31-مايو-2020

مقطع من لوحة لـ محمد عبلة/ مصر

تقع الكتابةُ الشِّعرية، بشكلٍ ما، ضحيَّةَ دفاعِها عن نفسها. وبعيدًا عن مدرسةِ المشَّائين للمشَّاء الأول أرسطو، وتلاميذه، التابعين منهم واللَّاحقين؛ غالبًا ما أفكِّرُ وأنا أمارس عادة المشي. أمشي باتجاه الجسر الذي هو عبارة عن حبالٍ قديمةٍ رثّة، خشباتٍ متآكلة، والكثير من الفراغات التي تطلُّ على الهاوية، ليَنصَبَّ تفكيري، بدلَ كيف لي أنْ أصل إلى الضفة الأخرى، أو حتّى كيف أعود من حيث انطلقت؛ هوَ: لماذا سأخطو تلك الخطوة أصلًا؟ لماذا تجتمع كلُّ تلك العناصر المتباعدة في الحركة التي سأقدمُ عليها؟ لتصبحَ خطوتي احتمالَ خطوة، وليُمسي كلُّ مشيٍ على الجسر، ذهابًا أو إيَّابًا، محاولةً في المشي، وخطواتٍ تستقلُّ كلُّ واحدة بتجربتها واحتمالاتها الخاصَّة.

كيف تفرض وجودكَ كشاعر لا يعيشُ شيزوفرنيا الزمن والواقع والكتابة، في وسطٍ يمارسُ عليكَ الإقصاء والتهميش، وتُسيطر عليه الدوغمائية؟

"نكتب كي نُنتج الأسئلة التي تُحدِث شروخًا في امتلاء الدوكسا". هكذا كتبَ عبد السلام بنعبد العالي في "لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعِدُني" (المتوسّط 2020). وفي نصِّه "الفراغ: جرح الكائن"، يسبق هذه العبارة بأخرى أكثر حِدَّةً، تقولُ إنَّ: "الكتابةَ سعيٌ لإحداث فجوات في امتلاء الكلام". لعلَّه مدخلٌ يزيحُ الكثيرَ من سمومِ الحياة اليومية جانبًا، نظريًّا طبعًا، بما يحتشدُ خلفها من إجماعٍ وعامٍّ ومتداولٍ ومتَّفقٍ عليه. لعلَّ الكتابة تنجو بذلك من داخلِها، وإلَّا تحوَّلت إلى وسيلة/أداة تقومُ بدورٍ يناقضُ جوهرها. ودون الدخول في جدالاتٍ ستكونُ حتمًا عقيمةً، حول حداثة النَّص والكتابة، فإنَّ الهاجسَ الذي يفاقمُ من مخاوفي أثناء الكتابة كفعلٍ إبداعي خاصّ، يقع في منطقةٍ تختلف بين شاعرٍ وآخر، هو كيفَ لي أن أنشغلَ بنصِّي الشِّعري كتابةً وإعادةَ كتابة واشتغالًا وتجريبًا ومجازفةً باقتحامِ أرضٍ من الألغام تحتاجُ إلى "بذلٍ وعطاء" وربّما "تضحية" على نحوٍ ما. وفي الوقتِ نفسه، هل عليَّ أنْ أكتفي بكتابة ذلك النَّص وحسب، أم الدِّفاع عنه ليجدَ مكانته، في سياقهِ الجغرافي والتاريخي، وما إلى ذلك من الأشياء التي تبدو حبالًا غير مرئية في مشهدٍ شعريٍّ لم ينقشع عنه ضبابُ التَّغييب في جزائر العقد الثاني بعد الألفية. طبعًا الإشكالية ليست هنا، وليسَ هذا مُطلقًا سبب مخاوفي "الجليلة"، إنَّما شيءٌ آخر قد يُفاجئني وأنا أهمُّ الآن بكتابةِ هذه الشذرات التي أجدُ صعوبةً في الربطِ بين جُملها وكلماتها المتزاحمة في رأسي قبل أن تقفز إلى الورقة.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة العزل القسري.. ماذا فعل بطل "الإضراب الأيرلندي" بوبي ساندز؟

الخوفُ إذًا، يتعلَّقُ بمسألتيْن. المسألة الأولى أراها منطقية وقد يشتركُ فيها عددٌ كبيرٌ من شعراء القصيدة الحديثة "في العالم" وهي المبادئ الفنِّية والأدبية للنَّص الشعري: الأدوات، الأسلوب، اللُّغة، الاشتغال، التجريب، التركيب، الحذف، الحركة الشعرية، الانفتاح على الفنون، وإلى آخرهِ من المبادئ التي تَزيد أو تَنقص من شاعرٍ أيضًا إلى آخر. المسألة الثانية، والتي لا تنفصل عن الأولى للأسف؛ وهي كيف تفرض وجودكَ كشاعر لا يعيشُ شيزوفرنيا الزمن والواقع والكتابة، في وسطٍ يمارسُ عليكَ الإقصاء والتهميش، وتُسيطر عليه الدوغمائية؟ ستجدُ نفسكَ في لقاءٍ أدبيٍّ حولَ الكتابة الشعرية في الجزائر متلبِّسًا بتهمةِ أنَّك لست بشاعر. قد تتمنَّى أن تكونَ شبهَ نبيٍّ حتّى تُتَّهَم بالشعر، لكن بشرط أن يكون ذلك في القرن الواحد والعشرين. وبتهمةِ أنَّك تغريبي وتنتهك قدسية الشِّعر العربي بل وتمرِّغُ اللُّغة العربية في وحلِ قدَميْك المتَّسختيْن وأنت تمضي بها، أيّ اللّغة، إلى مجاهيل أرض الكتابة. أنت مُتَّهمٌ كذلك بأنَّك تكتبُ الشِّعر الذي تدعِّيه في شكلِ فقراتٍ نثرية، ونصوصٍ طويلةٍ تبدو حينَ تُسمِّيها شعرًا وكأنَّكَ تلوي رقبة الجمل حتَّى يرى بعينيْنِ دامعتيْنِ جبلًا من المعاصي يعلو ظهره! ثمَّ يأتيكَ مُتَّهِمُ آخر ليقول لكَ، بأعصابٍ باردةٍ تنزلقُ مِنْ عليها كلماتٌ لاذعة: ما هذا الفسقُ الشِّعري يا بُنيْ؟

