة (التي تستزف الموازنات لصالح الصّناعات العسكريّة)، وإلغاء نظام التحكّم العالمي المتمثّل أساسًا بثلاثيّ الأمم المتّحدة-صندوق النقد الدوليّ-البنك الدوليّ.

في جنوب العالم: على الفاعلين السياسيّين أن يعملوا على دفع الحكومات للتخلّف عن سداد ديونها بشكل جماعيّ، وبالتّزامن مع ذلك، المطالبة الجادّة بإلغاء الدّيون، وبالتعويضات الماليّة عن الجرائم المتمثّلة بالاستعمار، والتدخُّل، واستعباد وقتل الشّعوب، ونهب الثّروات، كإجراءات اقتصاديّة أساسيّة تُمكّن هذه الدول من مواجهة التّبعات الصحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المباشرة لوباء كورونا المستجدّ، ولأسبابه الأعمق المتمثّلة بالفقر وانعدام الأمن الاقتصاديّ-الاجتماعيّ.

يجب دفع الحكومات نحو التخلّف عن سداد ديونها بشكل جماعيّ، والمطالبة الجادّة بالتعويضات الماليّة عن الجرائم المتمثّلة بالاستعمار، والتدخُّل، واستعباد وقتل الشّعوب، ونهب الثّروات

 ونظرًا لكون العالم يتوقّع انهيارًا اقتصاديًّا أكبر من ذلك الذي شهدناه عام 2007-8، ولأنّ العالم قد أثبت أن لا شيء "عالميّ" في المقاربات الأنانيّة التي تمحورت عن إنقاذ الذات وإلى الجحيم بالآخرين، فإن الآن هو اللّحظة المناسبة للضغط من أجل مثل هذه الإجراءات الراديكاليّة. يضاف إليها: تشجيع ودعم التحوّل بعيدًا عن اقتصادات "التّصدير" و"اجتذاب الاستثمارات" الخارجيّة المعنيّة بـ"النموّ"، والانفصال عن النظام الرأسماليّ-الماليّ العالميّ، باتّجاه نمط اقتصاديّ يعنى بالإنتاج المحليّ المعنيّ بالأمن الغذائي والاكتفاء الذاتيّ والأساسيّات.

ستوجّه مثل هذه التوجّهات، والدّفع من أجل تحقيقها، مزيدًا من الضّربات لنظام اقتصاديّ عالميّ ظالم ومتوحّش، بات يئنّ ويتداعى تحت وطأة الجائحة، بينما يبدأ عالم ما بعد كوفيد-19 بالتشكّل، لكنّ السؤال/الأزمة يبقى مُعلّقًا: نخاطب من بهذه البرامج؟ قوى ميّتة ومستقيلة؟ أم أفراد مكتملي الفردانية ببركة الأيديولوجيا النيوليبرالية، يلهثون خلف آخر نسخة من الآيفون باعتباره الهدف الأسمى لحياتهم؟ ومن هي، وأين هي، القوى القادرة على الدّفع ببرنامج يحفر قبر الرأسماليّة في لحظات فشلها واختلال توازنها وفقدانها المؤقّت لهيمنتها العالميّة؟ وهل سنتمكّن من استغلال هذه اللّحظات لإعادة الاعتبار لأشكال التنظيم الأمميّة التي يمكن لها وحدها إحداث تغييرات جذريّة في عالم محكومٍ بنظام اقتصاديّ-سياسيّ عالميّ بدوره؟

اقرأ/ي أيضًا:

"صفقة القرن" وأُفول الدّور الوظيفيّ للأردن

في مديح الكتابة الفنيّة.. كتابان من 2019 قبل أن ينتهي