09-مايو-2020

العالم لم يفطر ليكون نهائيًا، بل أكثر ما تلفظه الطبيعة، فيزيائية واجتماعية، كل ما يميل نحو لبوس النهائية (Getty)

من غير المتغير في فهم الشارع وأفهام العوام/ الناس فلسطينيًا ما يقصد إليه بـ"لقرن والقرون والمقرنون/ين" إذا لم يقصد التحقيب الزمني بـ 100 سنة كاملات، فهو لفظة تفترق عن "القرني" في المحكية القاهرية قليلًا. يذهب بالقرن المعني لوصف الجاسوس، عميل ووكيل الاستعمار/الاحتلال/ أو أية سلطة قهر.

النهائية من بين مشاغل حفلات الجنون الفاشي، سواء الحل النهائي، أو نهاية التاريخ وخلافهما، بما في ذلك الخطة النهائية التي يعتقد أن "صفقة القرن" تترجمها

علمًا أن مرادفات الجاسوس/ القرن زاخرة وعامرة في قاموس التجربة الفلسطينية وحتى اللبنانية والعراقية وغيرها عربيًا من ضحايا احتلالات واستبدادات تقاطعت وتراكمت بما يكفي ويزيد. لكن للقرن حضور فارق، بالمعنى الوقتي، مذ أطلق مشعوذ مافيات الطهورية العرقية في واشنطن وشمال العالم ستيف بانون يد مريديه، أبرزهم دونالد ترامب ومجمل أصهاره بالدم والعقيدة، للعبث فيما يتم تقديمه حلًا "نهائيًا" للمسألة الفلسطينية.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين على مقصلة عنصريات لبنان المتراكمة

يتبدى من بين ما بدى أن النهائية من بين مشاغل حفلات الجنون الفاشي لمثل هؤلاء على ضفتي الأطلسي كما هو شرق أوسطيًا ومتوسطيًا. إذ لم يبق  جوزف غوبلز بتلاعباته الخطابية العبقرية وشديدة الخطورة وحيدًا، إنما الحل/الحلول النهائية كذلك. تأتي نزعة النهائية في باب الضرورات الفاشية بشموليتها، نابتة من الاعتقاد الأيدولوجي الراسخ بصوابية وإمكانية نُسخ أصحاب مثل هذا الوعي.   

 

لكن العالم لم يفطر ليكون نهائيًا، بل أكثر ما تلفظه الطبيعة، فيزيائية واجتماعية، كل ما يميل نحو لبوس النهائية. إضافة للفطرة السليمة، فرديًا وجميعًا، ومقاومة/مقاومات الشعوب التي قالت  كثيرًا بشأن لا نهائية الحل الاستعماري، كما قالت ومستمرة في القول أن العالم لم يفطر على أن يكون أمريكيًا، أو بالنسخ الممسوخة التي تبتغيها واشنطن. سواء اعتمرت الكابيتول هيل بكيسنجر أو بانون، أو حتى الواجهة مايك بومبيو، الذي لم يوفر عتاد التطبيل لجيته نحو فلسطين المحتلة استكمالًا مسرحيًا للحل النهائي!. مع ذلك يحسب بعض التجديد الخطابي لفريق دونالد ترامب في هذه الجولة من "الانتهاء من الفلسطيني" انتهاء نهائيًا.

الأهم من أي شطحات نهائية ولا نهائية أن في فلسطين، بل في حركة الواقع بمجمله الكثير ليقال أو يدرك على عتبة "صفقة القرن". من بين ذلك الكثير أن لا فرق وتغيير في فلسطين مرتقب في الواقع الاستعماري القائم. فالمسار الاستعماري، بما هو "حل أفريقي" سالك بصفقة ولا صفقة، فواعله قائمة بكامل عدتها. تمامًا كما هو الإدراك المرفوق بالرفض لكل معطيات الوضع القائم وتبعاته في الفهم الجمعي الفلسطيني العربي. وما التهويلات بشأن ضم ما تبقى من فلسطين، وهو مضموم بحربة الأمر الواقع وسوءة الوضع القائم فعلًا، إلا تعبيرات عن قصور إدراكي معرفي بما هو قائم فعلًا في فلسطين. إذ لا متسع لاعتبار الأقل من الـ2% من أصل حدود فلسطين الانتدابية، أي مناطق أ التي استجلب إليها جهاز السلطة الفلسطينية، أرض نجاة من الاستعمار الإحلالي الذي ترجمته الصهيونية في فلسطين، إلا لو صدقت أنباء أن الصهيونية العربية أمر مستجد. تلمسًا إلى أن هناك نغمة، يفترض أن منبعها الضمير لا أهواء أخرى، ارتعدت لهول الوقاحة السعودية المتبدية منذ حديث صفقة القرن. بالتأكيد معها، أي الوقاحة الصهيونية في السعودية، تلك الإماراتية وباقي من تبقى من حلف الظلام القبيح والمعتم أساسًا بطبعه ضد الناس في أرضه، فكيف إذا بشان فلسطين أو غيرها من أرض العرب وغير العرب؟ّ!

