24-مارس-2019

الفنان زياد عيتاني

ألترا صوت - فريق التحرير

قبل أكثر من عامٍ من الآن، وجد الممثّل والكاتب المسرحيّ اللبنانيّ زياد عيتاني نفسه ضمن أجواء ومناخ مسرحية جديدة لم يكن قد تدرّب لها على الإطلاق، أو حتّى على معرفةٍ وعلمٍ بالدور الذي سوف يؤدّيه. كما لم تكن دون شك على شاكلة "بيروت، بيت بيوت"، أو "بيروت طريق الجديدة". ما كان مؤكّدًا أنّ زياد لن يلعب دور البطولة في هذه المسرحية، وأنّ البطولة سوف تذهب كاملةً إلى جهازٍ أمني ومحطّات إعلامية تسابقت لتأكيد جرم عيتاني الذي لعب دور المتهّم، دون أن يتمكّن من مناقشة بعض التفاصيل. الدور كان مُفصّلًا وجاهزًا، وعلى زياد عيتاني أن يلبسهُ بالقوّة، معلّقًا من يديه على جدران غرف التعذيب.

لكنّ المسرحية التي كُتبت على عجلٍ كما يبدو، بخطوطٍ سردية واضحةٍ ومرئية لمن يريد الرؤية فقط، وهم كانوا قلّة، لم تتمكّن من الوصول إلى النهاية كما خطّط المخرجون الكثر للمسرحية. انقلبت الأدوار فجأة، ولم يعد البطل بطلًا، ولا المتهم متّهمّا، وأسدل الستار على وقع صدمة الجمهور الكبيرة، فماذا حدث؟

هذا ما نسعى لمعرفته في حوارنا الآتي مع الكاتب والممثّل المسرحي زياد عيتاني، والذي خصّ به "ألترا صوت".


  • زياد عيتاني نُجري حوارنا هذا معك تزامنًا مع مرور الذكرى الأولى على إطلاق سراحك، وتأكيد براءتك من تهمة العمالة والتخابر مع العدو الإسرائيليّ. سؤالنا هنا كالتالي، كيف مرّت هذه الذكرى على زياد عيتاني؟ كيف تعامل معها؟ لا سيما وأنّنا نتحدث عن حدث يُعدُّ مفصليًا في حياتك الشخصية والمسرحية أيضًا؟

كان من الممكن أن تكون هذه الذكرى مُغايرة لو أنّني لم أصعد إلى المسرح، بمعنى أنّني لم أسمح، مجازيًا، بأن يمرّ عام كامل على إخلاء سبيلي دون مسرحية. ومن الممكن القول إنّ هذه الذكرى جاءت مختلفة، والقصد هنا أنّها جاءت بعد استرداد جزء من الحق الذي انتُزع عنوةً من مواطنٍ كان في منزله وبين أفراد عائلته. مُغايرة من حيث إنّه لم يكن هناك سابقًا قضية بهذا الحجم مُلقاة على كاهلي.

زياد عيتاني: الوطن بالنسبة لنا اليوم هو الناس الذين يشبهوننا، الشارع الذي ننتمي له

دون شك، هناك الكثير من الأمور التي تغيّرت. فأنا قبل الاعتقال كنت شخصًا ناقدًا للسلطة والنظام القائمين والفاسدين في لبنان. أمّا الآن، فأنا ضحية من ضحايا فساد هذه السلطة. قبل الاعتقال كنت شخصًا غير قادر أو لا يعرف كيف يكنّ أو يحمل عداءً شخصيًا لأحد. ولكن، وللأسف، زرع فينا هذا البلد القدرة على أن نملك أعداء داخليين حقيقيين.

