27-نوفمبر-2016

عمران فاعور/ سوريا

كان فجرًا باردًا عندما غادرت القرية. مثل برودة هذا المساء. كنت رافضًا لفكرة الرحيل من أساسها، إلا أن قرار العائلة كان أقوى. آخر ليلة قضيتها هناك كانت برفقة أدهم ويوسف. لم أنم طيلة الليل، كنا قد تعودنا على السهر، بحكم انشغالنا بكثير من الأمور التي طرأت بشكل مفاجئ ومن غير إنذار. 

خرجت إلى الشارع لأدخن سيجارة. أنفث الدخان بزفرة مرتجفة. أمشي ببطء وتردد. يداي ترتجفان، مثل وتر في العود يهتز باكيًا على مقام الصبا. أبحث عن من فقدتهم لأودعهم. بحثت كثيرًا، في أماكن لقائنا. على أطراف الطرقات، في زوايا الأزقة، تحت شرفات منازلنا القديمة، في المقهى الوحيد. المقهى خال إلا من صاحبه، الكل مر من هنا. 

بحثت بين الضباب الكثيف، أبعثره بيديّ باحثًا عن اليدين النديتين، ليعود ويتكون من جديد. حتى الضباب كان أقوى. أقوى من يدي المرتجفة. عبثًا أحاول! لم أجد أحدًا. خذلتني الأماكن. عدت الى المنزل. تجولت في أرجائه. أنظاري تحط على كل شيء. كل شيء له ذكرى، تحتضنني التفاصيل، أتحسسها كأنني أودعها. ربما لم أعد أراها إلا في الذاكرة. شعرت بدفء ما يحيطني. يمر الوقت ببطء. وضبت أغراضي بهدوء. كنت مترددًا بعض الشيء.

دنوت باسترخاء متكئًا على الحائط. لا أعلم وقتها لِمَ أطلت النظر في الساعة. لم يكن هناك سِوى صوت الثواني. وكأنها تحادثني. ودعتها أيضًا. ربما أفتقد صوتها. من يعلم؟. أشعلت سيجارة أخرى، يتصاعد الدخان بسير عشوائي، إلى اللامكان، أصنع منه دوائر، تمضي دائرة وتتوسع، تلحقها أخرى أضيق، ثم تمضي متوسعة وتتلاشى، تلحقها أخرى واسعة وتتلاشى في الفلوات. ثم أعاود الكرة. أرفع يدي إلى السماء. أدعو الله. أرغب أن يستفزني أحدهم. أن يصفعني بكفه لأستيقظ من هذا الكابوس المستمر. أن يكبل يدي بشجرة الزيتون في أرضنا البعلية، ويمنعني من الحراك. يا ليتني بقيت هناك، كنت أرتويت من زيتها العذب، وأكلت من حبها الأخضر. الليل يتمدد. الليل بطيء كسول. لا أرغب بالرحيل غدًا. من يوقف الزمان؟؟ 

خسرت الكثير. خلال هذه الأعوام القليلة، خسرت إلى حد الجنون، إلى حد الاختناق، إلى حد الفقد والوحدة، إلى حد الهذيان، إلى حد الكآبة القاتلة، إلى حد الفجوع والتوحش. من يوقف الزمان؟؟ فهذا أنا الذي أحترق، وتلك روح رفاقي التي تُحلق. صوت الثواني يحادثني "تك... لن يقف الزمن، تك... لن يقف الزمن". لم يقف الزمن حينها. أمسك الليل بيد الصباح. حان الوقت الآن، قال أبي.

بعد وداعٍ سريع. قبل بزوغ الفجر. الضباب يسرح في كل جهة، كان الجو باردًا جدًا، ومياه السبيل مجمدة. أستدير محملًا بالحقائب وأشق الطريق لأختفي بين الضباب، أقف عند كل زقاق مودعًا لأيام قضيتها هنا. أقف في ساحة الحي رافعًا يدي إلى السماء مغمض العينين وألتف مرتين متتاليتين.. إنه الوداع الأخير!! لن أطيل الغياب، سأرجع يومًا.. كان فجرًا باردًا عندما غادرت. مثل برودة هذه الليلة ولا شيء غير ذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هناك قبر يشير إليكِ كثيرًا

فرصة احتياطية للنجاة