12-يناير-2022

الفنان والمصور اللبناني جيلبير الحاج (1966)

نادرًا ما يخطر لنا أن نسأل سؤالًا بديهيًا ونحن نعاين معرضًا للتصوير الفوتوغرافي. فحوى السؤال والإجابة عليه أساسيان في محاولة فهمنا للأعمال الفنية. حين يعرض الفنان صورة لوجه إنسان ما، فمن ذا الذي يحق له توقيع الصورة؟ المصور أم صاحب الوجه؟ وإذا كان هذا الإنسان الذي عرض وجهه أمام كاميرا المصور شخصًا عامًا: فنانًا أو سياسيًا أو كاتبًا، فهل يستطيع المصور ادعاء أنه صاحب الصورة؟ أم أن ادعاءه هذا يخفض رتبته من مرتبة الفنان إلى مرتبة الذي تلقى الهدية، هدية أن يسمح له الفنان المشهور بتصوير وجهه؟

حين يعرض الفنان صورة لوجه إنسان ما، فمن ذا الذي يحق له توقيع الصورة؟ المصور أم صاحب الوجه؟

غالبًا ما يعمد المشاهير إلى اختيار مصورين من المشاهير أيضًا لتصويرهم. وهذه معادلة يربح فيها الطرفان: يستسلم المشهور لزاوية نظر المصور، ويسمح له بأن يخرج من وجهه أو جسمه ما يعجز الجمهور العام عن استخراجه. وهو في هذه الحال يتخلى عن صورته ليرتدي القناع الذي يريده المصور لهذا الوجه.

اقرأ/ي أيضًا: أعمال منصور الهبر.. أن ترسم ما ألمَّ بك

هذه التساؤلات تحاول أن تفكك لغز ملكية الصور. أن تصور امرأة عابرة في الطريق، فأنت تقول إنك تواجدت في هذا المكان، وإن العابرين فيه والمحلات والواجهات تقول الكثير: فإما إنك تقول إن هذا المكان الذي التقطت فيه الصورة هو مكان مميز، بدليل أن العابرين يكادون أن يُعرّفوا بوصفهم نجوم سينما، أو إنك تقول إن هذا المكان غير قابل للعيش الرخي الهادئ، بدليل أن معظم العابر ين من المشردين، وأنك لن تلبث أنت نفسك أن تغادره، فمثل هذا المكان معد للتصوير وليس للعيش. (وهذا الحكم يصح على المكان المميز الأول استطرادًا). لكن تصويرك في المكانين يعني أنك تمتلك ما صورت، وأن المرأة العابرة، حتى لو كانت نجمة شهيرة لا تملك الحق بادعاء أنها تملك صورتها في تلك اللحظة.

ولنفكر أنك أردت أن تصور وجهًا لامرأة عابرة، فعليك أن تسألها الإذن بذلك، وما أن تسمح لك حتى تكون قد أهدتك شيئًا من وجهها، ولك ملء الحق في أن تدعي صورتها لكنك لن تستطيع أن تدعي وجهها.

كل هذه التساؤلات تحضرني وأنا أعاين صورًا للفنان والمصور اللبناني جيلبير الحاج (1966). عرض الحاج عددًا من صوره في بيروت في العام 2020، في غاليري تانيت تحت عنوان "إنها حياة رائعة". تضمّن العرض صور وجوه وأجسام وأشياء وكائنات.

مفهوم أن فكرة تصوير وردة أو نافذة تشبه استعراض العضلات التصويرية. يقول لك المصور في هذه الحال إن اختيار زاوية النظر ومكان تركيز العدسة هو الفيصل الذي يفصل بين المشاهد والمبدع، بين الفنان والمتلقي. لكن الحاج لا يكتفي بهذا الاستعراض، بل يذهب أبعد وأعمق. أن تصور وجه فنانة معروفة لمعظم مشاهدي المعرض، وأن تتركها تعبر عن نفسها بوجهها، يعنى أن جيلبير لا يتحايل على موديلاته. لا يختار زاوية وكمية الإنارة بهدف حرف الوجه عن معناه. إنه يحب موديلاته. حب كبير على ما أظن، لذلك يجهد ما أمكنه أن يصور هؤلاء وهم/هن مستعدون/مستعدات للحب. أي في تلك اللحظة التي يكون الوجه فيها قابلًا للتفحص ولا يريد المقاومة ورفع القناع في وجه الناظر إليه. من يجرؤ على تسليم وجهه بهذا الشكل لعدسة فنان أو حتى لأقرب أصدقائه؟ نحن دائما ندافع عن انكشافنا أمام الآخر، بالكذب. والوجوه مركز الكذب ومقره. تبتسم وأنت تخفي في داخلك رغبة بالانتقام من الذي تبتسم له، وتضحك لترسل رسالة للآخر أنك خفيف ومطيع، في حين أنك تستعد لافتراسه. أن تترك وجهك من دون دفاعات وقابلًا للتفحص والاكتشاف، لهو أمر لا يمكن أن يحصل إلا إذا كنت تثق ثقة عمياء بالآخر الذي ينظر إليك.

 

وجوه جيلبير الحاج تشبه عري أصحابها في أحيازهم الخاصة. أي أنها تنكشف أمامه بكل ضعفها وتنتظر حكمه. لكن أصحاب هذه الوجوه يعرفون: يعرفن جيدًا، أن الحكم الذي سيطلقه المصور هو إعلان حب لصاحب الوجه أو صاحبته. أكثر من ذلك، لن تلبث كمشاهد للعرض أن تحب بدورك أصحاب هذه الوجوه. إنها نعمة أن تتموضع أمام عدسته. ما أن يظهر وجهك على الورق المطبوع حتى تدرك أنك محمي من كل خطر، وأن حبًا عميمًا سيحيط بك ما أن ينظر الناس إليك.

وجوه جيلبير الحاج تشبه عري أصحابها في أحيازهم الخاصة. أي أنها تنكشف أمامه بكل ضعفها وتنتظر حكمه

اقرأ/ي أيضًا: شوقي شمعون.. سماءٌ مزهرة

جيلبير الحاج، يملك الحق في أن يوقع صور عارضيه. حتى لو كانوا من المشاهير، ذلك أنه لا يحاكمهم، بل يدفعهم جميعًا لأن يكونوا محبوبين. ذلك أن هذه العدسة تشبه في وجه من وجوهها حضنًا دافئًا. وليس في وسع أي كان إلا أن يتمنى الركون إليه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنصاب لبقايانا

"أكوان" معرض بسّام كيرلس.. الحرب ذاكرة المباني