وهؤلاء الأعداء هم أشخاص رأيت كيف يقومون لأجل مصالحهم باغتصاب مناصب ونفوذ ليست لهم. وكذلك كيف يحوّلون حياة المواطنين إلى وسيلة للتسلّق وانتقاماتهم الشخصية. بمعنى آخر رأيت الفساد بعينيّ، دون الحاجة إلى حديث البعض، أو البحث عنه. وفي عملنا المسرحي "وما طلّت كوليت"، وضعنا كلّ ما سبق ضمن النص، وجعلنا المتفرّجين يشاهدون ذلك، ويلمسونه كذلك الأمر. يخافون مما تصل إليه الشخصية فوق المسرح، أمامهم، ويضحكون في بعض الأحيان على مدة تفاهة فكرة أن يتحكّم الفساد بحياتنا كبشر أوّلًا، ومواطنين ثانيًا.

  • إذًا، من الواضح أنّ زياد عيتاني بعد تاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2017، يختلف بصورة كبيرة عن زياد عيتاني قبل هذا التاريخ. ولا شكّ في أنّ الكثير من الأمور والمفاهيم والرؤى قد تغيّرت. ضمن هذا السياق، هل لا تزال رؤيتك للوطن كما كانت عليه سابقًا؟ ألم تهتز؟

الوطن بالنسبة لنا اليوم هو الناس الذين يشبهوننا، الشارع الذي ننتمي له، سواء أكان من بيروت إلى الشمال، أو عكس ذلك. الوطن اليوم هو باختصار أسرة وأصدقاء، بمعنى أنّ الوطن بات محصورًا فيما سبق، وفقد معناه أو مكانته ومفهومه الأوّل والكبير.

لا أقصد هنا أنّ الوطن قد اندثر واختفى، على العكس تمامًا، هو حاضر، وحاضر بقوّة، ويعزّز عندنا الشعور بأنّنا تحت احتلال، مُحتلّين. أستعير هنا جملة قالتها السيدة سوزان الحاج (المتّهمة الأولى بتلفيق تهمة التخابر والعمالة لزياد) داخل المحكمة، وهي: "أنا يلي علّمت القراصنة الوطنية". أعتقد أنّ هذه العبارة من الضروري أن نتوقّف عندها طويلًا، ذلك أنّها تجسّد مفهوم الوطن والوطنية عند هؤلاء الأشخاص، أو القوم.

بالتالي باتت الوطنية مصطلحًا مبتذلًا ومكرّرًا وقابلًا لأن يُستخدم بأي معنى، وفي أي اتّجاه من قبل أي شخص بهدف إخفاء أشياء كبيرة وصادمة، والتستّر عليها. لذلك، لهذا السبب، تقزّم مفهوم الوطن لدي، وبات بحجم الشارع والعائلة والأصدقاء. وأؤكّد مرّةً أخرى أنّه فيما يخص الوطن بمعناه المتعارف عليه، فنحن إزاء، أو تحت، احتلال صريح ومباشر، وأمام صراع طويل وكبير، من الممكن أن نخسر فيه الكثير، ولكن في المقابل من الممكن أن نحقّق بعض الانتصارات، من بينها مسرحية "وما طلّت كوليت".

  • يستوقفنا المفهوم الجديد للوطن عند زياد عيتاني، أي المحصور بين العائلة والأصدقاء والشارع وغيره. دعنا نتوقّف أوّلًا وأخيرًا عند الأصدقاء، فمن المعروف أنّ العديد من الأصدقاء والمقرّبين منك سارعوا إلى انتقادك وإدانتك ومهاجمتك بعد التسريبات الأولية التي صدرت عن جهاز أمن الدولة. بهذا المعنى، هل تقلّص الوطن عند زياد عيتاني أكثر؟

ربّ ضارةٍ نافعة كما يُقال. عندما أوقِفت كنت بعمر الـ 42 عامًا، وعندما خرجت، اكتشفت بأنّني قُمت ببناء حياتي سابقًا بـ "مداميك" من سراب، بمعنى أنّني اكتشفت أنّ البناء بحدّ ذاته كان متصدّعًا، وانهار فعليًا في أوّل حادثة أو موقف.

