25-يونيو-2018

يدعم الغرب الصراع على النفط والنفوذ في البلاد (Getty)

لا يزال الوضع في ليبيا من الأكثر تعقيدًا في المنطقة، حيث تتنافس قوى متعددة ومدعومة من أطراف عدة ومتغيرة، على النفوذ والنفط والمنشآت الحساسة في البلاد، بالإضافة إلى السلطة. وبالتالي فإنه لا يمكن الاعتماد على مركب واحد في فهم الأزمة، خاصة بعد الصراعات الأخيرة التي تلت فترة من الهدوء. وثمة وجهات نظر كثيرة ومتعددة لفهم ما يحدث، لا يبدو أن الاستناد إلى واحدة منها فقط يكفي. في هذه المقالة المترجمة عن صحيفة "فورين بوليسي" لجاسون باك، إحدى وجهات النظر هذه.


للمرة التاسعة منذ عام 2011، تبذل الفصائل الليبية المتنافسة جهدًا كبيرًا للسيطرة على استراتيجية "الهلال النفطي" للبلاد، وهو شريط ساحلي يبدأ على بعد 100 ميل جنوب بنغازي وينحني نحو 250 ميلًا إلى الغرب باتجاه سرت. في وسط ذلك الهلال، تقع محطتي النفط سدرة وراس لانوف. وقد تعرضت هاتان الجوهرتان الملكيتان الصدئتان في البنية التحتية النفطية لليبيا، للحصار من قبل زعيم الميلشيات الفيدرالي إبراهيم الجضران في الفترة من 2014 إلى 2016، وهوجمت مرتين من قبل تنظيم الدولة الإسلامية.

في 14 حزيران/يونيو، استعاد الجضران سدرة ورأس لانوف من خلال التعاون مع طاقم مختلف من الحلفاء القبليين والجهاديين وأشخاص مشردين داخليًا من بنغازي

في أيلول/سبتمبر 2016، وقعا في قبضة قوات خليفة حفتر، وسرعان ما تم استئناف الإنتاج فيهما. ثم توقف مجددًا عندما قُصفا من قبل كتائب الدفاع الجهادية في بنغازي في آذار/مارس 2017، وأُعيد التشغيل ثانيةً عندما استردهما حفتر بعد بضعة أسابيع. أعاقت هذه التقلبات في الإنتاج مستوى معيشة الليبيين وجعلت جميع شركات النفط الكبرى تقريبًا تحجم عن توفير الخدمات لهم.

اقرأ/ي أيضًا: من أجل الخروج من "الانتقالي" في ليبيا

في 14 حزيران/يونيو، استعاد إبراهيم الجضران سدرة ورأس لانوف من خلال التعاون مع طاقم مختلف من الحلفاء. وعلى الرغم من تعدد الفصائل التي تدعمه، فمن غير المرجح أن يتمكن الجضران من السيطرة على هاتين المنشأتين النفطيتين الرئيسيتين لفترة طويلة. إذ أن حفتر وحده هو من لديه قوة جوية، وقد بدأ هجومه المضاد الكامل بشكل جدي في 19 حزيران/يونيو، ما سيؤدي حتمًا إلى استرجاع الهلال بأكمله - إن لم يكن قد استرجعه بالفعل.

أثناء وصول هذا المقال إلى الصحافة، زعم المتحدث باسم حفتر ووسائل الإعلام الموالية له سيطرتهم الكاملة على راس لانوف. هرب إبراهيم الجضران وتفرق تحالفه وقُبض على بعض المقاتلين معه، ذلك لأن الجضران فشل في كسب دعم الميليشيات الرئيسية التي تدعم أشد منافسي حفتر: أولئك الذين ينتمون إلى مدينة مصراتة والمجموعات التي تسيطر على طرابلس.

وعلى الرغم من وعود إبراهيم الجضران الأخيرة بالحفاظ على البنية التحتية التي لا يمكن تعويضها فعليًا أثناء هجومه الحالي، اشتعلت النيران في صهاريج تخزين النفط الأسبوع الماضي، ما أدى إلى حرق نفط خام يُقدر بعشرات الملايين من الدولارات، ما يهدد بدوره بوقوع كارثة بيئية، ويقلل من إمكانية تحقيق أرباح مستقبلية في ليبيا.

