31-يناير-2022

من المعرض

يقيم غاليري "إل تي" في بيروت معرضًا للفنّانة التشكيليّة اللّبنانيّة فاطمة مرتضى تحت عنوان "صُعود أنانة". يضمُّ المعرض لوحات عديدة موزّعة على أرجاء الصّالة، بعضُها من القطعِ الكبيرة وأخرى صغيرة، بالإضافة إلى منحوتتين برونزيّتين تحملان الثّيمة نفسها.

تأتي فكرةُ الحياكة في معرض فاطمة مرتضى كنوع من الأسطرة التي مِن شأنها رفعُ المرأة والإضاءة عليها

الانطباع الأوّل الّذي يعيشه المُشاهد أنّه أمام لوحة خارجة عن المألوف، لا تعتدُّ بمدرسة بمقدار ما هي حرّة وساخِرة ولئيمة. لوحاتٌ أهميّتها في خروجها عن المألوفِ السّائد والمعروفِ من اللّوحة. كانطباع أوّلي أهميتها تكمنُ في مواد الاشتغال، الحياكة هنا بديلًا عن اللّون. فكرةُ الحياكة تلك المتأتّية من ميثولوجيّات قديمة ونوع من الأسطرة، مِن شأنها رفعُ المرأة والإضاءة عليها أكثر. الحياكة التي هي بديلًا عن الزاوية اللونيّة، أضحتْ من صميم الخلق أيْ صميم العمل الفنّي.

اقرأ/ي أيضًا: داناي مونس.. حلم فاتن عن الضياع

عادة ما نلجأ إلى لوحة لنتأمّل نرتاح ونبصر أبعادًا معيّنة أو زوايا لم نُشاهدها بعيننا المجرّدة ونقلها الفنان إلى عمله. الحالة مُغايرة لدى مرتضى فنحنُ أثناء مشاهدتنا لأعمالها نقف مشدوهين، نتعبُ ونُرهق. للوهلة الأولى وبلا مواربة اللّوحة منفّرة، أشبه بالناظر إلى مقبرة، النهش والرؤوس الحيوانيّة والعظام المتآكلة والسّلاسل العظميّة، لا أظنُّ أنَّ لوحة يمكن أن تحوي كمًّا أكبر من الفجاجة والفظاظة. هذه الفظاظة لا شكّ أنّ مرتضى وظّفتها وبمهارة فائقة في الانتقال والانحياز إلى اللّوحة الحديثة خارجة بذلك عن ممارسات المدرسة التقليديّة. سرعان ما يلبث المشاهد أن يعتاد على جزئيّاتها وخاصّة حين تأتلفُ العناصر لتستحيل حالات ومشاهدات بصريّة مخيفة حميمة وجامدة.

 إلى جانب ذلك الوجوه هنا حاضرة، ولكن بمزاجٍ حيوانيّ أسطوريّ بحت. احتلّت الحيوانات برؤوسها مكان اللّحم البشريّ. واحتلّت العظام محلّ الجلود والألوان المُبهجة. ولكن المفارق أنّ ثمّة سكينة ما تهيمن على العناصر المكوّنة للّوحات، وتصنعُ نوعًا من التّقابل، أو لو شئنا المرايا. وحدهُ الصّمت هو ما يرشَح من انعكاس كلّ ذلك في اللوحات.

على مستوى التقنيّة، نجد انسياقًا حداثويًّا، الحداثة الّتي تُعنى بالمادّة. الفكرة قائمة على إلغاء المواد التقليديّة واستبدالها بمواد أخرى، وهذا دأبُ مرتضى في تجربتها تمامًا. لعلَّ هذه المواد كفيلة وتضمن لمرتضى تحقيق تطلّعاتها ولعلّها تعنيها وتجيبُ على أسئلتها أيضًا. باختصار الحياكة والصّوف والتّطريز كلّها عناصر صارت محلّ اللّوحة.

النّسق النّهائي الّذي يظهر في أعمال مرتضى، يعكسُ تحوّلًا عميقًا إلى صناعة وإنتاج وإلى نوع من الحرفة. هذا التحوّل مقرون ويسير جنبًا إلى جنب مع نزوع بالغ إلى اللّامنطق والخرافة وإطلاق العنان إلى التخيُّل.

النّسق النّهائي الّذي يظهر في أعمال مرتضى، يعكسُ تحوّلًا عميقًا إلى صناعة وإنتاج وإلى نوع من الحرفة

اقرأ/ي أيضًا: استعادة عارف الريّس.. فنان الوجوه المتعددة

الدّاخل الى المعرض، لا يضيع أبدًا بينه وبين مختبر الصّور الشُّعاعيّة. الأيادي العظميّة والأقفاص الصّدريّة ذاتها، والجماجم المُخاتلة بين بشريّة وحيوانيّة. أيضًا الشُّخوص مُستقلة مُحايدة داخل الإطار وهي ذات خلفيّة واحدة معظمها، وفي وضعيات متباينة. السُّكون سيّد الكَلام في الأعمال.

في إطلالة سريعة على ذاكرة ما أنجز في بيروت من معارض في الفترة الأخيرة، يمكن القول، وبجسارة، إنَّ أعمال فاطمة مرتضى تأتي في الطّليعة، طليعة التقنيّة والتأليف والانغماس في تفاصيل اللّوحة وإطلاق العنان للأفكار لكي تتحكّم بمجريات العمل الفنّي، لا فنّ بلا أفكار.

الصّلافة والجمود والسّكينة وبثُّ النّفور في النّفوس المُتفرّجة، وكلّ هذه الحقول المعجميّة للإزعاج والشؤم لم تمنع الأعمال من تقديم محتوى جسديّ جنسيّ و"هويّاتي" لو صحّ القول. في لوحات مرتضى نحن أمام حالة صراع مع الأفكار والموروثات، صراع حانق غاضب ولا يرحم، مِلؤه التشفّي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن مجموعة صور جيلبير الحاج "إنها حياة رائعة".. وجوه تشبه عري أصحابها

حوار| بيار سولاج: يرشدني ما يحدث على اللوحة إلى ما أريد رسمه