من غير المتغير على هامش صفقة القرن ومتنها، صدقية قول الشاعر العراقي المناضل مظفر النواب "آل سعود صهاينة، قاموا أم قعدوا". لكن من المتغير أن أفهام كثيرة، لحسن الحظ مع سوءة القدر، توصلت أخيرًا لاستفهام حجم مصيبة الجزيرة العربية ومعها بلاد العرب والكرد والأمازيغ كاملة بحضور مثل أمراء سفك الدم هؤلاء. قد يستحق الصهر الترامبي، بالدم والعقيدة والمال معًا، جاريد كوشنر ومعه المستشار الحاكم لأبو ظبي والرياض سويًا ومن خلفهما، توني بلير، الشكر الحقيقي والفعال في مرحلة ما، لما قدماه من خدمة للجمهور العربي في دفع صهاينة العرب أكثر نحو المجاهرة بما فيهم ولديهم.

اقترب استعمار الحركة الصهيونية لفلسطين على إغلاق قرن وقتي بحاله. كان قرنًا عامرًا بالتوسع للمشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري بالضرورة في أرض فلسطين العربية والأرض العربية المحيطة بفلسطين كما القرار العربي المحيط وغير المحيط بفلسطين. أيضًا، لم يعد من المقنع، منذ سنوات طويلة، التنكر لسؤال أساسي يتعلق بالصراع القائم مع الصهيونية في فلسطين وعليها. جوهر هذا السؤال نابت من الطبيعة غير الطبيعية  لقبول الوضع القائم في البلاد المستعمرة، إذ لا يحضر الاستفهام عن معاداة المجموعات الحاكمة التي يمثلها الصهاينة العرب إلا من بوابة وضوح القبول والترويج الصريح والعلني لكل ما تمثله إسرائيل، إن لم يكن دعمها والتحالف المركزي معها أساسًا.

أما حضور حديث التطبيع بشكل شبه مستمر، بل وتصاعده بعد أن سجل ضربات لا يستهان بخطورتها في مرمى حقوق الفلسطينيين والعرب، فيعزى لمكنوناته المباشرة دون أدنى مساحة للتأويل. إذ لا يعد رفض الصلح مع إسرائيل وتطبيع كل ما تمثله وتفعله وسواسًا قهريًا يسكن الوعي الجمعي عربيًا، بل ضرورة حقيقية من أرض الواقع والممارسة، هذا شعبيًا بالتأكيد. علمًا أن مثل هذا الرفض يشكل حالة يظللها المنطق العام للوعي الجمعي. لكن رسميًا يمكن القول بمثل هذا العيار من الوسوسة القهرية في عقل المجموعات الحاكمة عربيًا، لناحية القبول، بل ورفض الرفض، خاصة في مخاض اغتصاب السلطة وإعادة إنتاجها وبناء شرعية ما حولها ولها على اختلاف السياقات وتقاطعها.

فيما يحضر حديث التطبيع والحديث عن التطبيع، تدأب جُل المجموعات الحاكمة السلطوية النائبة عن الاستعمار باستبدادها الشرس والمفضوح في البلدان العربية على تصعيد وتيرة محاولات ومراهنات فرض تطبيع منظومة قهرية يعتبرها الشارع العربي، رفقة القانون الدولي والفطرة السليمة  وإسنادات أخلاقية متوالدة، تعبيرًا وتصويرًا إجراميًا لأعتى آلات القتل والنهب وعصابات العصر الحديث المنظمة. من الواضح أن الحديث يختص بإسرائيل وحفلة أصدقاء إسرائيل، التي لا صديق لها في نظرها هي، من الصهاينة العرب، إنما مجرد خدم وعبيد.

