20-مايو-2020

تصميم مصطفى ديب - ألترا صوت

تنطح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الحالي، دونالد ترامب، طويلًا وكثيرًا منذ سكن البيت الأبيض واستهل صياح صباحاته من المكتب البيضاوي فيه، لرمي وطرح التنميطات والتحقيرات بالجملة بحق ألوان وأعراق ومنظومات العالم ومجموعاته بحاله. من بين ما صار ترامب وفريقه على درجة ملموسة من التمرس فيه، كما التمترس من وراءه، أيضًا الهجمات المباشرة غير المرتدة على كل ما يأخذ لبوس شكل المنظمة الدولية التي يمكن أن تحوي صوتًا غير صوتهم. من تمثيلات ذلك  ما تتلقاه الأمم المتحدة بكامل تفصيلاتها المؤسسية والتنظيمية، على كل علاتها جميعها، من طرف فريق ترامب، بقصد ودونه.

في هذه المرحلة فقط صار حديث سقوط /إسقاط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ممكنًا، وبعوامل الفشل الذاتي في تقديم مشروع من قدموه أكثر من أي أمر آخر، نظرًا للسقطات التي جرها على مستوى الهيمنة الأمريكية دوليًا

هذا باستثناء الاستعداء المفتوح لـوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – أونروا، الذي أتى ويأتي مستمرًا قصديًا بعون عربي واضح منذ عقد من الوقت على الأقل، أي ما قبل نسخة ترامب الرئاسية بكثير نسبيًا. متابعة استغاثات منظمة الغوث المتكررة، والحجب التمويلي السعودي وغيره عنها من بين التدليلات الممكنة عل ما ورد. ما يشي بدوره، على هامش موجة "صفقة القرن" أن تصفية كل ما يتعلق بالاستحقاقات الفلسطينية، حتى تلك الملطفة والقادمة عير مؤسسات الهيمنة المركزية لإمبرياليات العالم صيانًة للوضع القائم وإعادة إنتاجه بنسخ أكثر كارثية، أصبح من اللوازم في سانحة التنكيل والاستفراد بالمسألة الفلسطينية قدر المتاح، وهو شاسع، ولا يبدو أن غائيته تتوقف قبل الانتهاء من سيرة الفلسطيني مرة وللأبد، أو هكذا يراد. لكن المستحيلات في أرض الممارسة أمام ذلك قائمة، بذات قدر الممكنات، من بينها من يعيدون بناء المنازل التي أنجبت شهداء مرارًا ومن يخرجون من مراكز الاعتقال والتحقيق والاعتقال المطول برؤوس عالية وظهور لا تنوي الانحناء غرب نهر الأردن شرق المتوسط.

اقرأ/ي أيضًا: أولوية شرعة الحياة على ضرورة القانون الدولي

أما عن موضوع ترامب وغرامياته المعكوسة والمعقدة مع منظمة الأمم المتحدة، بما هي منظمة غير محايدة وغير ديمقراطية أساسًا. أقله في باب إتاحة كامل الحقوق الديمقراطية لغير الديمقراطيين بالجملة. كما هي أذرع متشابكة لأياد هيمنة إمبريالية راسخة بـ"حق" نقض/فيتو ومن غيره، حتى في ألطف نسخها التي قدمت بعض الفائدة لسكان الكوكب أحيانًا. كمنظمة التربية والعلوم والثقافة – يونسكو ومثلها المختصة بالطفولة - يونسيف، معهما منظمة العمل الدولية والصحة العالمية. لكنها، أي أذرع منظمة الأمم المتحدة القطاعية قدمت فوائدًا أكثر بكثير لصالح برامج ومنحنيات صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الدولي في دور المكمل والمشرعن لعملهما رديء الأثر والانعكاس على حياة الأمم وتقرير مصائرها ومعها مصير الكوكب والجنس البشري صاحب المصير الواحد إلى حد بعيد. هذا على اختلاف أنماط إنتاج مجمتعاته بالتعبير الماركسي الذي لكارل ماركس، وتباين التحديات وردات الفعل على التحديات بالتعبير الذي لبراعة صاحب موسوعة دراسة التاريخ، أرنولد توينبي.