كانت جولة العنف الحالية متوقعة للأسف، والأحاديث الفضفاضة الأخيرة الصادرة من الحكومات الغربية عن إجراء انتخابات، كانت هي الجاني الرئيسي في إثارة المشاعر، بعد أكثر من عام من الهدوء. لسنوات، أثبتت الأبحاث العلمية أن إجراء الانتخابات في ظل غياب المؤسسات القوية سيؤدي على الأرجح إلى تحفيز الصراع أكثر من حله. ففي النهاية، هناك حاجة إلى المؤسسات لتحديد ما الذي يحصل عليه الفائز الانتخابي وما الحماية التي تستحقها الأطراف الخاسرة. في غياب مثل هذه المؤسسات، تعيد الانتخابات إشعال الصراعات المتوقفة، مؤديةً في الغالب إلى منافسة عامة على السلطة

لماذا إذًا يرتكب القادة الغربيون نفس الخطأ مرارًا؟ سيفترض المتفائلون أن السبب يرجع إلى رغبة الغرب في نشر الديمقراطية. وربما يكون هذا هو الحال في كثير من الحالات، لكن عندما يتعلق الأمر بالدبلوماسية الغربية في ليبيا، فالإجابة أكثر تهكمًا من ذلك.

عادة لا تشعر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا ـالدول المتنافسة على النفوذ في الشرق الأوسط منذ أمد بعيدـ بالحاجة إلى الهيمنة في ليبيا. بينما فرنسا وإيطاليا ومجموعة القوى المتوسطة المتورطة في ليبيا، لديهم أسبابهم الجيوستراتيجية الخاصة لتحمل ما يفوق طاقتهم بالسيطرة على ما يُسمى ملف ليبيا. بالنسبة للفرنسيين منذ عام 2017، يبدو أن الإدارة الدقيقة لطريق الانتخابات مع مؤتمرات قمة رفيعة المستوى هي وسيلتهم للهيمنة في بلد يقع خارج مجال نفوذهم التقليدي.

استضافت فرنسا أول مؤتمر ليبي رئيسي في تموز/يوليو الماضي. وفي شهر أيار/مايو الماضي، وبدعمٍ فرنسي، تخلى غسان سلامة، المبعوث الفرنكوفوني الخاص للأمم المتحدة، بشكل ضمني، عن خارطة الطريق السابقة الخاصة به لليبيا، مستغنيًا عن مرحلتين كانت الأمم المتحدة قد ذكرت من قبل أنهما شرطان ضروريان لإجراء الانتخابات: تعديل الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015، وعقد مؤتمر وطني. .

تبعت ذلك على الفور قمةً في باريس للجهات الليبية الرئيسية المعنية. وفي وسط هذا النشاط الدبلوماسي، نسيت فرنسا والأمم المتحدة وضع قواعد اللعبة أو الإطار القانوني الذي يحكم هذه الانتخابات. لا أحد يعرف سواء في ليبيا أو في العواصم الدولية ما إذا كانت الانتخابات ستكون برلمانية أم رئاسية. ولا يعرفون ما سيتم عمله بشأن المسودة الدستورية التي تنتظر الاستفتاء عليها.

سعت فرنسا إلى التأثير ليس من خلال دعم حفتر ضد أعدائه، ولكن بمحاولة مباغتة اللاعبين الدوليين الآخرين بقمم مفاجئة

لم يسع الفرنسيون لتوضيح هذه الأمور المجهولة ولا لطرح أنفسهم كوسطاء غير متحيزين، بل أقاموا علاقات وثيقة مع حفتر خلال فترة رئاسة فرانسوا هولاند من خلال وزير دفاعه آنذاك، جان إيف لودريان.

عندما وصل إيمانويل ماكرون، السياسي المبتدئ، إلى السلطة في أيار/مايو 2017، قام على الفور بترقية لودريان الخبير إلى وزير الخارجية. ووفقًا لأغلب المفكرين المهمين، جعلت هذه الخطوة  الفرنسيين يضاعفون الضغط على حفتر، ما جعل فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي تتفق سياستها الليبية بشكل وثيق مع سياسات مصر والإمارات وروسيا التي دعمت الثورة المضادة منذ الأيام الأولى لسقوط نظام العقيد القذافي.