لماذا كل هذا الخراب والتخريب المتعمد الذي تدأب إليه المنظومة الحاكمة في أكثر من بلد عربي بقصد صار أكثر علانية بشكل متراكم مؤخرًا؟ ولماذا لا ترى المجموعات الصهيونية الحاكمة في معظم البلدان الأعضاء في جامعة الدول العربية أي أولوية غير ترتيب كامل أوراقها ضمن العباءة الإسرائيلية؟. انقضت أوقات شاسعة وساحة السجال مغلقة على اعتقاد مفاده أن كل هذا التجبر والتجسير مع تل أبيب ما هو إلا تحببًا لواشنطن. بمعنى أن السعي السلطوي الفعلي هو إلى واشنطن عبر تل أبيب. أي  بكلام آخر نحو مركز الهيمنة الإمبراطوري المعولم، غير الوحيد للمناسبة، عبر قاعدته المتقدمة في المنطقة وفق التعبير الكلاسيكي المستهلك. لكن لب تلك العصابات اللاهثة انتهى فيما انتهى إليه أن بقاء الوضع القائم الذي يضمن بقاء هيمنتها على السلطة وديمومة إعادة إنتاجها لواقعها هو أولوية برنامج عملها الضامنة لديمومتها. لا إنكار أن في مثل هذه الخلاصة، سواء بدفع العصابات الحاكمة عربيًا نحو صفقة القرن أو استجلاب هذه العصابات لمثل تلك المسخة، هي أساسًا وصفة إسرائيلية لطالما دأبت قيادة جيش الاحتلال على ترجمتها، سواء مع شاه إيران أو آل سعود أو حتى روابط القرى وصغار "القرون"، حداد ولحد ودودين وآخرين كثر. هنا يمكن الاعتقاد بأن استمرارية الوضع القائم، بما فيه من هيمنة قسرية، هو التعاقد الضمني والمعلن مع إسرائيل في حالة الصهاينة العرب.

ما يحضر في عقل إسرائيل وفريق ترامب  ضمن هذه الجولة من النصب يبدو غير ذات صلة بالضرورة بالتمثيلات الواقعية للوضع القائم في فلسطين اليوم، بقدر ما يختص بما حولها، أي الفضاء العربي الأوسع. يمكن تأويل مراد الخديعة المرادة من العقل المعني باستطلاع حالة الاستعمار والاحتلال العسكري والفصل العنصري في فلسطين وضد الشعب الفلسطيني في كل مناطق تواجده، داخل فلسطين وخارجها، التي لا يبدو أن تغيرًا سيطالها، إنما المزيد من الاستبطان والقبول و"الشرعنة"، كما الترويج لها من أطراف عربية، بما تحمله من تحقير للفلسطينيين وحقوقهم هم والعرب معًا.  إذ بمطالعة مسخة القرن ومسرحيته من عدمها لن يفرق شيء بالضرورة، ليبقى السؤال المركزي هنا، ماذا بعد هذه الجولة من محاولة تصفية المسألة الفلسطينية وقلب المنقلب ضدها؟. لكن الأولى في باب ضرورات الواقع يحضر السؤال عن سبل المواجهة، الحاضرة فرضيًا، والغائبة فعلًا؟

قدمت قيادة النظام السياسي الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر أكثر بكثير مما يمكن توقعه أو تحمله من الأحاديث بخصوص مشروع فريق دونالد ترامب، الممول والمغطى عربيًا، سعوديًا إماراتيًا  مصريًا وبحرينيًا بشكل أولي. لكن في مجمل هذا الحديث، الذي تعلو نبرته المفاجئة ولغة الانبهار و"الكارثة والبطولة"، لم يتوفر أي بارق يتعلق بما يمكن فعله في أرض الممارسة. إذ قالت "القيادات" الفلسطينية بمختلف مستوياتها وتنويعاتها، بضرورة مواجهة "صفقة القرن" ومجابهتها وإحباطها. لكن هذه القيادات نفسها ربما لم تفكر في أمرين اثنين، أولهما عن واقعية السبل وطبيعة الأدوات اللازمة، في المرحلة التالية للإطلاق الخطابي المجاني. ثانيهما، عن موقع هذه القيادات نفسها. إذ بعيدًا عن العناصر الحزبية والتنظيمية لكل من فتح وحماس، وبعيدًا عن موظفي السلطتين في غزة ورام الله ومتموليهما، من يلقي بالًا لما تقوله "قيادات" الحالة الفلسطينية؟!

