28-ديسمبر-2021

الفنان التشكيلي الفرنسي بيار سولاج

ولد الفنان التشكيلي الفرنسي بيار سولاج في 24 كانون الأول/ ديسمبر عام 1919 في مدينة روديز الفرنسية. أغرم بالرسم منذ نعومة أظفاره، خاصةً الفن الرومانسكي والرسومات الصخرية، ونذر نفسه لتدريس الرسم، لكنه انقطع عن الدراسة في كلية الفنون الجميلة على الرغم من نجاحه في امتحان القبول فيها، والسبب، بحسب تعبيره، أنه كان "مُروَّعًا" من نوعية التعليم الذي يُدرّس فيها.

بدأ بعرض لوحاته في صالون الفنانين المستقلين في باريس منذ عام 1974، بينما بدأت المتاحف العالمية باقتناء أعماله منذ سنة 1950، وذلك بعد أن ذاع صيته في عالم التجريد.

اكتشف سنة 1979 ما أسماه "فيما وراء الأسود"، أي انعكاس الضوء انطلاقًا من حالات سطح اللون الأسود، اللون الوحيد الذي يُفترض أنه يمنع مرور الضوء. وافتتح في عام 2014، في مسقط رأسه في روديز، "متحف سولاج" الذي يضم 500 عمل ووثيقة من منجزه الإبداعي.

كرس بيار سولاج الذي يلقَّب بـ "رسام الأسود والضوء"، أكثر من سبعين عامًا من عمره لتجسيد التحولات الضئيلة للون الأسود في مواجهة الضوء. يقول: "أعشق سلطة الأسود. إنه لون لا يقبل أي تسوية. إنه لون شرس، لكنه يحثك رغم ذلك إلى الاستبطان. إنه اللون واللالون في نفس الوقت. عندما ينعكس الضوء على الأسود، يغيره هذا اللون ويحوله. إنه يفتح مجالًا ذهنيًا خاصًا به لوحده".

هنا حوار صحافي مع بيار سولاج أجراه معه برنار باكيه لصالح مجلة "Vie des arts" (حياة الفنون) الكندية، خلال تدشين معرضه الاستعادي الذي أقيم في "متحف الفنون الجميلة" في مدينة مونتريال يوم 16 تموز/ يوليو 1996.


  • أريد أن أطرح عليكم سؤالًا اعتدت عليه، لماذا اللون الأسود أو كيف انطلقت تجربة الأسود معك؟

ولدت المغامرة باكرًا جدًا. عندما كنت طفلًا، كنت أغمس فرشاتي وسط محبرة للحبر السود و"أشجّ" بها كراساتي المدرسية. يومًا ما، سألني أحدهم عما أفعله. أخبروني أنني أجبته: "منظر طبيعي من الثلج!". كنت أبحث حينها عن جعل الورق أكثر إشعاعًا وبياضًا، باستعمال الأسود المناقض للأبيض. لون الثلج أصفى، لأن لون الورق  كان أبيض – رمادي ولا يملك بياض الثلج المذهل. الأسود هو لوني المفضل، هذه حقيقة. يُظهِر كل المعرض الأسود المهيمن.

سولاج: ما ترونه في رسوماتي الأخيرة، ليس عن الأسود. إنه الضوء المنعكس من الأسود، وما حوّله وبدّله هذا اللون

منذ سنة 1947 إلى حد سنة 1979، كنت أستعمل دومًا الأسود عبر مناقضته للون فاتح وبطرق مختلفة، سواء وصل الأسود إلى ذلك الفاتح، أو أن اللون الباهت تم اكتشافه عند كشطه بالأسود. بعد ذلك بسنوات، تحديدا سنة 1979، كنت بصدد كشط لوحة. كنت يائسًا من رؤية ما سيحدث، غير أن شيئًا ما أصابني خلال العمل. لاحظت أنني لم أكن أرسم باللون الأسود أبدًا. كنت أستخدم الضوء المنعكس والمرسل من الأسود.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| زياد توبة.. عن الأيدي المحبطة وأمزجة الخشب

أعمل حاليًا على لوحة محضرة بلون أسود جف فوقها. عندما أرسم مستخدمًا وعاء المادة اللونية على الأسود، لا أعمل أبدا باللون الأسود بل أضع ضوءً منعكسًا من المادة اللونية على تلك الخلفية السوداء.

الشكل الذي ينكشف من ضربة فرشاة

  • يلاحظ بسبب تأثير الكاتالوج – الخدّاع بالتأكيد – أن في الأعمال الأخيرة يوجد تأثير رمادي، أي ينعكس الضوء من خلال أخاديد في الأسود.

