11-أكتوبر-2021

الكاتبة والمترجمة كريمة سماعلي

ألترا صوت - فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


كريمة سماعلي كاتبة ومترجمة من الجزائر. تعمل في مجال التعليم. وتهتم في ترجماتها بالقضايا السياسية والاجتماعية.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

إن كانت نشأتي في بيت يحوي على مكتبة كبيرة فيها الكثير من الكتب ليس خيارًا، فإن لجوئي إلى عالم الكتب حبوًا وهرولة بعد ذلك خيار رائع أتقنه بكل جوارحي، وبالعودة إلى البدايات، حيث بدأت تتفتح حواسي على عالمي الخارجي، صنعت غرفة الصالون التي زينت بمكتبة ضخمة فيها الكثير من الكتب، بداية حقيقة لصناعة وعي أرهقني لاحقًا كوني كنت بنت مزاجية، ترى في عالم الطفولة حولها عالمًا ساذجًا، تقول والدتي بشأن ذلك أنني كنت أفر من ألعاب العرائس إلى تقليب صفحات الكتب، إذ كانت المكتبة عالم مفتوح على الدهشة، شكل ملامح شخصيتي لاحقًا، حتى وإن لم اختر عناوين الكتب المتنوعة بين كتب الطب والهندسة اختصاصات أعمامي آنذاك، وكتب الدين بحكم توجههم الإسلامي، فقد كان للكتب الأدب والفلسفة والمجلات رفوفًا كثيرة، ومن هنا بدأ عالمي يتضح رويدًا رويدًا.

ولأن للبداية دائمًا سحرًا لذيذًا، فقد كانت مجلتا العلوم والحياة والعربي الصغير اللتان تصلان عبر الاشتراك، عالمًا مليئا بالألغاز، كنت انتظر وصولهما بشوق كعاشق يقف عند ناصية الطريق في انتظار حبيبته. هاتين المجلتان بالصفحات الملساء، فاردة مقالاتها بلغة لا أجيد فك معانيها، وشبيهة بالتعويذة كانت مساحة للفرح لا أمل من تقليبها وحفظها كمن يحفظ ابنه، ولقد تفاقم ارتباطي بالكتاب بفضل عائلتي فلم تكن تجد في اندفاعي المبكر نحو ها أمرًا غير محمود لطفلة لم تدخل بعد المدرسة، كما أن أعمامي لا يتذمرون من الإجابة عن كل التساؤلات التي تفوق أحيان استيعاب عقلي الصغير، فكانت كل هدية تصلني منهم لاحقًا، هي الكتاب، وإن كانت الكتب والمعاجم –التي كنت احفظ معاني الكلمات منها بسهولة وترتيب بطريقة عجيبة - التي يختارونها لي لا تلبي أغلب ولا توافق أغلب الوقت شغفي وذائقتي، فقد كانت تلك أجمل بكثير من أي لعبة يقنينها لي والدي.

باكرًا تركت بيت عائلتي الكبيرة لأنتقل مع والدي إلى بيتنا الجديد، بيت لا كتب فيه إلا بعض الكتب المتعلقة بالكهرباء تخصص والدي والكتب الدينية، كان البيت الواسع يضيق بي فمعشوقتي في مكان وأنا في آخر، كنت لا أنام حين تخبرني والدتي أننا سنزور جدتي، فبيتها بيت ينام على كنز عظيم. وحين توسعت معارفي في القراءة أصبحت متسولة كتب، كل كتب يلفتني عنوانه أطلبه من صاحبه حين أعجز عن إيجاده في مدينتي، فأقراه بولع، قرأت في سن مبكرة لمصطفى المنفلوطي، وللعقاد ولتوفيق الحكيم، لجبران خليل جبران، وفي كل كتاب اقرأه كنت أتقمصه، ليعيش معي لأيام وليالي. في مرحلة الإعدادي عثرت على كنز آخر، مكتبة المؤسسة التي أدرس بها، كانت فضاء ذو رهبة وعالم مليء بالمفاجآت لينمي ذائقتي، ويشبع جوعي بأكثر من كتاب وأكثر من أسلوب، كنت أستعير الكتاب فأكمله في ليلة أو ليلتين لأتمكن من طلب آخر، حتى أن المسؤول عن المكتبة مازحني قائلًا هل تقرئين أو تبتلعين الكتب، فأجبت الاثنين معًا. ربما أعتقد أنني أستعير الكتاب لمجرد الاستعارة، وربما بالكاد أتصفحه. في تلك الفترة اكتشفت أحلامي الكبيرة، كل نص أقرأه أخالني صاحبته، تحسن أسلوب كتابتي تدريجيًا واتسعت مخيلتي وبدأت في الاعدادي كتابة أول خواطري، وكانت اللحظات التي ألجأ فيها إلى مذكرتي الصغيرة شبيهة بطقس صلاة، أخلو بنفسي محاولة تطويع الحرف وأهيم حلمًا فأغدو كاتبة كبيرة. وهكذا عجنت سنواتي الثالثة عشر الأولى، وكانت بداية للحياة مع الكتاب.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