قد يتساءلُ أحدٌ ما، مُبتسمًا، لماذا عدَّدتُ كلَّ هذه الكليشيهات القديمة؟ قِدَم الصِّراع الشكلي في الشعر العربي الحديث والذي ربَّما لا يزالُ قائمًا إلى حدِّ الآن، وفي مستوياتٍ متعدِّدة، حسب مبدأ كلِّ شاعرٍ في الكتابة. وها أنا أقول "شاعر"، حتّى لا ألغي الصِّفة على أحدٍ ممَّن يحبُّون التبجُّح بنبرةِ اللَّقب، بالصورة النَّمطية التي يُقدَّم بها في أكثر من مكانٍ وشاشة، أو على أولئك الذينَ تُرهبهم وتُخيفهم كلمة "شاعر"، حتّى في تجرُّدها من كلِّ حمولاتها وإطلاقها كصفةٍ عابرة في جلسةِ أصدقاء على سبيلِ التقديم.

خوفي الكبير، إذا جازَ لي أن أصفه، هو كيفَ، وكيفَ تتكرَّر في هكذا مراجعات مؤلمة كلازمة، كيفَ أتحاشى الوقوعَ في فخِّ الكليشيهات السَّابقة التي أنا أو غيري، من المشتبه فيهم شعريًّا، مُتَّهمِين بها؟ كيف لنا أن نناضلَ في جوٍّ موبوء ثقافيًّا وسياسيَّا واجتماعيًّا؟ دون أن نقع في المستنقع ذاتِه؟ أليست الأحكامُ الجاهزة في الكثير من الأحيان تكون سلاحَ الجبناء؟ فكيف لنا أن نستعملها لصدِّ الهجمات التي لم تتوقَّف رسميًّا وفي المدرسة بإقصاء كلّ ما هو جديد وحداثي ومحفِّز على التفكير والتساؤل والحرّية ويتناول قضايا الرَّاهن الشائكة؟ اجتماعيًّا بغلقِ الفضاء الذي كنَّا نعتقد أنَّه يسع كلَّ اختلافاتنا؟ ثقافيًّا باحتكار المنابر والمهرجانات والأمسيات والمسابقات التي تنام قريرةَ العين تحت جناح السُّلطة الرَّسمية، وقد أمست أشبه بصورة عتيقة يتشابه فيها الجميع لأنَّ جلّهم فقَد ملامحه.

كيف سأعتقد أنني أكتبُ وأناضلُ دونَ أن أكون ضحيةَ نفسي وانفعالاتها؟ إلى ماذا يحتاجُ الأمرُ لكي أعْبُر الجسر بخطواتٍ أفكر فيها أقلَّ ممَّا أفعلُ حاليًا وأحسُّ أنَّ الوقت لا ينفلت منِّي؟ طبعًا أنا لا أحلمُ بأنْ أجد الرَّاحة إذا عبرتُ الجسرَ سالمًا، وفي زمنٍ قياسيٍّ. لذلك سأمشي بتهوُّرٍ وغضبٍ، كما أفعلُ كلَّ مرَّةٍ أحلم فيها بثورة ما، وأحلم أكثرَ بأن لا أسقط قبلَ تركِ أثرٍ ما، حتَّى وإن كانَ رسمَ مسارٍ معدودِ الخطى لمن يرغبُ في عبور الجسر مِنْ بعدي. مَنْ ينصحني بالتعقُّل والاكتفاء بمراقبة الأحوال كيف تسوء يومًا بعد يوم، لن أقولَ له شيئًا سوى أنَّ الثَّورةَ تحدثُ أوَّل مرَّةٍ، ثمَّ وهي مستمِّرة في الحدوث، يمكننا التَّفكيرُ فيها وفي ترتيبِ ما تحدثه من فوضى.

المشيُ هو نظرٌ في العمق، في حيويةِ الفراغ، في الجغرافيا التي لا تحتاجُ إلى بوصلة

الجميلُ أن يبقى هذا الجسرُ المترهِّل صامدًا وعالقًا بين طرفي الهاوية؛ كسوء فهمِ مقصود، كسؤال يفسدُ نومَ المطمئنِّينَ إلى "كتاباتهم"، يفسدُ مأكلهم ومشربهم على موائد السَّادة، ويُنسي النَّاسَ ما خطَّت أيديهم وقد امَّحت حروفهم من على كلِّ بياض.

اقرأ/ي أيضًا: قصص "نفق سري"... الاضطرابات النفسية في حكايات البطل المجهول

وليسَ أخرًا؛ المشيُ هو نظرٌ في العمق، في حيويةِ الفراغ، في الجغرافيا التي لا تحتاجُ إلى بوصلة. والكتابةُ مشيًا هيَ إمعانُ النَّظر في الهاوية، هيَ السُّقوط المرتقب، هي الانفلات من القيد. هي أن نرى خطانا، وقد اتَّسعت الرؤية وضاقت العبارة وتكثّفَ شيءٌ من المعنى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل عَضّت الرواية لسانها؟

سنان أنطون في قصائد "كما في السماء".. صورة عراق يتلاشى