استمرارية الوضع القائم، بما فيه من هيمنة قسرية، هو التعاقد الضمني والمعلن مع إسرائيل في حالة الصهاينة العرب

تضع خطوة فريق ترامب وإسرائيل ومعهما النظام الرسمي العربي في غالبه اليوم فلسطين ومعها الفلسطينيين أمام استحقاق سؤال مركزي ولا متسع لتجاوزه دون الحسم بشأنه. ولا يقتصر السؤال الفلسطيني اليوم في ظلال حديث "صفقة القرن" على ما العمل؟ بل يتجاوز ذلك لمساءلة شاملة لا تبقي ولا تذر. ما العمل في العلاقة مع واشنطن، وهي علاقة قائمة بين السلطة بالتمويل والتحشيد والتبعية، سواء أقر بذلك رئيس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس أم أنكر. وما العمل في علاقة السلطة بشقيها وتفاهماتها في غزة مع الاحتلال الإسرائيلي، وخدماتها الأمنية في الضفة الغربية؟ وماذا سيحصل بشأن العلاقة مع الأطراف العربية الرسمية، الراعية لصفقة القرن أو حتى الساكتة عنها؟. كل ما سبق وغيره من التساؤلات والأسئلة شرعي وضروري ومن شأنه أن يفتح الباب للتفكير في إجابات، قد لا تكون نهائية، لكنها نافعة في أقل مستويات التقدير، للتعاطي مع الطروحات النهائية للمسألة الفلسطينية، والتي استأنفت منذ منتصف عقد سبعينيات القرن  الـ20 مع برنامج الحل المرحلي وتبني النقاط العشر وما تلا ذلك من مسار التسوية رديئة السمعة والسيط  والنواتج وصولًا إلى صفقة ترامب والصهاينة العرب. لم يتبق أمام الفلسطيني، خاصة داخل فلسطين، إلا "سؤال القلب" ففي الرياح الرديئة يعتمد القلب. علمًا أن القلب يعشق كل جميل وفق الراحل بيرم التونسي. ومن الجميل صرخات الشعوب ومواقفها دفاعًا عن صالحها العام وعن بعضها بعضا. إذ يبقى، بصفقة قرن ودونها، موقع المقهور بالضرورة الشرعية الممارساتية والأخلاقية هو موقع مقاومة الجلاد لا السقوط في غرامه، وإلا فإن عتهًا كونيًا كبيرًا يكون واجب العثور عليه وتفكيكه من باب الضرورات، هذا لو لم يتضح حتى اللحظة!.

اقرأ/ي أيضًا: موجات تقديس الأدوات.. هنا تتوه الثورات

السؤال الحقيقي المركزي والكبير يطرح على الذات العربية الفلسطينية، ليس في باب التقزيم والعتب وفرض مزيد من الإرهاق، إنما من باب الضرورة المرحلية والواجب النضالي الممارساتي. قوى الشعب الفلسطيني الكامنة، التي استمرت في إبهار العالم بشأن ديمومتها أولًا ومن ثم فعاليتها. فيما سمي تارة ذئابًا منفردة ومرة انتفاضة سكاكين وأخرى إرهابًا فرديًا أو مجموعات بمعزل عن واقعها التنظيمي والحزبي في معظم الحالات التي شهدها العقد الأخير. إن كان هذا شق السؤال الأول، أو الشق الأول لمن يطرح عليهم، فشطره الآخر بلا شك هو برسم كل ممكنات وإرادات التغيير عربيًا، ومنها أدعياء التغيير من القوى الاجتماعية التي تأخذ على الفلسطيني قربه أو علاقته من هذا النظام أو ذلك البلد، وقد لا يحضر بالضرورة السؤال برسم هؤلاء بالوزن الكامل لـ"ما العمل؟"، بل أقله ما موقف هؤلاء الذين يعملون ويبتغون التغيير في بلدانهم وتجاربهم تجاه فلسطين والفلسطينيين، أم أن الوصول للسلطة سيكون بذات أدواتها، بما فيها من تذويت للصهيونية وضرورات إسرائيل في إعادة إنتاج واقعها، بل وإنتاج واقع ووقائع مستجدة. يتربع على رأس هرم أولويات أي تناول  تحرري، قبل الاصطفاف، تحري التضامن مع من هم تحت حقًا. أي الوقوف مع الطبقات المفقرة، النساء، الأقليات المهدورة والمعرضة للتمييز والعنصرية. بل مع أي فرد أو كتلة اجتماعية عرضة للتهميش سواء كان اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا  أو ثقافيًا. فالوقوف إلى جانب المظلوم ومعه يستوجب توثيق الظلم الواقع عليه وفهم أسبابه الجذرية والعمل على ما يمكن أن يدعم جهوده للتغلب على حالة الاضطهاد التي يعانيها. فكيف إذًا عندما يكون حال هذا المظلوم، بمظلومية ودونها، حال الفلسطيني في مواجهة إسرائيل ونادي أصحابها، بما لهذا الحال من ظلال شاهقة على حال العربي وساكن المنطقة العربية بمختلف تلويناته؟!