يبدو أن الحاصل منذ اتساع الحديث بشأن منظمة الصحة العالمية، خصوصًا في علاقتها مع الصين على لسان ترامب وفريقه دون غيرهم من شأنه قول الكثير عن مسار وواقع إدارة ترامب، ليس بوصفها إدارة سياسية للمنظومة السياسية الأمريكية فقط، بل من موقعها كرأس إدارة إمبريالية لها خارج حدود سوقها القومي أكثر بكثير مما لها ضمنه أيضًا. 

هذا في جزء منه يعود إلى إمكانية القول حول طبيعة السياسات المالية الأمريكية بما هي سياسات إملاء وفرض شروط على السوق العالمي. وما توظيف السوق العالمي هنا اصطلاحًا من باب التحرش بحديث العولمة الذي ماع وابتذل عنها وبشأنها بقدر ما تم تعويمه بتعويمها، أو حتى تناول نمط السوق الخادع والمخادع وصاحب الممكنات الإطلاقية غير الممكنة في الوجود، أي السوق الحر في الممارسة لا في عالم الأفكار. إنما في مقصد التدليل على موضوع التجارة والتبادل التجاري عبر قارات الكوكب غير الجديد كممارسة ونشاط إنساني منذ سلالة تشان في الصين وهيلينستية حوض المتوسط وشرقه نحو المركز الأسيوي، فالصين ليست وليدة حفلات فوكس نيوز أو اكتشاف من اكتشافات بريتبارت، بل هي مركز بذاته ولذاته ومع غيره  في حوض المتوسط وأفريقيا قبل غزوة أوروبا للأمريكيتين بعشرات القرون الوقتية.

لا يبدو في أفق عالم اليوم، بكوفيد 19 ومن غيره، أن هناك بدعة قابلة للابتكار كالتي عرفتها أسواق المال عام 1979، أي "صدمة فولكر" عندما أقدم رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، باول فولكر على اختراع عدة النصب العالمية المسماة دولار ووال ستريت ممهدًا لحديقة الحيوان الغرائبية التي لعالم رأسمالية المضاربات المالية غير المنتجة إلا للتوليد المالي من المال نفسه، معها رأسمالية فيسبوك وأخلته التواصلية الفادحة، التي تشغل الناس لديها بلا أجر وتتاجر في خصوصياتهم والمحتوى الذي يولدونه معتقدين أنهم قالوا ما يجب قوله أينما وجب. كما لا يبدو في الوقت عينه أن لدى دونالد ترامب ما يقدمه، لأمريكا في جغرافيات العالم، وللأمريكيين في قارتهم الدولة الإمبراطورية، أكثر من كرنفالات بدأت تفقد بريقها بالتدريج وبالتتابع. إذ مرت غزوة تخزين النفط الصخري ومص نفط العرب معها نسبيًا وُصفرت التسعيرة وعُسكت. لكن مع وقف الإنتاج على خلفية استتباب جائحة كوفيد 19 على رأس اقتصادات العالم وأسواقه، خاصة غير المكتفية وغير الإنتاجية، جُرد ترامب وأمثاله من عنصر أساسي كان دائمًا يدفع بمقولات العزل وانتهاء صلاحيتهم  بعين من نصبوهم بعيدًا، من بين ذلك عنصر تشغيل القوى العاملة أكثر والدفع بالإنتاج في المدى القصير والمتوسط ومحاولات تنشيط قطاعات بائدة منه. هذا كله خارج يد دونالد ترامب اليوم، ولأول مرة خلال ولايته، بل لأول مرة منذ غزوة مانهاتن وما لحقها من تحرش بالصين في أفغانستان والمنطقة العربية إلى حد ما دونًا عن أفريقيا شمال الصحراء وشرقها.

لا متسع للتنكر أمام حقائق قائمة بقوة دفع الوضع القائم على سوءاته من وزن أن عالم اليوم إنما يعيش محاولات متباينة لدول وأجسام إقليمية وشبه قارية نحو تتدبر أمورها بذاتها، وإن لم يكن بالضرورة ضمن مصفوفة قطع تامة مع النطاق الذي لواشنطن في العالم أو مع معطياتها في السوق العالمي. حتى أن في داخل بوتقات "الفخر" الترامبي لم تعد كثير من كارتيلات التوليد المالي تستقي الضمانات الأمريكية. إذ بشأن السوق/الأسواق ليس من شأن الصادرات الصينية وحدها أن تكون عنصرًا فاعلًا في تهديد العرش الترامبي، بل أيضًا الواردات إليها، أي الصين، ليس فقط من الخام العربي الثقيل والغاز المسال رفقة الذهب والنحاس والكوبالت، بل أيضًا من عمالقة التعويل الترامبي في ديترويت والبقايا غير المنبعثة لسياتل وغيرها من وزن جنرال موتورز وجنرال إلكتريك مثلًا، التي للمناسبة تضخ منتجات في السوق الصيني أكثر من أي سوق آخر في العالم، بما فيها الأمريكي المحلي والموازي، دون أدنى توفر للحضور الأمريكي المتعارف عليه في بلد من نوع الصين.