لا يُصوَّر الضوء فوتوغرافيًا، ولست مغتاظًا أيضًا من أن رسوماتي لا تنتقل عبر الفوتوغرافيا. يدل هذا على أنها تحوي شيئًا مخصوصًا لعملي، هذا الذي لا يمكن التعبير عنه بتقنية أخرى، عبر محاكاتها على الورق على سبيل المثال.

  • لكن ما هي العلاقة في هذا العمل بين الحركة والشكل؟ هل أن الشكل يولّد الحركة أو العكس؟

إنه الشكل، يرشدني ما يحدث على اللوحة إلى ما أريد أن أفعله. منذ لوحاتي الأولى، رأيت حدود الحركة لأنني لست رسامًا حركيًا. الحركة هي مجانبة للوحة داخل الزمن. عندما تنظر إلى أثر مرسوم على اللوحة، تفكر بحركة يد الرسام. لم تعد اللوحة موجودة فعلًا في هذه الحالة. أمرٌ ما أبعدك عن اللوحة داخل الزمن، وضعف جدًا حضورها في اللحظة التي رسم فيها الرسام. 

  • رغم ذلك، ووسط حياكة الأسود الذي يلامس نسيج قماشة اللوحة، نشعر مع ذلك باليد التي أنزلت ضربة الفرشاة.

طبعًا، لكن تتنظم تلك الضربة مع أخرى. إنه ذلك التنظيم الذي يأسرنا ويصنع جودة اللوحة، وهناك فوقها اشتغلت دومًا لأنه عندما يحيلنا أثر مرسوم فقط إلى حركة، تكون في النهاية تصويرًا لحركة. فيما يخصني، منذ البدء تنتظم تلك الآثار وسط شكل سميناه علامة باشتباه ولكنه خطأ. إنه ليس علامة، ولكن شكل يسلّم نفسه – مرة واحدة – مثل الأبجدية الصينية.

  • في كتابه الروحاني في الفن وخاصةً الرسم، يتحدث كادينسكي عن الأسود أنه «لا شيء، خالٍ من الخيارات.. عديم الصدى". إنه أمر مزعج بالنسبة إليك. ماذا تجيب كادينسكي؟

إنه على حق في كل ما يفعله، لكن هذا لا يعنيني. ما ترونه في رسوماتي الأخيرة، ليس عن الأسود. إنه الضوء المنعكس من الأسود، وما حوّله وبدّله هذا اللون. لو نظرت بعينيك وليس بما في رأسك، سترى ضوءً. يأتي الضوء من الرسم نحوك. يقع فضاء الرسم أمام الرسم. توجد أنت في هذه اللحظة وسط فضاء الرسم، إنها علاقة بالفضاء تختلف عن تلك الرسومات التي يتحدث عنها كادينسكي.

أتعلّم ما أبحث عنه عند الرسم

  • في أحد رسوماتك في العقود السابقة، رسمت بالأسود على لوحة بيضاء. أحيانًا وعلى بعض اللوحات، مثل تلك التي أنهيتها في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 (202*143 سم) ، نلاحظ نتيجة خلفية سوداء عليها شيء ما وليس شكلًا أسود على خلفية بيضاء.

وقع الأمر هكذا، أقول دائمًا إن ما أفعله هو ما يعلمني ما أبحث عنه. أتعلّم ما أبحث عنه خلال الرسم. عندما أصادف شيئًا ما يتوافق مع دواخلي أحتفظ به، دون أن أهتم بنظرية ما أو عقيدة.

  • هل تعمل واقفًا، واللوحة مسطّحة أو على الحائط؟

أعمل عادةً على الأرض، لأنني أعشق التواجد وسط الرسم عندما أرسم. أملك جسرًا يمر فوق قماشة اللوحة ويمكّنني من المشي، إنني وسط الرسم. لكن أفكر دومًا بالرسم بشكل عمودي. أضع اللوحة على الأرض لأجل سهولة العمل، لأن الرسم لا يسير في وضعية كهذه أو لأنني أملك ثقة في يدي لا أملكها عندما تكون القماشة أفقية.

هنالك سببان، الأول مادي والآخر شخصي، لأنني أعشق التواجد وسط الرسم الذي أرسم. هذا يتوافق مع ما يمكن لمشاهد اختباره، عندما يكون قبالة إحدى هذه اللوحات. عندما يتبينها ويحللها، سيرى جيدًا الضوء الآتي منها إليه. يقع فضاء اللوحة قبالة اللوحة تمامًا، والمشاهد وسط ذلك الفضاء. يختلف الرسم في هذه الحالة إذا تحرك – وهو ما لا يمكن حدوثه أمام محاكاة مثالية للوحة – إذ لا يطغى حضور اللوحة إلا إذا وقع لحظة النظر إليها. الحضور هو المفتاح، عندما يكف العمل الفني عن الحضور سيصير ديكورًا.

