30-أكتوبر-2020

غلاف الكتاب

ألترا صوت – فريق التحرير

ننشر هنا مقدمة كتاب "الكتابةُ بالقَفْز والوَثْب" للمفكِّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، الذي صدر حديثًا عن منشورات المتوسط.


ليس هذا العنوان مِنْ وَضْعي، وإنما هو عنوان مقتَبَس، كما لعلَّ القارئ سيتبيَّن. اقتبستُهُ عن كيليطو الذي اقتبسَهُ بدوره عن مونتيني. كان عبد الفتَّاح قد ذَكَرَهُ ضمن محاضرة ألقاها في إحدى الدول العربية، تحدَّث فيها عن مساره وطريقته في الكتابة، حيثُ قال: "كنتُ في نهاية السِّتِّينيَّات وبداية السَّبعينيَّات من القرن الماضي أستاذاً للأدب الفرنسي، وكنتُ أهتمُّ شيئًا ما باللِّسانيَّات، لأنه كان يُشاع وقتئذ أنها تمنحنا الطريقة المُثلى لتحليل النصوص الأدبية. مَنْ لا يُتقن اللِّسانيَّات لن يفلحَ أبدًا في مساره الأدبي. كنتُ تعيسًا أمام هذه الضرورة القاطعة، وكنتُ أصغي إلى اللِّسانيِّيْن يتحدَّثون بحماس، وأنا بينهم كأنني مصاب بالتَّوحُّد، لا أفهم ما يقولون. تبيَّن لي في ذلك الوقت أنني لستُ مؤهَّلًا للخوض في التنظير اللِّسانيِّ والأدبي، مع أنني استفدتُ كثيرًا من علمائه وأخصائيِّيْه. أَضِفْ إلى هذا عَجْزيَ الواضح عن كتابة دراسة رصينة وفق المعايير الجامعية المعهودة. وهذا واضح في أطروحتي عن المقامات، أطروحة هي بالأحرى، كما قيل لي، محاولة نَقْدِيَّة. وبالجملة، لستُ قادرًا على تأليف كتاب بمقدّمة وخاتمة، وبينهما بحث مستفيض لموضوع ما، في فصول متراصَّة البناء. كان هذا يُقلِقني، ولم أتجاوزْهُ إلَّا يوم تبيَّن لي أن ما كنتُ أعتبره عجزًا يمكن أن أجعل منه الموضوع الرئيس لمؤلَّفاتي. ليست طريقتي في الكتابة من اختياري، ما هو شبه مؤكَّد أن ليس بمستطاعي أن أكتب بطريقة أخرى. اتَّضح لي هذا وأنا أقرأ الجاحظ، فهو الذي خلَّصني من شعوري بالنَّقْص يوم تبيَّنتُ أنه، وهو أكبر كاتب عربي، لم يكن يستطيع، أو لم يكن يرغب في إنجاز كتاب بمعنى استيفاء موضوع ما والمثابرة عليه والسير قُدُمًا دون الالتفات يمينًا أو يسارًا. هو نفسه يُقِرُّ بهذا، ويعتذر مرارًا على، على ماذا؟ كدتُ أقول على تقصيره، وما هو بتقصير. يُعلِّل الأمرَ بتخوُّفه من أن يَمَلَّ القارئ، والواقع أنه هو أيضًا كان يشعر بالملل، ويسعى إلى التَّغلُّب عليه بالالتفات هنا وهناك، وهذا سرُّ استطراداته المتتالية. أسَّس الجاحظ بصفة جليَّة فنَّ الاستطراد. دشَّنَ فنَّ الانتقال المفاجِئ من موضوع إلى موضوع، من شِعْر إلى نَثْر، من موعظة إلى نادرة، من مَثَلٍ إلى خُطْبَة، من جِدٍّ إلى هزل. الجاحظ أو شِعْرِيَّة الاستطراد... وإذا كان من اللَّازم تشبيهه بكاتب أوروبي، فلا أرى أفضل من الفرنسي مُونتيني (القرن 16) الذي كان يكتب، على حَدِّ قوله، "بالقَفْز والوَثْب" («à sauts et à gambades»)".

