14-أغسطس-2017

دلدار فلمز/ سوريا

إنها الثالثة فجرًا. ضوءٌ يلوي يدَ الليل منتقمًا من أذيتنا التي سببتها عتمته. كنتُ مستيقظة وقلقي نسترجع لهيب الجرح حينَ رحل مصطفى، تذكرتُ يومها كيفَ بكت الريح متنكرةً بالمطرِ خلفَ اتفاقهما على المكابرة.

حينَ رحل مصطفى كان عمري لا يتجاوز الست سنوات، رحل عصرًا، عصرًا مستهزئًا بجراحنا، رحلَ في يوم غائمٍ أسود. راح فلا أفراح في المدينة بعد ذلك العصر، ولا دمعًا يجفّ. مات فطاف الأسى وجثا الألم بأثقل ركبتيه على حناجرنا وما عدنا نستطيع الصراخ.

يؤرقني كثيرًا أننا عبثًا نثور بوجه القلق لِئلا يبتلعنا ولا يستجيب، لكنها لعنة كما تقول جدتي دائمًا. تلك العائلة بئرٌ وأغوار من القصص التي خلّفت قلقنا هذا، تحدثتُ وإياك البارحة عن جزء طفيف من برد الذكرى القاسية التي لم يُمحَ أثرها حتى لو أحرقوا الدار، لأن تأججًا سيظل يأتينا من صوب السؤال: "كيفَ ننسى؟".

لقد اختفى مصطفى في بادئ الأمر، وما أصعبه من عذاب ذلك الذي يجعل جيشًا من الرجال يتقهقر. تقول أمي: "كنتُ أقف وخالتكِ بمحاذاة المذياع نرتجي أن يخوننا الصوت فلا يصل، وأن يتلعثم صوت المذيع ببحةٍ أو سعال، أن يتأجج في كلامه وهو يردّد قائمة أسماء شهداء العراق فلا يذكر اسم خالك".

قالت أيضًا: "كانت قد مرت خمس سنوات على رحيل مصطفى دون قدم تدله على طريق العودة". واكملت: قلت لابتهال.. إذًا مات مصطفى ولم يعرفوا ملامحه حيث قذفه الله جثة على أحد الطرق التي لم تزين يومًا إلا حين عبثت دماء أخي أمام شهوتها وأنجبوا الشهيد". قالت خالتي ابتهال: "تفي من تمك.. مصطفى راجع". أمي تظن أن الغياب علقمًا لكن الذي اتخذه كخطوة سيراه قصب سكر وأبدًا يعود.

حينَ أرسل مصطفى مكتوبًا بعد مرور عمر، أذكر وجه أمي جيدًا، كان يبكي عرض السماء فرحًا ثُم يعود الحزن فتترجى الدموع مرة أخرى وما من مستجيب.. قال إنه تزوج.. سُعاد وعمر وليلك.. هكذا أنجبَ من خلف الغياب ونحن ظنناه شهيدًا أمضى كل ذلك الغياب بمحاذاة نهر الكوثر، ما وراء الغيم، هناك عند الله.

يبدو أنه استشهد لكن شهادة خلف الجبال في بلاد ما وراء الغياب وأسبابهِ غير الواضحة مثل ضباب. حيث ساقه القدر وتزوج من سميرة.

سُجن رائد أيضًا وتلك قصة أخرى نحتاج من الوقت ليلًا مصاغًا باللاألم كي نستطيع أن نروي شتاء غياب المعتقل بسبب ذنب لا نعرفه.

أشعر أحيانًا أن علينا أن نكتب تلك القصص يومًا، وها أنا أكتب لكن بتغيّر ملامح إساءة الزمن وعبثه، بتغيّر الأسماء أيضًا، لأنني أعرف القلق الذي يرتدي أهالينا كمعطف بوجه المطر وطيش الله. يجب أن نُكتب. لم نكن عائلة عادية وسنعرف ذلك أكثر مع مرور الوقت وبوح أمي عن خفايا ذاك الوقت من العمر.. غدر صباحات الاعتقال اللئيمة، ومساءُ الخير الذي جاء بمكتوبٍ من مصطفى بعد عمرٍ يترنح شامتًا بانتظارنا الآتي من العبث، لقد تفتحنا على الحياة برعمًا صغيرًا وأخذ ينمو ويكبر ولا يد تسقيه سوى القلق.

غفران أيضًا، يوم هربت ولم تلطخ شرفنا بقدر ما لطخت ذكرياتنا بدماء عذريتها، كونك تعلم أنها عادت إلينا حاملًا من ذلك الذي ادعى أنه عنتر، الذي سيشد عبلة من حبل التقاليد ويلفها قرب البذخ.

قصص كثيرة في عائلتنا تروى، بلقيس والشهيد، سوسن والليالِ الزائفة التي تخلت من قبل عن حبيبها المعتقل، فخرية وقصة الإنجاب، رحاب وموت زوجها بطلقة من الله ما أصابته هو بقدر ما أصابت صدرها، أبي أيضًا الذي لا يزال في جعبته عمر من قلق وقصص من ألف ليلة وليلتين، يريد البوح لكنه يتخفى خلف أغنيةٍ يرددها صباح مساء: "بياع من يشتري حزني ومواويلي / ينطيني قلبه الخالي وياخذ سهر ليلي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

منْ سيرة المُبادَرات

تلاوة