25-نوفمبر-2018

الفنان علي حمّود

أوّل ما يشدّ الانتباه في المعرض التشكيليّ الأوّل للفنّان اللبنانيّ علي حمّود، والذي يحتضنه غاليري Tree of Art في مدينة بيروت حتّى نهاية الشهر الجاري، هو العنوان الذي اختاره حمّود للمعرض، أي "اختراع العزلة". العنوان دون شك يُحيلنا إلى رواية الكاتب والروائي الأمريكيّ الشهير بول أوستر، تلك التي حملت العنوان نفسه "اختراع العزلة". ومن المعروف لمن قرأ الرواية بأنّ أوستر فضح، كما يحلو للبعض تسمية ما قام به الروائي الأمريكيّ، عائلته، أو العائلة الأمريكية بصورةٍ عامّة.

حَرِصَ علي حمّود أن تكون الكائنات البشرية داخل لوحته ضعيفة، وغير قادرة على المواجهة أو التصدّي لما يُفرض عليها

أما الذي يجمع بين "اختراع العزلة" الرواية، و"اختراع العزلة" المعرض، فهو رغبة أوستر وعلي حمّود معًا بألّا يكونا مضطّرين إلى رؤية أنفسهما، أو رؤية الكيفية التي يراهما من خلالها الآخرين.

لا تظهر مخلوقات علي حمّود، قليلة الملامح، ودون ملامح واضحة في أحيانٍ أُخرى، ككائنات تخترعُ العزلة بنفسها، ومن ثمّ تعود للعيش أو الدخول فيها لاحقًا، أي حين تنضج العزلة، وتصير ملائمةً لتبنّيها كنمطٍ وأسلوبٍ للحياة.

اقرأ/ي أيضًا: بيروت الغاضبة برسم أبنائها

العزلة هنا، كما يُمكن أن نراها، تُخترع لتُفرض على هذه المخلوقات داخل اللوحة بالقوّة. ولذلك، حَرِصَ علي حمّود أن تكون الكائنات البشرية داخل لوحته ضعيفة، وغير قادرة على المواجهة أو التصدّي لما يُفرض عليها، لتكون بذلك ملائمةً لأن تسكنها العزلة دون تمرّد منها أو رفض. ما معناهُ أنّنا إزاء كائناتٍ راضخة للواقع بكلّ تبدلاته وتحوّلاته، وغير معنية إطلاقًا بتغييره، بقدر ما تسعى لأن تكون متأقلمةً معه، فهي ليست كائنات ثورية، ولا تحمل روح التمرّد والرفض، وجلّ ما تفعلهُ هو الحفاظ على تماسكها في ظلّ ما يتعرّض لهُ محيطها من تشويهٍ بفعل العزلة أيضًا، والاستمرار قدر الإمكان على متن الحياة، وأن يتقبّلها الواقع ويُتيح لها الاندماج فيه، الأمر الذي يستنفد ما تُحاول أن تجمعهُ من طاقةٍ وقدرة على المقاومة، ما يجعل طريق العزلة للولوج إلى العوالم الداخلية لهذه الكائنات/البشر وتشويهها، مُعبّدًا وجاهزًا دون شكّ.

العزلة، بهذا الشكل، تكون حالة مُخترعة لأغراضٍ مُعدّة قبلًا، أي أنّها أداة لها وظائف معيّنة، وليست حالة شخصية أو قرارًا فرديًّا ناتجًا عن قناعاتٍ مُسبقة بتبنّي الأمر، واتّخاذه سلوكًا أو خطًّا للعيش. ما معناهُ أنّ لا أحد في لوحات علي حمّود القليلة يميلُ نحو العزلة، أو قرر أن يتبنّاها، ولكن، ومع الأخذ بالاعتبار أنّها فُرضت فرضًا، هناك من يحاول التعايش معها، والخضوع لها باعتبارها، كما تصوّر نفسها، وسيلةً وحيدة لمواجهة ما يُحيط بالمرء من مشاكل وكوارث وخوف. العزلة هنا تروّج لمواجهة الواقع من خلال الانزواء والاختفاء بعيدًا عن الأنظار، أي تكريس الخوف بدلًا من المواجهة والتصدّي. هكذا، تكون كائنات علي حمود مُرغمة على عيش العزلة لأنّها لا تملك بديلًا آخر عنها للمواجهة من جهة، والانفصال عن بؤس المُحيط من جهةٍ أخرى، وذلك على الرغم من رفضها أساسًا لفكرة البقاء بمفردها، وحيدةً، منعزلة، وبائسة.

لوحة وراء أخرى، يُلاحظ المُشاهد أنّ لوحات علي حمّود، أو بعضًا منها، جاءت بمساحاتٍ خاليةٍ وواسعةٍ تشيرُ إلى الفراغ. أو يُمكن القول إنّها شبه خالية تقريبًا. فالفنّان اللبنانيّ الذي دخل إلى الفنّ قادمًا من فضاء الإخراج والإنتاج السينمائيّ، تعمّد ألّا تكون أعمالهُ خاليةً تمامًا من أيّ حضورٍ كان. وفي الوقت نفسه، كان حريصًا ألّا يكون حضور الأشياء فيها كبيرًا وظاهرًا بحيث يُلغي ما تحملهُ اللوحات من فراع.

جلّ ما تفعلهُ شخصيات علي حمّود هو الحفاظ على تماسكها في ظلّ ما يتعرّض لهُ محيطها من تشويهٍ بفعل العزلة أيضًا

اقرأ/ي أيضًا: فن الجداريات.. شوارع المغرب تتحدث

هذا الحرص في خلق توازن بين الحضور والغياب في اللوحة، يوحي بأنّ علي حمّود ميّال إلى العزلة المشروطة بأن تكون مُجاورةً للفراغ. وبناءً على ذلك، نرى في واحدةٍ من اللوحات الـ 18 المعروضة، أرضًا قاحلةً وجافّة، بألوانٍ موحّدة، يقطع تناغمها شارع باهت وفارغ، تقف على جانبه امرأة وحيدة تنتظر شيئًا ما هي على ثقةٍ بأنّه لن يأتي، ومن خلال هذه المرأة، يُمكن لمس رغبة المخلوقات الظاهرة في لوحات علي حمّود بكسر العزلة والتمرّد عليها والخروج من كلّ الأشياء التي تخصّها. فالانتظار هنا يحمل شيئًا من الرفض والاحتجاج غير المُعلن. ولكنّ الفراغ من حول المرأة يدلّ على قوّة العزلة المُخترعة والمفروضة على الآخرين. العزلة التي لو تمرّدت عليها تلك المرأة، فإنّ المساحات الخالية من حولها توحي بأنّ الآخرين لن يفعلوا ذلك إطلاقًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

9 تشكيليين رسموا الست.. تلوين صوت الزمن

معرض صدّام الجميلي عن اسمه: أنا الدكتاتور في أسوأ أوقاته