يُقرِّب بارت التكثيف في الكتابة المتقطِّعة من التكثيف الموسيقي، ليُبيِّن أن الكتابة المتقطِّعة تضبطها موسيقى مغايرة

كدتُ أنا بدوري، أن أعتذر على هذا الاستطراد، وعلى طول هذا الاقتباس، ولا أخفي القارئ أنني سأكتفي، في هذا التقديم، بالتَّوقُّف عنده إلى حَدٍّ ما بشيء من "القَفْز والوَثْب".

اقرأ/ي أيضًا: عبد السلام بنعبد العالي في "لا أملك إلَّا المسافات".. توليد الفكر واللغة

السؤال الأوَّل الذي يتبادر إلى ذهننا ونحن نقرأ هذا الاقتباس هو: ما الذي يوجد وراء هذا التَّنقُّل بين الموضوعات والأجناس؟ وبعبارة النَّصِّ: ما الذي وراء الاستطراد؟ أهو التَّخوُّف من مَلَل القارئ كما يبدو أن الجاحظ يرى؟ لو صدَّقْنا ما كان كَتَبَهُ كيليطو عن صاحب الحيوان، الذي يعتبر القارئ عدوًّا، لقلْنا إن الجاحظ هو آخِر مَنْ يكترث لأمر القارئ، وهو آخر مَنْ يحرص على سلامة سيكلوجيَّته وإنقاذه من المَلَل. سرعان ما ينتبه عبد الفتَّاح إلى هذه المسألة، ويوعز الأمر إلى مَلَل الجاحظ نفسه. الكاتب هو الذي يملُّ التَّقيُّد بموضوع بعينه، والخضوع لضوابط الكتابة. المَلَل يتولَّد عن الرتابة، عن الاسترسال الرتيب، عن رتابة الزمن، عن الزمن الموصول.

في كتابه عن نفسه Barthes par Barthes، يربط رولان بارت الكتابة المتقطِّعة بأمرَيْن اثنَيْن: الموسيقى، وموسيقى فيبرن على الخصوص، ثمَّ رياضة الكاتش.

يُقرِّب بارت التكثيف في الكتابة المتقطِّعة من التكثيف الموسيقي، ليُبيِّن أن الكتابة المتقطِّعة تضبطها موسيقى مغايرة، وأن كثافتها أقرب إلى التكثيف الموسيقي الذي يضع النغمة محل "الاسترسال"... فيُومِئ إلى وجهة، كما يتجلَّى هذا في المقطوعات الموجزة لفيبرن: غياب للإيقاع، جلال ومهارة في سرعة التَّخلُّص".

هذا عن علاقة الكتابة المتقطِّعة بالموسيقى، فما علاقتها برياضة الكاتش؟ نعلم أن صاحب أسطوريات كان قد سَبَقَ له أن عقد مقارنة مطوَّلة بين مباراة الكاتش ومباراة الملاكمة، فاستنتج أن الأخيرة عبارة عن حكاية تُبنَى تحت مراقبة أعين المشاهد. أمَّا في الكاتش، فالمعنى يُستمَدُّ من اللحظة، وليس من الدوام والاستمرار. المُشاهِدُ هنا لا يَشغَل بَالَهُ بعملية تكوُّن ونشأة، وإنما يترقَّب الصورة اللَّحظيَّة لتجلِّي بعض الانفعالات. يستدعي الكاتش، إذًا، قراءة فورية لمعانٍ تتراكم دونما حاجة لرَبْطها فيما بينها، فلا يهمُّ المُشاهدَ هنا مآل المعركة الذي يمكن للعقل أن يتتبَّعه. أمَّا مباراة الملاكمة، فهي تستدعي معرفة بالمآل، وتبيُّناً للغايات والمرامي، وتنبُّؤًا بالمستقبل. بعبارة أخرى، فإن الكاتش حصيلة مَشَاهد لا يُشكِّل أيٌّ منها دالَّة، تتوقَّف على غيرها من المتغيِّرات: فكلُّ لحظة تتطلَّب إحاطة كُلِّيَّة وانفعالًا ينبثق في انعزاله وتفرُّده من غير أن يمتدَّ، ليُتوِّج مآلًا بأكمله. "في الكاتش تُدرَك اللحظةُ، وليس الدَّيمومةَ". إنه مشهدٌ مَبنيٌّ على الانفصال والتَّقطُّع. وتقطُّعه و"عدم انسجامه يحلُّ محلَّ النظام الذي يُشوِّه الأشكال".

