04-يوليو-2019

من أعمال المعرض

أسامة بعلبكي فنّان يهوى العزلة. الرسّام اللبنانيّ الشّاب يتّخذ منها موضوعه الأكثر قربًا، والفكرة التي يشتغل على مطاردتها طويلًا لالتقاطها من أمكنةٍ مختلفة؛ الحياة البشرية الطاحنة أحيانًا، وعزلة الفرد فيها، أي حين يصير غير مرئيٍ أو محسوس؛ والطبيعة أحيانًا أخرى، مُعتبرًا أنّ فراغاتها ومساحاتها الخالية عزلة من نوعٍ آخر.

الشراكة بين أسامة بعلبكي والعزلة تضمن له الانتقال بين النمطية والتقليدية من جهة، والحداثة أو تجارب الفن الراهن من جهةٍ أخرى

فكرته الأخيرة هذه تنهض، كما تُخبرنا لوحاته، على نضوج فكرة العزلة عنده، وخروجها عن المألوف والمُعتاد أحيانًا. وبعلبكي نفسه يُخالف المألوف أو ما يُمكن تسميته الواقعي الدراج، ولكن بنبرة خافتة، أو لنقل بخفّة شديدة، دون اللجوء إلى العلانية. بالإضافة أيضًا إلى تطوّر علاقته بها؛ علاقة تبتعد عن العلاقات النمطية والتقليدية، ومبنية أصلًا على ضيقه وضجره من العلاقات التقليدية، أي أنّها ليست مجرّد مساحة يحتاجها لإنجاز لوحاته، ولا عنصرًا يُكمِّلها، وإنّما شريكًا أساسيًا له في إنجازها.

اقرأ/ي أيضًا: "أكوان" معرض بسّام كيرلس.. الحرب ذاكرة المباني

هذه الشراكة القائمة بين أسامة بعلبكي والعزلة تضمن له، في الغالب، الانتقال بين النمطية والتقليدية من جهة، والحداثة أو تجارب الفن الراهن من جهةٍ أخرى، بخفّة شديدة تؤمّن له بدورها العثور على وسائط تعبيرية مختلفة. أو، أقلّ ما في الأمر، وأضعف الإيمان، إعادة تجديد وظائف بعض الوسائط التقليدية. لأنّ العزلة بحدّ ذاتها تحضرُ في لوحاته مصنّفةً في إطار ما هو حديث أو مُعاصر. هكذا يُمكن للمشاهد أن يٌفسّر شغف بعلبكي بالعمل على استيراد العديد من التجارب الحديثة، أو ما بعد الحديثة أيضًا، إمّا لإنجاز لوحاته كاملةً من خلالها، أو إنجاز لوحة تقليدية ينقل تلك التجارب والممارسات المُعاصرة إليها.

معرض أسامة بعلبكي الجديد "مائيات" الذي يستضيفه "غاليري أجيال" في العاصمة اللبنانية بيروت حتّى الـ 20 من تموز/ يوليو الجاري، لا يخرج عن الطبيعة. الطبيعة نفسها لا تُغادر فكرة العزلة هنا. والأعمال الـ 20 المعروضة على جدران الصالة، مُنجزة أصلًا لترجمة نوعًا آخر من العزلة، أي عزلة المساحات الطبيعية الخالية – الخلاء – المذكورة سابقًا أعلاه. هكذا تكون الطبيعة مُنجزة داخل اللوحة بعيدًا عن الرومانسية أو الرخاوة، وبعيدًا أيضًا عن الاحتفاء بالطبيعة نفسها.

لن نجد في "ألوان مائية" مشاهد طبيعية تقليدية. ولن نشاهد الطبيعة نفسها منفردة داخل اللوحة، بل هناك غالبًا عناصر أو تفاصيل صغيرة تشاركها إيّاها. وإن أطلنا الوقوف قليلًا أمام لوحات بعلبكي، سنعرف أنّ هذه التفاصيل موجودة داخل اللوحة لانتهاك عزلة الطبيعة، أو التعدّي عليها، أو إفسادها، بمعنى أنّ الطبيعة هنا ليست مفتوحة ولا منفردة، وإنّما مخترقة أيضًا. وعليه، سوف نشاهد سماء ملبّدة بالغيوم، أسفلها أشجار ضخمة ومرتفعات حرجية، تُجاورها بضعة منازل صغيرة تنسف فكرة شغور الطبيعة أو خلاءها قبل أن تكتمل.

ما يرسمه أسامة بعلبكي يبدو بسيطًا للغاية، وقد لا يبدو كذلك أيضًا، كونه ينطوي على جوانب فلسفية

اقرأ/ي أيضًا: علي حمّود.. مخلوقات غارقة في العزلة

يتكرّر الأمر نفسه في لوحةٍ ثانية فنشاهد سماء ضبابية أسفلها شاطئ ومن أمامه بحر. طبيعة خالية أو شاغرة لو أنّ بعلبكي لم يضع منتصف اللوحة منارة تُبدّل واقع اللوحة. فكرة المنارة تتكرّر داخل اللوحة، أي كعنصرٍ من خارج الطبيعة. هكذا، نُشاهد بدلًا منها أعمدة التوتّر العالي، أو رافعاتٍ عملاقة، أو أسلاك شائكة، أو أعمدة إنارة، أو يافطات إعلانية. عناصر أو تفاصيل تجعل الطبيعة مًجاورة للمدن/ الحداثة، وضمن لوحاتٍ مُنجزة من خلال الخلط بين الانطباعية والتجريد وبعض تجارب الفن الحديث والراهن.

 

ما يرسمه أسامة بعلبكي يبدو بسيطًا للغاية، وقد لا يبدو كذلك أيضًا. لربّما ينطوي على جوانب فلسفية، وربّما هذه الجوانب غير موجودة من الأساس. من الجائز أنّ أعماله تحتشد بالمعاني، ومن الجائز أن العكس صحيح أيضًا. انطباعات متعدّدة تُطارد المتفرّج، لتكون الحيرة السمة الأبرز في لوحات الرسّام اللبنانيّ الشّاب. فالطبيعة هنا كما ذكرنا ليست منفردة، والخلاء ليس تامًّا أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حيوانات فؤاد هاشم.. كل ما يدبّ على الحياة