  • ما رأيك بهذه العودة الذائعة الصيت للتشخيصية فيما نسميه عمومًا ما بعد الحداثة؟ رسم السنوات 1980 وحركة التعبيرية الجديدة؟

أتفهّم جيدًا فزع كل عصر أمام الجنون والمحاولات من كل الدرجات، التي لا تهدف إلى صنع شيء جديد أو مفاجئ أو فاقد لأي سبب عميق ليتواجد، والتي لا تمثّل إلا حركات سطحية جدًا لصنع الـ "جديد". أتفهّم كل ذلك. في أيامنا هذه، يفكر الناس دومًا في المعنى وكانت هناك أزمة لإيجاده ولمعاودة العثور على الدلالة. ولهذا السبب كذلك نتأرجح لوهلة داخل اللغة.

سولاج: في أيامنا هذه، يفكر الناس دومًا في المعنى وكانت هناك أزمة لإيجاده ولمعاودة العثور على الدلالة

هذا أمر مفهوم، ولكنه مغاير لموقفي. سأخبرك بالسبب. الفن رسالة ولغة. هل تعرف ما قاله إدغار ديغا بخصوص الرسالة؟ قال له رسام شاب: "لدي شيء ما للتعبير عنه، لدي رسالة". رد عليه ديغا: "لكن صديقي، أمسك هاتفك إذا كانت لديك رسالة!"، لكن يوجد المعنى دائمًا في تلك الرسوم. لم ترسم تلك الرسومات لتمرير معنى، إنها تعني شيئًا لذلك الذي ينظر إليها. لا يتعلق الأمر بالإرسال، وهذه ليست رسالة بصدد المرور.

البعد أوّلا، ويأتي بعده التاريخ

  • ماذا تترقّب فعله الآن؟

أرغب بالإجابة على ما قاله مالارميه: "الرسم هو لازمة، أو هل نعلم ماذا يعني الرسم، هو لازمة لكن مبهمة جدًا. إنها ممارسة حسودة أين يكمن معنى أسرار القلب، الذي تكمّله تمامًا، ثم تتحصن".

  • إذا ألقينا نظرة تاريخية على حركات ما بعد الحرب وسط سياق دغمائي، وبالنظر إلى موقفكم التشكيلي الذي كان شخصيًا جدًا، أفكر بنيكولاس دو ستال: هل تعتقد أنه أخطأ في التوفيق بين التصويرية والتجريدية؟

بالتأكيد لم يخطئ. نيكولاس دو ستايل لم يكن فنانًا تجريديًا. كان دومًا فنانا تصويريًا. أنظر عناوين لوحاته. عناوين اللوحات مهمة جدًا. ذهلت عندما رأيت أعمال التجريديين الأمريكيين. إنهم يمنحون أسماء للوحاتهم مثل الأوروبيين غير التصويريين: بازان، مانيسييه. على سبيل المثال «جسر بروكلين». إنها عناوين لمناظر طبيعية. هذا يشبه ما يفعله دو ستايل. أنا لم أفعل ذلك أبدًا! لوحاتي لها عناوين لكن ليس مثل هؤلاء.

  • هل تخيفك هذه العناوين؟

أبداً، إنها تُظهر توجهًا لا يخصّني. تلك العناوين هي عواميد توجيهية تقودك إلى شيء آخر. عندما ترى متحفًا مركّبًا، هل ستصرح أنني لست أنا من عرض ذلك؟ لكن قلت دائمًا أن لوحاتي تحمل عنوانًا.

  • إذن إنه التاريخ.

لا ليس التاريخ. إنه البعد! إنها الميزة المحسوسة للشيء. إنها 7 أمتار على متر ونصف. إضافة إلى ذلك، إذا كنت أملك لوحة ذات سبعة أمتار فذلك ليس لأنني أملك أسبابًا تجعلني أصنع لوحات من الحجم الكبير، بل تلك التي تجعلني أصنع قماشة لوحة لا يمكن قراءتها إلا عبر أجزاء.

اقرأ/ي أيضًا: الفنانة التونسية ريم سعد: أن تحمل دفترًا هو أن تحمل نفسك

عندما ترى لوحاتي منسوخة في كاتالوج – في صفحتين عمومًا – سترى كل شيء، الكل واللاشيء من اللوحة. إنها لوحات أين نرى ظهور الإيقاع أو أين نراه يمّحي، لا نرى أبدًا قماشة اللوحة بوضوح تام كاملة. هذا ما أردته، إنه جزء من الشعر. بالتالي، عناويني هي دائمًا البعد. إنها الميزة المحسوسة، ومن ثم التاريخ للتفريق بين لوحتين من نفس الحجم. والمعنى أنت من تبنيه، وأنت من تمنحه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أكثرهم أُصيب بفيروس كورونا.. تعرف إلى أبرز الفنانين العرب الذين رحلوا في 2021

شذا شرف الدين تعرض لامبالاتنا