تُكرِّس الكتابة "بالقَفْز والوَثْب" نوعًا من الانفتاح المتواصل. ولعلَّ هذا ما يعنيه أصحاب البلاغة والنَّقْد الأدبي بالاستطراد

مباراة الملاكمة حكاية تروي حركة موصولة، تصدر عن أصل، لتمتدَّ في الزمان، كي تسير نحو غاية، أمَّا مباراة الكاتش، فإن دلالاتها تقف عند اللَّحظيِّ الذي لا يتَّخذ معناه من غاية الحركة ومسعاها، ولا تتوقَّف دلالته على كُلِّيَّة خارجية.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي

لا يعني هذا مطلقًا أن الأمر يقتصر على المقابلة بين الزَّمانيِّ واللَّحظيِّ، بين الحركة والتَّوقُّف، بين التاريخ ونَفْيه، بقَدْر ما يعني تمييزًا بين تاريخ وتاريخ: فـ "تاريخ" مباراة الملاكمة تاريخ توليدي تكويني génétique، لا يُدرِك المُشاهِدُ معناه إلَّا إنْ هو بَنَى Construire حكاية تربط الأصل بالغاية، كي ترى في اللحظة، ليس معنى في ذاته، بل حلقة في سلسلة مترابطة، يتوالد فيها المعنى، ولا يكتمل إلَّا عند معرفة المآل. لذا يُعلِّق بارت: "في الملاكمة تقع المراهنة على نتيجة المعركة". أي أن الأمور تكون في الملاكمة بخواتمها، أمَّا في الكاتش، "فلا معنى للمراهنة على النتيجة" لسبب أساس، وهو أن المعنى لا يمثُل في حركة الأصل، ولا يَنتظِرُ المآلَ، وإنما يتجسَّد في غِنَى اللحظة. بيد أن هذا لا ينفي التراكم، ولا يستبعد التاريخ. لكنه ليس التاريخ التَّاريخانيَّ، وهو ليس حركة حاضر ينطلق من أصل لينموَ في اتِّصال وتأثير وتأثُّر حتَّى يبلغ النهاية والغاية والمعنى sens. ليس التاريخ هنا سريانَ المعنى ونُمُوَّه وتطوُّرَه développement في مسلسل مستمرٍّ و"سيرورة" processus متواصلة، وإنما هو إعادة اعتبار لكثافة اللحظة، لكي تحتفظ بثرائها، من غير أن تذوب في الديمومة القاهرة.

لم أتوقَّف طويلًا عند هذه المقارنة، كي أستنتج أن الجاحظ أقرب إلى الكاتش منه إلى الملاكمة، وإنما لأتبيَّن معكم أنه لا يكفينا تحديد طبيعة الكتابة "بالقَفْز والوَثْب" بِرَدِّها إلى حالة نفسية، وتفسيرها بمَلَل القارئ أو حتَّى مَلَل الكاتب، لا يكفينا التأويل السّيكلوجيّ، وإنما لا بدَّ من التأويل "الشِّعْرِيّ" الذي يُمكِّننا من أن نذهب حتَّى القول إنه مَلَل الكتابة ذاتها.