من المجحف أن أتحدث عن كتاب واحد، فكل مرحلة من مراحل الحياة ثمّة كتاب نحت عقلي وذائقتي، وكل مقولة عثرت عليها في قصاصة أو مجلة دفعتني للبحث عنها في كتابها الأصلي، كل كتاب كنت أقرأه يدفعني لقراءة كتب أخرى، كل صديقة وصديق اكتشفهم في الحياة يعرفانني على الكثير من الكتب، كان شعر محمود درويش معجزة الشعر الحديث بالنسبة لي، اقبلت عليه بشغف لا يوصف، وساهم درويش بفضل شعره النضالي أن يجعلني التحم أكثر فأكثر بشخصيتي المنحازة للضعفاء والمؤمنة بحق الناس في الحرية وحق الفلسطيني في قيام دولته، ورسخت المجموعة القصصية لطاهر وطار رحمه الله الروائي الجزائري "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" نظرتي لزمن ما بعد الثورة الجزائرية وعمقت رواية "غربة تحت الصفر" لغادة السمان جرحًا شاسعًا يمتد من المغرب إلى المشرق، واطلعت على فلسفة وفكر مالك بن نبي من خلال مشكلات الحضارة ومجالس دمشق والفعن.

على مراحل عمرية مختلفة كانت الكتب تحيلني إلى عالم أكثر وعي بقضايا الأمة العربية والعالم بشكل عام، ليشكل تاريخ الجزائر الحصة الأكبر في قراءاتي، قرأت مذكرات محمد حربي، ويوسف بن خدة، ثم توسعت القراءة لأطلع أكثر على أوضاع العالم العربي فقرأت للكواكبي، وصادق جلال العظم، ولجورج طرابيشي والجابري، وقرأت بما سمح به الوقت أعمال مترجمة لهيغل وهيدغر وحنة أرنت. ولكل هذه الكتب دور كبير في توجيه مساري الفكري، أما الرواية، فحضورها كثيف حتى وإن صادف وكنت اعكف على قراءة كتاب آخر، خلفت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح بداخلي، تساؤلات كثيرة حول الهوية والآخر الذي يختلف عنا وعن مجتمعاتنا العربية، وكانت رواية 1984 لجورج أورويل بانوراما حقيقية تصور عوالم الاستبداد وقراءة استشرافية لما نعيشه اليوم في ظل أنظمة شمولية قامعة لكل فكر معارض، بدون أن أغفل عن روائع الأدب العالمي، فقد سحرتني رواية زوربا اليوناني لنيكوس كازانتزاكيس، ورائعة دون كيشوت للإسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا، وكان لروايات القادمة من أمريكيا اللاتينية، الفضل في تجديد دماء مخيلتي وانفتاحي على عوالم اخرى وأساليب أخرى وقضايا اخرى.

لست أعلم إن يصح أن استعمل مفردة الفتنة، لكنها الحقيقة، فتنتني مذكرات الحكيم جورج حبش ولا أمل مطلقًا من تكرار قراءتها، فالحكيم مدرسة نضالية، من الضروري أن نضمنها مناهجنا الدراسية. في الواقع أعجز عن حصر، قائمة الكتب التي أثرت في وأثرت معارفي، فعلى سبيل الحصر كانت كتب فانون فاصلة، ساعدتني في فهم واقع الثورة الجزائرية وعلمتني الكثير عن حقب تاريخية ولدت بعدها بعقود.

  • من هو كاتبك المفضل ولماذا أصبح كذلك؟

سؤال مباشر لكنه مفخخ، أخاف إن ذكرت كاتبًا نسيت آخر، لكن بإمكاني أن اقول أن أول كاتب أدهشني ببساطة أسلوبه وعمق فكرته كان سانت اكسيبوري في الأمير الصغير، وصرت لاحقًا انصح الجميع بقراءته، حتى أنني تحمست لترجمة جديدة يشتغل عليها صديق لي برسومات رائعة، أعتقد أنه عمل يستحق أن يترجم أكثر من مرة، ثم يأتي أمين معلوف كاتبي الأول ولو كنت روائية لتمنيت أن أكون أمين معلوف، قدم أمين معلوف روايات تاريخية بلغة مدهشة، صور فيها عوالما رائعة، يشدنا فيها الحنين إلى زمن ليس في متناولنا، كما أن غسان كنعاني كان كاتبًا رمزًا، حمل قضية ومات بها ولأجلها، ثمة كتاب آخرين كرضوى عاشور في عالم الرواية أما الفكر، فبثقة أقول أن، ادوارد سعيد شكل فكرًا مبهرًا ومتقدمًا بالنسبة لي من خلال دراسته حول الاستشراق، وكان كتابه تأملات حول المنفى عين تفتح على عالم الشتات والتشرد لافهم أكثر مأساة المشردين عبر العالم، كذلك محمد اركون، اميل سيوران، جون جاك روسو...

