12-مارس-2019

من المعرض (فيسبوك)

قد تكون الأبنية السكنية والعمارات المهدّمة قد أعيد تدويرها. نقصد بذلك أنّ عملية إعادة بنائها وإعمارها تمّت من خلال توظيف والاعتماد على ركامها الأوّل فقط، فبدت بهذا الشكل الذي يعكس تصدّعاتٍ داخلية خطيرة من جهة، ومدى صعوبة زوال آثار الحرب بعد ورش إعادة الإعمار من جهةٍ أخرى. انطباع سريع وأوّلي يهجم على المتفرّج في معرض "أكوان" للفنّان اللبنانيّ بسّام كيرلس، والذي يستضيفه "غاليري مارك هاشم" في العاصمة اللبنانية بيروت حتّى الـ 15 من آذار/مارس الجاري؛ قبل أن تبدأ الانطباعات التي تبثّها منحوتات البرونز والألمنيوم بالتزاحم والتوسّع باحثةً عن مكانٍ ثابت في ذهن المتلقّي.

تتحوّل المنحوتات في معرض "أكوان" للبناني بسّام كيرلس من مشهدياتٍ صامتة وساكنة دون حركة إلى حياة ضاجة

المباني في معرض بسّام كيرلس مشيّدة بحيث تكون بدلالةٍ متعدّدة، وبإشاراتٍ متشعّبة؛ أن تنصب للمتلقّي فخًّا هنا وتضع فخًّا آخر هناك. أن تُجبرهُ أو تدفعهُ لمحاولة تصيّد هفواتٍ من الممكن أن ينطوي عليها كلّ مبنىً من المباني المعروضة في المعرض. وفي زحمة الانطباعات هذه، تضع المنحوتات المتفرّج أمام طريقٍ يبدو، لأّوّل وهلة، سالكًا ومستقيمًا، فلا شيء يبدو غريبًا لدرجة ألّا يكون مُعتادًا. ولكنّ المتفرّج سرعان ما يجد نفسه إزاء طريقٍ ينعطف فجأة فاقدًا استقامته، متحوّلًا إلى طريقٍ ملتويةٍ وشديدة الانحناء.

اقرأ/ي أيضًا: التونسية منى الجمل.. الهامشيّ بعدسة فينوس

يحتضن معرض "أكوان" جُملةً من الانطباعات، تتزاحم جميعها في ذهن المتلقّي دُفعةً واحدة، أو تتعارك إن صحّ التعبير في وقتٍ واحد. قد تخفت حدّة حضورها، أي الانطباعات، حين يصرف المتفرّج اهتمامه عن جوهر الأعمال المعروضة؛ حين يتوقّف، بقصدٍ أو دون قصد، عن التفكير والتخمين والبحث عمّا تنطوي عليه هذه المنحوتات. أي حين يصبُّ اهتمامه على الشكل أكثر من الجوهر. ولكنّ هناك ما يملأ الفراغ سريعًا في ذهن المتلقّي. فمنحوتات كيرلس تتقصّد إثارة الأسئلة، أو ربّما تتعمّد رميها على المتفرّج دُفعةً واحدة، دون أن تنتظر منه جوابًا. إنّها تستفزّهُ فقط.

بسّام كيرلس (فيسبوك)

نتساءل في هذا السياق، كمتفرّجين، عن عناصر أخرى ليست إلّا جزءًا من المناخ الذي جاءت منهُ أعمال كيرلس. مجزرةً ربّما، أو مجازر من المفروض، وبالضرورة، أن تدلّ عليها المباني التي شيَّدها الفنّان اللبنانيّ بأسلوبٍ بدت عبره متفرّدة تنتصبُ بمفردها دون إضافات أو زيادات. فتدفعنا، بالشكل الذي هي عليه، إلى تجاوزها منشغلين بتفاصيل صغيرة ومهملة، ولا حضور لها في العمل من الأساس.

أنجز الفنّان اللبنانيّ بسّام كيرلس منحوتاتٍ تؤرّخ وتوثّق، في مكانٍ وسياقٍ ما معيّنين؛ ذاكرة الأبنية السكنية في سنوات الحرب

ننشغل ربّما بتخيّل مُحيط البناية المدمّرة قبل وبعد أن تبدو بهذه الصورة المُفجعة دون شك. نتخيّل كذلك المشهد وقت وقوع المجزرة، أو سقوط القذيفة، أو القذائف معًا. صور ومشاهد كثيرة تتزاحم في مخيّلاتنا، فتتحوّل المنحوتات من مشهدياتٍ صامتة وساكنة دون حركة، إلى عكس ذلك، أي بعد أن ننشغل بتخمين المصير غير الغامض الذي انتهى إليه سكّان هذه الأبنية. هل نصف ما سبق من تخميناتٍ بفضول المتلقّي؟ لعلهُ كان كذلك.

اقرأ/ي أيضًا: حيوانات فؤاد هاشم.. كل ما يدبّ على الحياة

الفنّان اللبنانيّ بسّام كيرلس أنجز منحوتاتٍ تؤرّخ وتوثّق، في مكانٍ وسياقٍ ما معيّنين؛ ذاكرة الأبنية السكنية في سنوات الحرب، دون أن يتجنّب أو يُهمل ما آل إليه حال سكّانها. نرى أبنيةٍوعماراتٍ غير مستقيمة، مائلةً وتوشك على السقوط أيضًا. ومليئة بالثقوب أيضًا. فتبدو كأنّها على وشك أن تنطق بشجون لا سكّانها فقط، قتلى أو جرحى أو لاجئين، بل بشجون الإنسان العربيّ بشكلٍ عام. إنّها تسرد قصص الحرب بشكلٍ مُغاير، وتُسهبُ في الإشارة إلى كوابيسها والأزمات النفسية التي تستمرّ حتّى بعد أن تخمد أصوات المعارك. كأنّها تقول إنّ السلم ليس إلّا سلمًا باردًا، وحربًا خفيّة، وبالتالي من الصعب الحديث عن طمأنينةٍ أو استقرار أو حتّى إعادة إعمار أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

غويا في اللوحات السوداء

كاريكاتير من زمن الاستعمار