06-مارس-2018

مايكل بالدوين/ أمريكا

قلما يبدأ حديث عن الترجمة إلا بالرجوع إلى تلك العبارة المستهلكة عن خيانة المترجم التي قيلت في إيطاليا يومًا، أو استدعاء الجاحظ وآرائه في أن المترجم لا يمكن أن ينقل على وجه الدقة ما يقوله الحكماء. فيكون الانطلاق عادة من اعتبار دونية الترجمة على الأصل، وتبعية المترجم للمؤلّف.

الترجمة شرط من الشروط الضامنة لحياة النص الأصليّ، أو بالأحرى لانطلاق النص في حيوات أخرى تنعش الأصل

لكن نظرة أخرى إلى تاريخ الترجمة وواقع حالها اليوم قد تصل بنا إلى خلاصة أخرى، وهي أن الكاتب يسعى وراء المترجم ويرنو إليه، وأن الترجمة شرط من الشروط الضامنة لحياة النص الأصليّ، أو بالأحرى لانطلاق النص في حيوات أخرى تنعش الأصل وتضمن بقاءه بل وتمنحه قيمة "أدبية" لا سبيل إلى الوصول إليها في بعض الأحوال إلا عبر الترجمة.   

اقرأ/ي أيضًا: لطيفة الزيات تروي قصة بدايات حركة الترجمة في مصر

فإن كان تناول النقاد واشتغالهم بعملٍ أدبيّ هو ما يمنحه شرعيّة باعتبار النقاد المستقلّين "مانحي قيمة" في عالم الأدب، فإن انتقال النص من لغة إلى أخرى، لاسيما من لغة "مركز" إلى لغة أخرى، صار يعني أن وجود النص أدبيًا، بمعنى إسباغ القيمة الأدبية "الحقيقية/العالمية" لم يعد قائمًا بذاته، وإنما قائم بغيره، أي بالترجمة.

فبالترجمة إلى لغة من لغات المركز، كالفرنسية، لم يكن العمل الأدبي يدخل إلى الحيّز الوحيد المعترف به في عالم الأدب لفترة طويلة من الزمن، بل كان كذلك كما تذكر باسكال كازانوفا في كتابها المهم "The World Republic of Letters"، ينتزع من سياقه الوطني، ليدخل في نطاق العالميّة، وهذا هو الحلم الذي يسعى إليه كل كاتب. فقد كانت باريس كما تذكر كازانوفا، بمثابة "البنك المركزي" الأدبي، والتي كانت قادرة على خلق القيمة الأدبية وإسباغها على الأعمال والكتّاب، من أي مكان في العالم. فقد كان يكفي مثلاً في منتصف القرن العشرين أن تقول "هذا العمل غير معروف في باريس" كي يفهم ضمنًا من ذلك أن العمل لا يحمل، بعدُ، قيمة ذات بال. بل هذا ما قاله مرّة صامويل بيكيت، واصفاً إحدى اللوحات الفنية بقوله "إنها غير معروفة في فرنسا، أي إنها غير معروفة!".  

تخبرنا باسكال كازانوفا بأن صامويل بيكيت نفسه لم يكن معروفًا هو الآخر قبل أن ينتقل إلى فرنسا ويستقر في باريس، والتي كانت في نظره عاصمة الفن بلا منازع. فقد كان بيكيت يعلم تمامًا أنه إن كان يريد أن تنشر أعماله وأن تظهر على المسرح فليس أمامه من خيار إلا أن يُترجَم إلى الفرنسية أو يكتب بها، وهذا ما فعل. فأخذ بيكيت يكتب بالفرنسية حينًا، ثم عمد هو إلى ترجمة نفسه، وهو الأمر الذي يكاد يكون بلا مثيل معروف في تاريخ الأدب الحديث، حيث ظل حتى وفاته كاتبًا يترجم ذاته، يعمل بين لغتين، مستغنيًا عن أفضال المترجمين ورحمتهم، ناقلًا ما كتب بالفرنسية إلى الإنجليزية، وما كتب بالإنجليزية إلى الفرنسية.