اقرأ/ي أيضًا: فيسبوك واستخبارات إسرائيل.. غراميات معلنة

يضاف إلى كل العوامل الممكنة لنزع الفائدة عن مقولة فائدة ترامب التي تضمن استمراريته، بالطبع فائدته للمجموعة الحاكمة اقتصاديًا وسياسيًا، التي يمكن الذهاب نحو تسميتها دولة عميقة غير تأمرية بالضرورة، ما شهدت عليه أنماط العيش أمريكيا من تراجع حقيقي صاحب مفاعيل يومية واستراتيجية، ليصبح من الملح في الولايات المتحدة مجددًا مساءلة تدخل الدولة في حالات الطوارئ والكوارث، وفي دعم البنية التحتية والتأسيس لها، كذلك بالنسبة لمستوى التعليم العام والصحة وحق الوصول إليهما. هذا إن لم يتم التوقف عند تراجع مستويات الابتكار وغياب الإنتاجية لصالح المضارباتية والتواصلية. هذا ما أتت به نيوليبرالية رأسا السياسة الأمريكية الاقتصاديين، الديمقراطي والجمهوري، ما هو إلا المزيد من مفاقمة الفوارق الطبقية والمآسي الاجتماعية، بل وتوفير بيئة أكثر خصوبة من المس بالصالح العام، خاصة لقطاعات واسعة من الجمهور الأمريكي تنظر لنفسها اليوم بعين 1929 إلى حد عميق.

في الوقت الذي يذهب تعنت واشنطن بعيدًا في النظر إلى العالم على أنه مجرد زريبة خراف قابلة للسخرية منها  وحلبها عند الحاجة لأية خطبة سياسية وإعلامية وفائض قيمة غير إنتاجي. تطل كارثة/نعمة كون عالم السياسة الدولية اليوم متعدد الأقطاب حقًا، بما هو متعدد اقتصاديًا كعادته للمناسبة. بينما ترفض واشنطن الإقرار بذلك إلا بصيغة الضمير المستتر أو القفزات التمويهية.

بكلام آخر، ما يحصل اليوم، بأخذ التجاذبات بشأن منظمة الصحة العالمية بين ترامب وشركة الحزب الشيوعي الصيني بعين الاعتبار والتدليل، يقول بأن ساكن البيت الأبيض يدأب، من حيث يعلم أو لا يعلم، في الإغداق على الصين من حيث لم تحتسب، إذ باعتقاداته العنصرية المتعالية على الأدوات التي سخرها أسلافه طويلًا إنما يخلي يده من تلك الأدوات لتتلقفها الصين حرفيًا، وتذهب أكثر في تعميق هداياها الأفريقية بمناصب على رأس المنظمات الدولية، وتعزيز مكتسباتها الدبلوماسية والواقعية ضمن تلك الأدوات، مثل تنحية تايوان مؤخرًا، وخربطة أوراق هونغ كونغ أكثر محليًا ودوليًا. في الوقت الذي يشهد سكان الكوكب إن أرادوا على مكاشفة نادرة الحصول، تضع دونالد ترامب و"نقائضه" المفترضين أمريكيًا من أوزان جيف بيزوس وإيلون ماسك في مكان تشخيصهم الطبيعي، بعيدًا جدًا عن كون أيًا منهم "بطل الطبقة العاملة" بتعبير الراحل جون لينون. علمًا أنها، أي الطبقة العاملة، في الصين تدفع أثمانًا لا يستهان بحسرتها وسط كل ما سبق. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

غير المتغير في مسخة القرن

الصحافة وكوفيد 19.. كرنتينا على رأس الصنعة