12-أبريل-2019

من المسرحية (فيسبوك)

مسرحية "صاحب الكرمل" من تأليف عامر حليحل، إخراج أمير نزار زعبي، إنتاج "المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي"، تمثيل: خولة إبراهيم، محمد الباشا، إيفان أزازيان، عامر حليحل.

سكن نجيب نصّار في حيفا وأصدر جريدة الكرمل بدايات القرن العشرين، لمدة تزيد عن ثلاثين عامًا

عندما نشاهد فيلمًا جديدًا لا نعرف أحداثه، نبحث عن النهايات المفاجئة، نجلس متحفزّين لما سيحدث نحاول التكهّن بمصير البطل وتنفرج أساريرنا عندما يكون تكهنّنا في مكانه، المفاجأة القاتلة في ملهاتنا الفلسطينية أننا نفاجأ كل مرّة من جديد بما نعرفه مسبقًا ويتكرر في سيناريوهات ممجوجة قاتلة نكون فيها الضحية مرة تلو الأخرى، ولكن بخبث العدو يحدث ذلك دومًا دون أن يكون واضحًا من القاتل ومن المقتول، بل إذا وقعت الجريمة أصلًا.

اقرأ/ي أيضًا: ألاقي زيك فين ياعلي: السؤال والجواب

أتذكر نكتة عن صديقين تراهنا إذا ما كان بطل الفيلم الذي يشاهدانه سوية، سيعيش أم سيموت، وعندما يموت، يؤنب الرابحَ ضميره، فيعيد مبلغ الرهان للخاسر معترفًا أنه شاهد الفيلم سابقًا ويعرف النهاية، لكن الخاسر يعترف أنه هو أيضًا قد شاهد الفيلم، ولكنه توقّع أن يتعلم البطل من خطأه وأن يحاذر أن يموت هذه المرة.

بعد مشاهدة المآسي المتدفقة علينا في المسرحية، تتأكد أنك في حاضرك هذا تشاهد مشاهدَ مكررة من الفيلم نفسه، بينما نعود نحن وقياداتنا إلى الأخطاء القاتلة نفسها، ونكرر السيناريوهات نفسها، قبل أن تأتي نهايات حزينة تدكّنا كل مرّة من جديد.

يمر شريط التاريخ خلال المسرحية كأنك تعرفه ولا تعرفه: الاحتلال العثماني، وعد بلفور، الاحتلال البريطاني، الاستيطان الصهيوني، ثورة فلسطين الكبرى، قرار التقسيم واحتلال فلسطين.. كلها سطور ثابتة لا تتغير في تاريخنا، لكنها دومًا تنجح في مفاجأتنا من جديد كيف صار غير الممكن واقعًا، كيف وقعنا في كل فخّ وُضع لنا، بل سرنا نحوها بعنفوان وقوة المنتصر في طريقنا إلى المسلخ.

نجيب نصّار ممسرحًا

تمزج المسرحية في طيّاتها تثقيفًا تاريخيًا، فشخصيًا، للأسف، لم أسمع به قبل المسرحية. نجيب نصّار سكن في حيفا وأصدر جريدة الكرمل فيها بدايات القرن العشرين، لمدة تزيد عن ثلاثين عامًا، ولأن الاتزان والاعتدال في أعرافنا نقيصة فقد حاربه الجميع؛ المتدينون المتزمتون والعملاء، وطبعًا حاربته السلطات بدءًا من العثمانية وتلتها البريطانية التي اعتقلت زوجته ساذج، نموذج المرأة الثورية، لتكون أول سجينة سياسية فلسطينية، بينما هو مصرّ على المضي بمشروعه التوعوي مهما كان الثمن.

30 سنة بدون لحظة شك، 30 سنة بدون لحظة تعب، 30 سنة بدون لحظة يأس، قضاها صاحب الجريدة في الكتابة للناس وعنهم كي يؤثر عليهم، كي يوعيّهم ليصيروا 5000 وبعدها 50 ألف وبعدها 500 ألف.

رأى نجيب نصار قبل مئة عام ما لا نراه الآن؛ فلسطين والانتماء إليها هو الانتماء إلى الفكرة

عاش نجيب نصّار ومات بين السطور الحزينة، لينتبه ويرى المشهد الذي يحافظ على نفسه بنفس البشاعة: "كان أول يوم بنتبه لشو عم بصير حواليّ.. كنت مشغول بتدوينه والكتابة عنه وتحريره وكشفه للناس، بس أنا ما كنت شايف اللي بكتب عنه، التشرذم والانشقاق والنزاعات على الكراسي والمصالح الحزبية والشخصية والبيع وتخاذل والتهاون والعمالة والكراهية وفقدان البوصلة والانشغال بالصغائر والحرب على بعض وتخوين بعض واتهام بعض وقصر النظر وانعدام الأفق في التفكير ورمي المسؤولية على بعض، وأهم اشي عدم الاستعداد للتضحية".