هنا تأتي صورة المترجم المنسيّة، المترجم ليس باعتباره مجرد ناقل لنص من لغة إلى أخرى، بل كأداة أساسية لترسيخ سلطة أدبية لثقافة ما فوق أخرى. ولعل أهم الأمثلة التي تساعد على إدراك سطوة المترجم، هو المترجم الفرنسي فالاري لاربو، والذي "اكتشف" العديد من الأدباء مثل جيمس جويس، ووليام فولكنر، ورومان غوميز وغيرهم، وقدمهم للقارئ الفرنسي. ففي رأي باسكال كازانوفا كان هذا المترجم قادرًا على بعث الحياة لو أراد في الكاتب الذي يختار، عبر إسباغ القيمة الأدبية "الحقيقية" على أعماله عبر ترجمتها إلى الفرنسية، وقد كان لهذا دور بالغ الأهمية في تغيير حالة الأدب العالمي وتجديدها.

بعض الكتّاب العرب، حسب عبد الفتاح كيليطو، يكتبون وفي مخيّلتهم ذلك المترجم الذي سيضمن حياة لأعمالهم عبر تفضله بترجمتها إلى لغته

لقد كان المترجم إلى الفرنسية وسيطًا لا غنى عنه كي يعبُر أي كاتب أيًا كان أصله إلى برّ العالم الأدبي الوحيد المعترف به في تلك الفترة من القرن العشرين، وهذا ما دفع فاليري لاربو إلى أن يصف نفسه بأنه المترجم الذي يضفي المعلوميّة على من "يكتشفهم" من كتّاب ويتوسط لهم في دخول عالم الأدب، وأنه عضو في "كهنوت كوزموبوليتاني" شعاره  "دين واحد، ولغات عديدة" كما كان يقول القديس جيروم. والدين الواحد هنا هو الأدب، وهو نتاج المترجمين الذي ينسجون من خيوط اللغات المتعددة ثوبًا من طراز واحد.

اقرأ/ي أيضًا: دنيس جونسون ديفز وذكرياته في الترجمة

هذه النزعة لدى العديد من المترجمين الغربيين، خاصة في الفرنسية والإنجليزية، باعتبار الترجمة عملية "استحواذ ودمج" هو ما دفع مترجمًا مثل إدوارد فيتزجيرالد الذي كان أول من نقل رباعيات الخيام إلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر، إلى الاستخفاف بالأصل الذي ترجمه وعدم الاكتراث بالتقيد به أو نقله بأمانة، إذ أن ترجمته رباعيات الخيام إلى الإنجليزية كانت في نظره تفضّلًا يسبغه على هذا الأصل الخامل ويرفعه لعله يحوز القيمة "الحقيقية" للشعر والفنّ، ويأخذ بيده ليعرّف به ويحييه بعد أن كان مجهولًا لا يعرف به أحد حتى من أهل لغته.

هكذا يغدو المترجم واللغة المترجم إليها من لغات المركز "مُضيفة" للآداب عابرة السبيل من آداب الأمم الأخرى من الأطراف، حيث يبحث الكتّاب دومًا عن تأشيرة دخول لهجرة ما يكتبون إلى لغة كالإنجليزية أو الفرنسية، كشرط للحصول على اعتراف بالأدبيّ فيما يكتبون، حتى أنّ بعض الكتّاب والروائيين العرب، كما يذكر عبد الفتاح كيليطو في كتابه "لن تتكلم لغتي" يكتبون وفي مخيّلتهم ذلك المترجم الذي سيضمن حياة لأعمالهم عبر تفضله بترجمتها إلى لغته، فيتخلصون من الغريب والشائك في نصوصهم حتى تسهل المهمّة عليه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحمد شافعي: ما كنتُ لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة!

الترجمة والأدب.. ممارسة تأويلية وإبداعية