27-يناير-2022

من أعمال داناي مونس

كان افتتاح المعرض الأول للفنانة الهولندية داناي مونس (Danaë Moons) لافتًا. انتظرته هي الأخرى طويلا ولم يأت. كانت قلِقة من نضج تجربتِها، وأسلوبِها المُغاير في تناول المفاهيم، إذ كانت الأفكار لديها فنًّا بذاته. بَدتْ صالة العرض واسعةً بيضاء، تتدلّى من سقفها العالي المُضيء أشكالٌ تشبه كوابيس مُجفّفةً، تحاول عبثًا مسّ قاع المكان المُزدحم، لكنّها تظلّ عالقةً بخيوطٍ لا ترى.

لا أحد يدري أين اختفت داناي مونس، الفنانة التي لم تكمّلْ عامها التاسع والعشرين والتي ستظلّ علامةً فارقةً في تجربة الفنّ الهولندي الحديث

كان والد داناي يُقلّب بصمت في أبهاء المكان كتابًا فنّيًا عن تجربتها، صدر احتفاءً بموهبتها، وسط ضوضاء وفضول لا يُمكن تفاديه مُحدّقًا في الظلام رغم الإنارة الفادِحة.

اقرأ/ي أيضًا: استعادة عارف الريّس.. فنان الوجوه المتعددة

كنتُ أتنقّل ببطء بين أعمالها الفنّية الموزّعة في فضاء الصالة، وكان غيابها يملأ المكان؛ أسمعُ حزنًا يتداوله الزائرون عن موت داناي المفجع، بينما أفتعلُ التأمّلَ بالمكان وأنصت لأسمعهم.

حدثّ ذلك في ليلة الثامن عشر من شباط/فبراير العام 2015، حين سافرت إلى قرية "تيوك" أو "هانك" الإندونيسية، وهي تطوّر حلمًا فاتنًا عن الضياع تماشيًا مع مشروعها الفنّي الذي بدا يلفت أنظار النقاد إليه مبكرًا. أرادت من سفرتها المشؤومة تلك، أن تَنصت بقوّة إلى ملامح توجّهاتها الذهنيّة وصولًا إلى أقصى لحظات الفنّ التي كانت تمسك بها رغم ضيق الوقت.

انكسر الزورق الذي أقلّها مع آخرين شاركوها مصير الوصول إلى الجهة الأخرى في نهر ماهاكام (Mahakam River) في تلك الليلة الباردة، وسط النهر الجارف. غرق الجميع وشبعوا موتًا، وضاعت داناي، ضاعت ولم يعثر عليها أحد إلى اليوم، وهذا ما أدمى قلب أسرتها ومحبيها.

هل التصقت داناي في لُجّة ماء النهر فصارتْ عُشبة تألفها الأسماك؟ هل سبحت بأضلاعٍ مُهشّمةٍ وساقَين بارِدَتَين ولم تصل؟ هل فقدت ذاكرتها وصارت عشبًا مَنسيًّا؟ أين اختفت وسط أجساد عشرات الغرقى المصفرةِ يأسًا؟ هل ماتت داناي؟

لا أحد يدري أين اختفت داناي مونس، الفنانة التي لم تكمّلْ عامها التاسع والعشرين، والتي ستظلّ علامةً فارقةً في تجربة الفنّ الهولندي الحديث.

خرجت من صالة العرض أبحث فقط عن دراجتي الهوائية، والأدخنة الزرقاء تعبّئ رأسي، لأذهب للبيت وأحلم فقط بزيارة معرض آخر بحجم هذا الاكتشاف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن أحمد قعبور الذي يغني روحنا

عن مجموعة صور جيلبير الحاج "إنها حياة رائعة".. وجوه تشبه عري أصحابها