من هو الفلسطيني؟

لا شك أن قضية أصول نجيب نصار اللبنانية وزوجته ساذج نصار الإيرانية، ستثير علامات الاستفهام لدى البعض، بالنسبة لي هما من أكثر الناس فلسطينية في تاريخنا، ولربما هما فرصة لنا كي نعيد ترتيب أوراقنا في وسائل الإقناع بمبادئنا، أعتقد أن نقطة قوة الصهيونية كانت في تصوير هدفها التخييلي والسعي نحوه من قبل جميع التيارات، لم يثنهم أنهم تبنوا الأساطير والخرافات والكثير من الكذب كي يدعموا هدفهم، وصبّوا فوق ذلك كلك عنصر الخوف لدى أبناء ملتهم، وقد استثمروا مأساة المحرقة النازية بحقهم كرافعة كانت سببًا مهمًا في تحويل أحلام هرتزل إلى واقع يمحق كل ما كان قبل "قيامتهم"، واقع يفرض الوطن الذي يطأك في تعريفه لابن ملتهم عبر جينات الأم والأب والجدة، يحصل مقابلها على امتيازات الدعس عليك ودحرك .

اقرأ/ي أيضًا:  قناديل ملك الجليل.. أصل الفلسطيني حصان

بالمقابل، رأى نجيب نصار قبل مئة عام ما لا نراه الآن، فلسطين والانتماء إليها هو الانتماء إلى الفكرة، إلى ضرورة تبني هدف واضح، لكنه مبني على الحقائق وعلى العدل والإنسانية هذه المرة، في صراعنا كي نبني فلسطين التي نريد فلسطين الدولة المتاحة والحرة والديمقراطية، فلسطين القضية الحقّ، من هنا نبدأ ومن هنا ننتهي، وما دمنا لم نصل إلى تلك النقطة التي رآها عام 1908 فكأننا ما زلنا ممسمرين هناك في نفس المكان والزمان، نبني تياراتنا العشائرية والطائفية والمنفعجية نتخبط في تعرجات تاريخنا ونعيد سطرها لكن ببشاعة أكبر وحكمة أقل .

مئة عام مرت وما زالت الحاجة ملحة الى تبني مبادئ واضحة وأهداف واضحة، تصبح معالما لطريقنا نحو فلسطين التي نريد.

بين الخيانة والتقوقع هنالك الواقع

طرحت المسرحية بين ما طرحت تلك المفارقة بمعاداة كل من مريدي المفتي أمين الحسيني وعملاء الانتداب البريطاني وحلفائهم الصهاينة لنجيب نصّار، فهو يريد فلسطين دولة المواطنين التي تتسع للجميع، ويدفع عمره ثمنًا لأفكاره، يرفض المتشنجون كل طرق المناورة فيخسرون كل شيء في طريقهم، بينما يحرقون الأخضر واليابس ويدوسون أبناء شعبهم قبل أن ينجزوا مشروع إنجاز قبالة العدو الحقيقي، فبالنسبة لهم يقسم العالم إلى فسطاطين فسطاط الحق وفسطاط الباطل، بينما يمرّ أولئك الذين يبيعون كل شيء لأجل جيبوهم عبر دهاليز التاريخ دون أن يمسهم سوء متاجرين بالجميع متربّحين دومًا، مسبحين تارّة بحمد الله، وتارة بحمد بريطانيا، وتارة بحمد الصهيونية. فقط أشباه نجيب نصار تدوسهم عجلات الزمن، فهم وعلى قلتهم التهديد الحقيقي لواقع الظلم عبر تغير المستعمر وتشابه الوسائل. نحن نريد أن نربح كل شيء دون أن ندفع مقابله أي ثمن، وفي الوقت الحالي نخسر كل شيء.

نريد أن نربح كل شيء دون أن ندفع مقابله أي ثمن، وفي الوقت الحالي نخسر كل شيء

اقرأ/ي أيضًا: ميناء يافا.. أغنية المسافر

"التفكير يقتل الإبداع"، يقول نجيب لزوجته ساذج ليحثّها على الكتابة والإبداع، ولا أجد نفسي إلا مخالفًا لهذه الجملة، ومنحازًا لكل التفكير الذي وضع في هذه المسرحية وصنع هذا الإبداع تأليفًا وتمثيلًا وإخراجًا، لكي يكشف لنا كل هذا الكم من الحب لفلسطين والانحياز العاقل الواقعي المتّزن إليها، ولو توارى بين تعرجات الكرمل حينًا، فها هو يعود إلينا دفقات من الألم والأمل، لتخرج من المسرحية متشنجًا وممتعضًا من جديد من كشف المكشوف ومن انطلاء كل الحيل علينا في درب آلامنا إلى هذه النقطة، ولكن أيضا متفائلًا من هذا الكم من الإبداع والإخلاص الذي لا يحمل سوى بوصلة تشير باتجاه واحد "كان اسمه فلسطين وصار اسمه فلسطين".

 

اقرأ/ي أيضًا:

سلمان ناطور في سفره الطويل

حوار| زياد عيتاني: الوطن هو الناس الذين يشبهوننا