04-مايو-2017

عبد الفتاح كيليطو (1945)

يجب أن يكون ذلك الرجل قد فرَّ من بغداد بعدما فسدت الأمور في دواوين الخليفة ونُهبت وشُوهت الترجمات، فرَّ بمحبرته وما حفظه من كتب، فرّ بوحدته، وعمل لدى الأندلسيين متكتمًا على دينين ولغتين وآلاف الأسرار. 

كيليطو زائرٌ لجنّات السرد دون أن يسلخ من أي عبارة أو حادثة عطرها الخاص بزمنها

في بغداد، لا عارك السياسة ولا السياسة عركته، لا لاطف واليًا ولا كتب في ديوان، بل ترك أوراقه للدواوين بلغة أخرى ولم يطرق أي باب سوى أبواب معرفته وقصده. ظلَّ أمام نافورة سرده في باحة منزله يزرع في السرد ما لا يُزرع، ويسدّ الفجوات في "لسان آدم" متأملًا "بابل" و"برجه"، وناثرًا أوراقه ما بين الشام وبغداد واليمن ولا تهمّه حجج الملوك. يمسي في تأويله إلى آخر حدود الغناء كحادٍ فرَّ من قبيلته كي يرتّب لدى الأندلسيين ما سمعه من كل شوارد الغناء، متخذًا السرد سبيلًا.

اقرأ/ي أيضًا: تعرف إلى 4 رؤساء من العالم كتبوا أدبًا خالدًا

زائرٌ لجنّات السرد دون أن يسلخ من أي عبارة أو حادثة عطرها الخاص بزمنها، أمين إلى حد القسوة على زمنية الكتابة ودقة قولها دون تحايل مَن يريد أن يسوِّد الأوراق بكتابة تعين على الرزق، والإنصات لزمن كان هناك للكتابة بعيدًا، وزمنًا يعيشه هو ويتأمله، صانعًا غناء خالصًا في فجوات السرد العربي، صانعًا دَلَعًا لغويًا يخصّه وحده، ولعًا فريدًا، شدوًا وغناء شحيح النبرات ورقراقًا، وإيقاعًا خفيضًا لغناء ما هناك.

رجلٌ جالس يعزف لنفسه ويسمع لنفسه ويغنّي لنفسه وسط رمال صحراء السرد العربي المتاخمة لكافة الأرومات والبلدان من عجم وبدو رُحل وتركمان وشركس وشوام وزنج وحضارات غائبة تطلّ برؤوسها تارة في انتصار ثم تختفي ثم تعود دون أن تفقد الغناء وإثراء طاقة السرد واتساع المتاهة. عبد الفتاح كيليطو هو المتأمل الطيب لتلك المتاهة، وكأنه الراهب الذي كلّف نفسه بذلك دون أن تمدّ له الكنيسة يد العون ودون أن تستنكر عليه بحثه، لأنه رمى دماء الكراهية والقتال والأيديولوجيات من زمن خلف ظهره، هناك في بغداد.

رجل جالس وسط رمال صحراء السرد يخلط دم الجاحظ بدموع ابن المقفع بلسان آدم ببرج بابل دون أن يتعثّر اللسان أو تتناسل الأكاذيب في حبره، رجل نظّف دواته وربطها بعنقه تمامًا، وربط العنق في روح غناء السرد وتنوعه وغناه الشاسع دون أن يتوه في المتاهة ودن أن تغلبه الأسرار، فقدّم سرًا آخر أشدّ دفئًا من السرّ الأول في صورة نقد، ولكنه نقد أسياد الكتابة لا عبيدها، نقدا الحداة العظماء الأصفياء للحن الكتابة الماكر والساحر، ينصت إلى "ألف ليلة وليلة" وكأنها تُحكى إليه من كاتبها، من فمه، من تعثرات فمه هو، لا من الكتب، وينصت لألفاظ أول الخلق ولتمائم الكتابة وأحجيتها وتطوحاتها والغائب منها في الحبر والمقطوع من اتصال بأذن وقلب عازف وناسك يعرف مرامي السرد. 

وسط رمال صحراء السرد، يخلط كيليطو دمَ الجاحظ بدموع ابن المقفع بلسان آدم

اقرأ/ي أيضًا: مجاز الشجرة

يدخل الغابة شهرًا ويعود بصيد قليل: فكّ أسد، ذيل نعامة، عظام ظهر لبؤة، ريش صقر، رماد عنادل جفَّت، وخاتم ملك. يتأمل الأصوات التي خرجت مع أذنه من الغابة ويتأمل غناء الحادي في خراسان أو اليمن أو برّ الشام، يقارن ما بين المتشابهات في لون الطيور، ويدرس طيبة كل الطيور المتشابهة في كل القارات ويسمع غناء الألسنة، وفي النهاية يطير ما صاده للسماء ويبدأ في الغناء/الكتابة/النقد، وكأنه ينقد ما لا يُنقد، وكأنه يصيد ما لا يُصاد، وكأنه يبثّ الغناء في طيور محنّطة فتنطق بالكلام، كلام لا كببغاوات، ولكنه متاهة جميلة لطائر عذب فرّ من الأندلس، متاهة جميلة لرجل دخل الغابة كلها وانتقى هذين الطائرين فقط دون ملايين الطيور، فماذا كان قد رأى فيهما دون عن كل تلك الملابس التي تغرّد في كتب العرب والعجم قديمها وحديثها؟ لا نعرف سوى أن ذلك الرجل يحبّ ما يأسره من غناء، يحب رحلته في السرد وكأنه صيّاد يمشي في الغابة بفخٍ يعرف طائره من صوت غنائه، وفي الليل يعود وحيدًا لبيته في الأندلس بلا طيور، يصحبه الغناء العميق.

اقرأ/ي أيضًا:

تعرّف على 3 من أهم كتب السيرة العربية

رشيد الضعيف.. متاهة الذكرى والخيال