ومثل هؤلاء الذين كانوا يتنافسون في وقت أبكر، وهم المنافسون الأكثر استبدادًا على الهيمنة على ملف ليبيا، سعت فرنسا إلى التأثير ليس من خلال دعم حفتر ضد أعدائه، ولكن بمحاولة مباغتة اللاعبين الدوليين الآخرين بقمم مفاجئة وإثبات الحقائق على الأرض. كانت تلك الحبكة الفرنسية الفريدة هي محاولة للتلاعب ضمنيًا بالجدول الزمني للانتخابات للحصول على نتيجة محددة.

ليس هناك شك في أن قمة ماكرون في أيار/مايو 2018 أضفت شرعيةً على حفتر، ووضعته في مركز الصدارة من حيث إدراك الاسم في أي معركة انتخابية. ومن المفهوم أن هذا قد سبب ازعاجًا للندن وواشنطن وروما بينما لم يُخبر حلفاء فرنسا بالقمة إلى أن تم الإعلان عنها.

أما الإيطاليون، الذين استضافوا حفتر في أيلول/سبتمبر الماضي، فقد كانوا غاضبين بشكل خاص. ووسائل الإعلام الليبية مليئة بالمزاعم بأن العنف الحالي في الهلال النفطي هو نتيجة مباشرة لهذه التوترات الفرنسية-الإيطالية. وليس من المستغرب أن الفرنسيين والإيطاليين هم أصحاب المصلحة الرئيسيين في قطاع الهيدروكربونات في البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: تقرير: إعلام تحريضي يصب الزيت على النّار في ليبيا!

يميل الناخبون الإيطاليون إلى رؤية الصراع في مستعمرتهم السابقة من خلال عدسة الهجرة. وبناءً على ذلك، يتنافس السياسيون الإيطاليون على التشدد في التعامل مع الهجرة، من خلال إقامة علاقات أمنية مع أصحاب المصالح الليبيين والسياسيين وقادة الميليشيات لمنع المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، من المرور عبر ليبيا والوصول إلى شواطئهم.

على العكس، مال السياسيون الفرنسيون من كافة الأطياف منذ عام 2011 إلى رؤية ليبيا بمثابة فرصة لإثبات حسن نواياهم الديغولية عبر ترسيخ وتثبيت وضع فرنسا على أنها القوة الدولية الرائدة في ليبيا. وربما يرون أيضًا أن فرصتهم في قيادة ليبيا أفضل من فرص القوى الإنجلوسكسونية المشتتة، مستغلين اللحظة الفريدة التي تهتم فيها إدارة ترامب والحكومة البريطانية -التي استنفدت قواها في مسألة خروجها من الاتحاد الأوروبي- بشؤونهما الداخلية.

وبشكل معاكس، يبدو أن العنف الحالي قد سُمح به فيما تغاضى إلى حد كبير المعارضون الليبيون والدوليون للأحادية الفرنسية وذلك لأن الجضران وجه ضربة غير مباشرة لعميل فرنسا المهم، الجنرال حفتر. بدأ اعتداء إبراهيم الجضران يختمر منذ أن أعادت كتائب الدفاع في بنغازي تشكيل نفسها لشن هجوم على قاعدة تمنهنت الجوية في أواخر أيار/ مايو، وكان لدى القوى الدولية - بما فيها فرنسا - تحذير مسبق، لكنها فشلت في إرسال رسالة قوية لردع الهجوم على المنشآت النفطية، ولاحظ حفتر استعدادات إبراهيم الجضران لهجوم قبل ثلاثة أسابيع.