 

قد يكون من لؤم الصدف أن يحتاج من يعيش في المنطقة العربية لكوارث الصهيونية من أجل فهم أن غياب حليف "رسمي" قائم على الأرض له ولحقوقه، أي لوجوده وحياته وتقرير مصيره بالمجمل. لا حليف متوفر من كل الأوزان، دولة، نظام سياسي أو سلطة، حزب أو مشروع شعبي ولا حتى حلقة تنظير نشطاء ومثقفين. لذلك ما يجب أن يحضر دائمًا أيضًا، بصفقة قرن أو في مواجهة "القرون"، هو ضرورة حق تقرير المصير كقاعدة ومبدأ وشرط مؤسس أكثر منه حق قانوني. أثر أي تحالف أو فعلة أو موقف يجب أن يتوخى مثل هذه الضرورة الأساسية. بما في مثل هذا الفهم يكون الرد الأولي اللازم على ما يريد الملك داوود المعاصر، بنيامين نتنياهو ومن خلفه جيش الاحتلال واستخباراته، قوله  لإمبرياليات العالم، لا واشنطن حصرًا، أنه هو الخيار لها في إسرائيل، وأن إسرائيل ما زالت خيار هذه القوى وستبقى الأصلح لمصالحها. كما هو الرد على الصهاينة العرب، ومنهم وعلى رأسهم السعودية التي تدخلت وتتدخل بذبابها الإلكتروني ومالها وإعلامها لصالح مجرم الحرب هذا، حتى في السباقات الانتخابية الإسرائيلية. لذلك كله أيضًا، وبنفط العرب ومالهم، تترك واشنطن الباب على هواه أمام تل أبيب للتحرش بمن تشاء هنا وهناك، بل وأصبح الجيش الأمريكي يتعنى بمهمات جيش إسرائيل، سواء في سوريا أو إيران أو السودان وغيرها. إذ لا يأتي الحرص السعودي، أي حلف آل سعود وإسرائيل وكل من فيه ووراءه، بمعزل عن شمولية النهج التخريبي السعودي وتراكمية التطبيع مع إسرائيل وتطبيعها. بقدر ما يمثل استدلالًا على أن تنظيرات شمعون بيريز لم تصح في حالة المجموعة الحاكمة السعودية ورديفاتها ونظيراتهما. إذ قال بيريس في أحد أهم وأخطر كتبه "الشرق الأوسط الجديد" أن بوجود مشكلة قائمة ومستمرة لا تتوفر لها حلول، فقد يعني هذا أنها ليست مشكلة، إنما وضع قائم وجب تقبله، ما يحيل إلى أن الموقف الصهيوني العربي لا يأتي بشان إسرائيل من باب أن هذا المتوفر وعلينا التأقلم، إنما يتم السعي الدؤوب للإسهام باستدامة مثل هذه الظواهر، والمشاركة في خلقها حتى. ما يهم أكثر في معرض أن الحديث المتعاقب على "صفقة القرن" تطرق وسيتطرق للعصبيات الجامعة. وعليه يكون من حق الجمهور مساءلة صلاحية أصحاب الدعوة وأهليتهم. فمن انتهك المال العام والقرار السيادي والصالح العام، لن يكون تحت أي ظرف شريك وحليف للقوى التي تعمل لأجل التحرر دون أن تصبح الأدوات صاحبة أولوية على التحرر ذاته. أو مثلًا يمكن البحث عن إجابة نافعة لسؤال كيف تتم مواجهة تقسيم جديد على الورق لفلسطين أو السودان أو العراق أو .. بالشراكة مع واشتراك من قضى مسيرته مطالبًا وعاملًا على تقسيمات من قياسه؟! هذا لو تم التلهي بموجة شبيهة بموجة "صفقة القرن" الرديئة عن أس المسألة المتعلق بالاستعمار أساسًا وليس التقسيم أو تقديمه إعلاميًا.

ما يمكن الخلوص إليه يترجم في ضرورة إعادة استذكار، لا تذكر، أن الصهيونية عربيًا نافذة بما يكفي لاستشعار خطرها على كل فرد ومجموعة بين المحيط الأطلسي وكشمير. وأن مواجهة إسرائيل ونادي أصدقائها لا تحضر في باب رفع العتب وتحميل الجميل للفلسطينيين، بقدر ما هي ضرورة نضالية تخص دفع البلاء عن ساكنة المنطقة أجمعين. وما الفلسطيني طوال الوقت الذي انقضى في اختبار، لا معايشة، الصهيونية في فلسطين ونتائجها إلا رأس حربة والأكثر دفعًا للأثمان غير المطلوبة منه وحده أو وحيدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عجلة "فورد ترانزيت" المستمرة.. هنا فلسطين

مجموعات حاكمة غير جميلة