توضيحًا لذلك ربَّما ينبغي تقصِّي الزَّمانيَّة التي تفترضها هذه الكتابة. فالظاهر أنها تكرِّس مفهومًا مغايرًا عن الزمان. من المؤكَّد، وكما يبيِّن بارت، أنه ليس الزَّمان الهيجلي الذي ينمو الكائن بمقتضاه بأن يكشف عمَّا في أحشائه Dé-veloppement، وتغدو فيه الكتابة خاضعة للثُّلاثيَّة الجدليَّة، أي لمقدِّمة فتحليل يسعى نحو غاية، أو، إذا أحببْنا استعمال الألفاظ المعهودة: مقدّمة فتحليل ثمَّ خاتمة.

على عكس هذا السعي نحو الغايات واستخلاص النتيجة، على عكس هذه الكتابة التي تكون فيها المعاني غاياتٍ، كما يتَّضح من دلالة اللفظ الفرنسي Sens (الذي يجمع بين المعنى والسعي والاتِّجاه والغاية)، تُكرِّس الكتابة "بالقَفْز والوَثْب" نوعًا من الانفتاح المتواصل. ولعلَّ هذا ما يعنيه أصحاب البلاغة والنَّقْد الأدبي بالاستطراد. إنه خُرُوج، لا ينفكُّ يتمُّ.

الشَّذَرَات ليست خلاصات ونتائج، وهي ليست حِكَمًا وحقائق نهائية. الشَّذَرَة ليست حقيقة مُستغنِية عن كلِّ تدليل

لنعد من جديد إلى كُتيِّب بارت عن نفسه، وتحديده لطبيعة التكثيف في الكتابة المتقطِّعة. فإذا كانت إحدى المميِّزات الأساسية للشَّذَرَة في نظره هو خاصِّيَّتها التَّكثيفيَّة "إلَّا أن الشَّذَرَة، كما يقول، ليست مع ذلك تكثيفاً لفكرة أو لحكمة أو لحقيقة". الشَّذَرَات ليست خلاصات ونتائج، وهي ليست حِكَمًا وحقائق نهائية. الشَّذَرَة ليست حقيقة مُستغنِية عن كلِّ تدليل. إنها ليست بديهة لا تقْطَع مسافات، ولا تحتاج إلى توسُّطات، ولا تسكن خطابات. الشَّذَرَة لا تُغنِي عن إعمال الفكر، إنها تدعو إليه، وتحثُّ عليه، بل هي ما يستفزُّه.

اقرأ/ي أيضًا: في المَشي كتابةً

لا تستهدف الكتابة "بالقَفْز والوَثْب"، إذًا، خلاصة خطاب، و"زبدة" فكر، وعلى رغم ذلك، فهي ليست نظرة "خاطفة"، ولا هي توقُّف وعدم حراك. إنها "حاضر" متحرِّك، حتَّى لا نقول هاربًا. فهي تُومِئ إلى وجهة، من غير أن تدلَّ على طريق. كان ديكارت في معرض جوابه على إحدى الرسائل التي وَجَّهَتْ اعتراضاتٍ إلى أحد مؤلَّفاته، قد ميَّز، في الكتابة، بين ما أطلق عليه "منهج العرض" Méthode d’exposition وما أطلق عليه "منهج الاكتشاف" Méthode de découverte مبيِّنًا الفرق الشاسع بينهما. ضدَّ هذا الفصل الدِّيكارتيِّ بين المنهجَيْن، لنقل إن كيليطو، عندما يُومِئ إلى مونتيني، ويتبنَّى عبارته، فَلِيُعارِض ديكارت ضمنيًا، ويعتمد منهجًا يمزج بين العرض والاكتشاف في الوقت ذاته، فيعتبر أن الكتابة ليست ex-posé، ولا Dé-veloppement إنها لا تُخرج ما في أحشائها، ولا تُفصِح عن شيء جاهز، ولا تعمل على عرض ما تمَّ اكتشافه، وإنما تكتشف ما تعرضه، تكتشف عندما تكشف. الكتابة مختبر الفكر. إنها سعي لامتناهٍ لضبط الفكر وهو يعمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الفتاح كيليطو.. جاحظ يكمل الغناء

الترجمة وخلق القيمة في عالم الأدب