وبدت فرنسا أكثر اهتمامًا بالحفاظ على مظهر الحياد المخادع، كونها وسيطًا بدلًا من كونها طرفًا فعليًا في الصراع، واستنادًا إلى معلومات من مصادر وسائل التواصل الاجتماعي الموثوقة، من المستحيل افتراض أن الحكومات الغربية بوغتت بالضربة، إذ ترتبط كافة القوى الدولية الرئيسية نظريًا في الرغبة في حماية البنية التحتية النفطية الليبية، كما  أن باستطاعة زيادة إنتاج النفط فقط إنقاذ ليبيا من الدمار المالي، في حين تفتقر ليبيا إلى توفير الأمن الكافي للبنية التحتية المتضررة ليقوم أفضل الخبراء بإصلاحها.

لكن من الناحية العملية، فقد خذل معظم الحلفاء المحايدين محليًا، وهم الولايات المتحدة وبريطانيا، الليبيين مرة أخرى. إذ أنه حين بدأ هجوم إبراهيم الجضران، كان ينبغي على واشنطن ولندن وضع خطة موثوقة لحماية البنية التحتية النفطية التي لا تقدر بثمن، إلى جانب التحدث بصرامة عن العواقب الوخيمة مع أي شخص هاجمها. لكن لن تمنع الإدانات بأثر رجعي الجولة التالية من سفك الدماء وحرق النفط.

ومن المفارقات أنه في ضوء شدة وتواتر القتال، لا تسمح السيطرة على محطات النفط لأي فصيل بجمع الأموال التي تدفعها الشركات الدولية لشحنات النفط الخارجة. إذ تضمن عقود إنتاج وشراء ونقل النفط الخام الليبي الموقّعة مع المؤسسة الوطنية الليبية للنفط أن جميع المدفوعات لصادرات النفط تتدفق إلى بنك ليبيا المركزي في طرابلس. ومع ذلك، لا تزال مختلف الفصائل ترغب في السيطرة على الهلال النفطي بسبب النفوذ السياسي الذي يهدد بإغلاق الصنبور.

بشكل مأساوي، لقد كنا هنا من قبل. في صيف عام 2014، احتج الجانب الخاسر في انتخابات مجلس النواب التي أُجريت في حزيران / يونيو (الإسلاميين والمصراتيين) بشراسة ثم هاجموا بعد ذلك بأسابيع فقط مطار طرابلس الدولي وأعلنوا حكومة منافسة خاصة بهم.

ولو اجتمعت الولايات المتحدة وبريطانيا فقط مع حلفاء شمال أوروبا وشركاء إقليميين لإصدار ضمانات أمنية متشددة لحماية البنية التحتية الأساسية في ليبيا،  لكان من الممكن إيقاف العربدة المدمرة التي تصاحب نوبات القتال العام للجميع.

لا تسمح السيطرة على محطات النفط لأي فصيل بجمع الأموال التي تدفعها الشركات الدولية، حيث تذهب المدفوعات إلى بنك ليبيا المركزي في طرابلس

قد حان الوقت للتعلم من أخطاء الماضي. يجب على بريطانيا والولايات المتحدة ألا يسمحا بإجراء انتخابات ليبية أخرى يحصل فيها الفائز على كل شيء. وبدلًا من الانخراط في الثرثرة الرخيصة عن الديمقراطية، ينبغي على الدبلوماسيين المخضرمين في واشنطن ولندن أن يحاولوا فرض قواعد اللعبة لتصحيح عقلية الخاسر في ليبيا حيث يحاول الفائزون تهميش المهزوم والسيطرة على كل الغنائم.

لقد طال انتظار إصدار تعهدات ملموسة لحماية البنية التحتية المادية الحيوية في ليبيا، وتحديدًا الكهرباء والماء وشبكات النفط، فضلًا عن عدد قليل من التكنوقراط الليبيين الشجعان الراغبين في تنفيذ إصلاحات اقتصادية مؤلمة. وبدون مثل هذا الدعم، سيواجه حتى أصحاب الشأن الليبيين الأكثر شجاعة صعوبة في حماية الأصول السيادية لبلدهم من الافتراس، فهم يعلمون أنهم إذا خاطروا لتصحيح الظلم، فمن المرجح أن ينتقم منهم رجال الميليشيات الساخطون الذين يستفيدون من الوضع الراهن الفاسد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليبيا.. كرّ وفرّ في صبراتة والحسم لبنغازي

شبح ديمقراطية المحاصصة في ليبيا