09-فبراير-2024
مقطع من قصيدة أمّنا لـ مريد البرغوثي

مقطع من قصيدة أمّنا لـ مريد البرغوثي (ألترا صوت)

مريد البرغوثي شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد قرية دير غسانة قرب مدينة رام الله بالضفة الغربية عام 1944. لكنه عاش حياته في مصر التي سافر إليها للدراسة عام 1963، ولم يستطع العودة بعد احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وقطاع غزة إثر هزيمة 1967، ومنعها أبنائها الذين كانوا خارجها من العودة إليها.

تركزت الاهتمامات الأدبية للبرغوثي في بدايتها على القصة القصيرة. لكنه اتجه إلى كتابة الشعر بعد النكسة وتحت تأثير تداعياتها أيضًا باعتبارها حادثة: "خلخلت عالمي الشخصي، وقسمت عائلتي وبلادي أنصافًا لا تتلاقى ولا تلتئم" بحسب تعبيره.

وقد تعامل مع الشعر باعتباره مسألة تخص كاتبه في طريقة استقبال العالم وإعادة إرساله. ووصفت الكاتبة والناقدة المصرية الراحلة رضوى عاشور تجربة البرغوثي، زوجها، بقولها: "يُقدّم مريد مفهوم الشعر/ النبوءة كمفهوم ضمني لوظيفة القصيدة ذاتها. فالقصيدة أساسًا رؤية تعمل على إعادة خلق الصورة المركبة للحظة الراهنة بتفاصيلها وتداخلاتها لكي ترفضها وتستشرف دمارها وتنبئ بتكوينها الجديد".

القصيدة المنشورة هنا، "أمّنا"، مأخوذة من ديوانه "طال الشتات" الصادر في بيروت ونيقوسيا عام 1987. وقد قدّم فيها الراحل صورة لطبيعة حياة الفلسطينيين ومعاناتهم سواء داخل فلسطين أو في دول الشتات، حيث تكون أشد الأمور بساطةً بالنسبة إلى الآخرين، بالغة الصعوبة وأحيانًا مستحيلة بالنسبة إليهم.


أمّنا

تَوَدُّ الخُروجَ إلى كوكبٍ خارج الأرضِ‏

حتّى تُرتِّب عالَمَها مِثْلما تشتهي.‏

فهذي البلاد، وهذي الحياةْ‏

جَعَلَتْ كلَّ أشواقِها مُعْجِزاتْ‏

 

تُريدُ لشهقةِ رائحةِ الثومِ في الظُّهرِ‏

أنْ تجمعَ الغائبينَ‏

ويُدْهِشُها أنَّ باميَةَ الأمّ‏

أضعفُ مِنْ سَطْوةِ الحاكمينَ‏

وأنّ فطائِرها في المساءِ تجفُّ‏

على شرشَفٍ لا تُنَطْنِطُ فيهِ الأيادي‏

وهل تسعُ الأرضُ قَسوةَ أنْ‏

تَصْنعَ الأمُّ فِنجانَ قهوتِها، مُفْردًا،‏

في صباحِ الشتات؟‏

*‏

 

تُوَدُّ الخُروجَ إلى كوكبٍ خارج الأرضِ‏

حيث تعجّ الممرات بالراكضينَ إلى غرفةٍ من سِواها‏

وحيث الأسِرَّةُ في الصبح فوضَى‏

وكل المخدّات تصحو مجعلكةً‏

قُطْنُها غائِصٌ في الوسَطْ‏

تريد اكتظاظَ حبال الغسيلِ‏

وأرْزًا كثيرًا تفلفلهُ للغداءِ ‏

وإبريقَ شايٍ كبيرًا كبيرًا يفور على النار عَصْرًا‏

ومائدةً للجميعِ، مساءً، يُنَقِّطُ مفرشَها‏

سمسمُ الثرثراتْ.‏

 *‏

 

تَودُّ الخُروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

حيثُ الفطامُ حرامٌ‏

وحيثُ الطفولةُ تمتدُّ للأربعينَ‏

وحيثُ زواجُ البنينِ جميلٌ جميلٌ‏

ولكِنْ مشوبٌ ببعضِ الغَلَطْ!‏

وحيثُ الكنائنُ أخفضُ صوتًا‏

وأعلى امتثالًا‏

وحيثُ الجِهاتُ جميعًا تؤدي إلى مَرْفأ الصَّدرِ‏

مِلْءَ خَليجِ الذِّراعَيْن‏

تستقبلانِ ولا تعرفانِ الوداعَ‏

تريدُ من الطائراتِ الرجوعَ فقطْ!‏

والمطاراتِ للعائدينَ،‏

تَحُطُّ بها، ثم لا تُقْلِعُ، الطائِراتْ‏

 *‏

 

تودُّ الخروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

حيثُ الوطَنْ‏

سيحتاجُ دمعًا أقلَّ وموتًا أقلَّ‏

لكي تلمسَ الكفُّ أشجارَهُ‏

دون شوقٍ‏

ودونَ اعتبارِ الطَّحِينِ مِنَ الأمنياتْ.‏

 *‏

 

تَودُّ الخروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

حيثُ تحدِّدُ أين المفرُّ وأينَ المقرُّ‏

وأين سَتدفِن موتَى المنافي‏

وتعرفُ في أي أرضٍ ستبكي‏

وعَنْ أيِّ قَبْرٍ تُدافِعُ حتّى المَمَاتْ.‏

 *‏

 

تَوَدّ الخُروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

عَلَّ مياهَ الشَّرابِ‏

تصيرُ حقوقًا لها مثل باقي العِطاشِ‏

وحيثُ تُؤَمِّن قُرصَ الدّواءِ‏

بغير التدخُّل مِنْ مجلسِ الأمن‏

أو علَّها تستطيعُ التحرُّكَ مِتْرًا‏

لتجذب جثَّةَ جارتِها من زُقَاقٍ‏

بدونِ انهمارِ الرّصاص‏

يسدّ عليها جميعَ الجهاتْ.‏

 

تَوَدُّ الخُروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

علّ هُناكَ منَ العَدْلِ ما سوفَ يمنحُها‏

بضعةً من قُلوبٍ لتَحْمِلَ هذا العذابَ‏

الذي لم يُوَزَّعْ بعدلٍ على الكائناتْ.‏

 *‏

 

تَوَدُّ الخُروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

لكِنْ هيَ الأرضُ يا أمُّ، ما مِنْ سِواها لنا‏

ولنا أن نعيشَ هُنا

مثلَ مَنْ لاحَقُوهُ طويلًا‏

وما عادَ مِنْ مخرجٍ عندَهُ غير أنْ يستديرْ‏

واقفًا‏

في مُواجهةِ الهَوْلِ كي يتدبَّر أمرَ النجاة‏

 *‏

 

تودُّ الخروجَ إلى كوكبٍ خارجَ الأرضِ‏

يا أمُّ لا كوكبٌ، غير هذي الحياةْ.‏