أخيرًا، أنا تحت تأثير سحر فرانز فانون خاصة بعد اشتغالي على كتابه "العام الخامس للثورة الجزائرية" فكان فرصة لأقارن بين وعي الشعب الجزائري المتقدم في مرحلة الثورة ووعيه المتراجع في زمن بعد الاستقلال، فتح هذا الكتاب أمامي سلسلة ضخمة من الأسئلة حول مسار بناء الدولة الوطنية. وساعدني على فهم المسألة الاستعمارية في الجزائر في سياق زمني مختلف تماما عن زمن الثورة.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه؟

طبعًا، لعل كتابة الأفكار والاقتباسات شغف آخر تعودته منذ الصغر، فهذه العادة تلازمني إن أردت الكتابة حول كتاب معين، خاصة إن تعلق الأمر بكتب النقد والتاريخ والفكر، إذ ترسخ، كتابة الملاحظات، الفكرة وتسمح بتشكيل ملامح القراءة النقدية الأولى، وبأكثر من قراءة للنص الذي ننكب على قراءته.  في حين لا أواظب كثيرًا على هذه العادة حين أقرأ الشعر القديم أو الحديث أو حتى الرواية، ذلك أنني أتقمص أحداث الرواية وهو ما حدث معي عند قراءة الكثير من الأعمال.

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

أنا كائن وفي لكل ما هو قديم، ففي قراءة الكتب الورقية متعة لا يمكن أن توفرها الكتب الإلكترونية، معها أعيش حميمية لا توصف، ينام معي الكتاب على سريري وعلى متن صفحاته أسافر عبر أزمنة وأماكن مختلفة، تعلق رائحة الورق في ذاكرتي وتصنع حنيني للبداية، لبيت العائلة حيث المكتبة وجلسة العائلة وأخذ الصور والنقاشات الجادة التي لم أكن افهمها لكن كانت تسحرني. وعلى الرغم من ذلك فلا استغناء عن الكتاب الورقي هذا الاكتشاف العظيم الذي قدم خدمة نبيلة للإنسانية، ولأولئك الذين يجدون في اقتناء الكتب ترفًا عير محبب، فالكتاب الإلكتروني موجود في الجيب وبإمكان الشخص أن يقرأه متى شاء في السيارة في المقهى وفي محطة المسافرين، إنه عالم مدهش وقد مكنني من جمع عناوين أكثر من رائعة أثري بها مكتبتي الالكترونية.

أقرأ الكتاب الورقي بعشق، كمن يحمل ابنه وأقرأ الكتاب الالكتروني وانحني اجلالًا لمخترع هذه التقنية العجيبة، عالمي منحصر بين الكتب الورقية والالكترونية خاصة أننا لا نعثر على كل العناوين في الجزائر، بشكلها الورقي فيعوضها الكتاب الإلكتروني.

  • حديثينا عن مكتبتك

مكتبتي لم تكتمل ملامحها النهائية بعد ولا أعتقدها تنتهي إلا بموتي، لكني فخورة بكل جزء أقوم بتأثيثه بكتب أختار عناوينها بعناية في كلّ مرة، لا زال اقتناء الكتب يشكل أجمل اللحظات، تضم مكتبتي روايات عالمية رائعة وكتب فكرية مهمة، وأخرى في الفلسفة، عن دراسات نقدية أدبية وأخرى في السياسة، تشكل فيها اللغة العربية بما فيها الترجمات الجزء الأكبر، لكن للفرنسية أيضا حضور قوي كوني ادرس الفرنسية وأترجم من العربية للفرنسية والعكس، فأحرص على اقتناء أعمال لكتاب فرنسيين كبار في حين تكاد تختفي الإنجليزية إلا من بعض الكتب والروايات التي اقتنيتها من معارض الكتاب.  وأفكر في أن أسطو على مكتبة العائلة الكبيرة التي وزعت في صناديق كبيرة كانت تملكها جدتي رحمها الله، طبعًا أمزح لكن أحاول أن أتفاوض مع عمي بشأنها.

  • ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟

في الوقت الحالي أقرأ كتاب التأثير السّيبراني لماري أيكن، كما وأعيد بكل شغف قراءة ليون الأفريقي لأمين معلوف في النسخة المترجمة للعربية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة نبيل مملوك

مكتبة حسين الضاهر