زياد عيتاني: عندما قال المحقق بأنّني أتواصل مع العدو الإسرائيليّ، لم أجد ردًّا مناسبًا على ما تفوّه به غير: "احترم نفسك"

في المعتقل، أو الزنزانة الانفرادية، كان تفكيري واشتياقي كذلك محصورًا بثلاثة أمور هي، أوّلًا، المسرح وشريكي فيه، وثانيًا، البيت وشريكتي فيه، زوجتي، وثالثًا ابنتي. وأنا فعليًا خرجت من المعتقل فاقدًا شريكيّ في المسرح والمنزل، وبقيت ابنتي فقط، وهي تعوّض ما سبق دون شك. حينها، أدركت أنّ حياتي الشخصية وكذلك المهنية مبنيّة على وهم. ولا أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بتصديق أو عدم تصديق ما يُقال، بقدر ما يتعلّق بالوقفة الجادّة والدعم. فربّما ما كنت أحتاجهُ كسجين مظلوم هو كلمة، مجرّد كلمة ودعم معنوي.

هنا، بعد كلّ ما سبق، يجب أن نساوي بين من طعن ومن لم يدعم ومن تخلّى ومن تغيّر. ومن الطبيعي أن تُؤخذ كلّ هذه الأمور ضمن قالب وإطار واحد. عندها، نُصبح بحاجة لبناء حياة جديدة يكون فيها أصدقاء حقيقيون ومخلصون جدًا للعلاقة، بحيث يصير من الضروري قبولنا إن كنّا على صواب أو خطأ. لذلك أنا مكتفٍ اليوم بدائرة صغيرة جدًا، بعد أن تغيّرت طريقة تعاملي بالحياة ومع الحياة.

  • كيف تعامل زياد عيتاني مع اعتقاله في اللحظات الأولى؟ أو لربّما السؤال الأدق هو كيف كان وقع تهمة العمالة عليه كمواطن لبنانيّ أوّلًا ملتزم بقضايا شعبه، وكفّنان مسرحي ومثقّف ملتزم بقضايا الشعوب العربية الأخرى، الفلسطينيين والسوريين واليمنيين...؟

بدايةً دعني أستعد ما حدث بيني وبين المحقِّق عندما قال بأنّني أتواصل مع العدو الإسرائيليّ، أي عندما لم أجد ردًّا مناسبًا على ما تفوّه به غير: "احترم نفسك". فالتهمة أو مصطلح العمالة بالنسبة لي كان شتيمة، والمحقِّق عندما وجه لي تهمة كهذه كان يشتمني دون شك. لكن لاحقًا، اكتشفت مدى تفريغ وتسخيف هذا المصطلح، أي العمالة، الذي يعدُّ جزءًا من الصراع بين الحق والخير والجمال مقابل القبح والاحتلال والإجرام. مصطلح العمالة يجري التلاعب به للأسف، وبات أضحوكة. فهناك من يخوّن ويتّهم بالعمالة لأجل مواقفه، كما تفعل الأنظمة العربية اليوم. وهناك من يخوّن بداعي الثأر والانتقام عبر تلفيق الملّفات، وأنا أرى نفسي ضمن الإطار الأخير.

وقع اللحظات الأولى من الاعتقال كان مثل الضربة على الرأس، ذلك أنّ ما حدث برمّته كان مُفاجئًا ومُباغتًا، وينطوي على الكثير من الرعب والخوف والارتباك. فأنت في مكان يجري فيه انتهاك وقت من حياتك كإنسان أو مواطن دون حق. أضف إلى ذلك انتهاك آدميتك وبشريتك وكيانك على الأرض، وإيذائك نفسيًا وجسديًا في آن معًا.

أريد أن أؤكّد هنا أيضًا أنّ ما حدث برهن على صوابية مقولاتنا بأنّنا أمام وتحت احتلال صريح. وأنّ المواطن في العالم العربيّ بشكلٍ عام يرزحُ تحت وطأة طبقة محتلّة تُبدعُ في احتلال إرادة الفرد وحريّته وحياته، وبكلّ التفاصيل الأخرى، إن كان ذلك من خلال الفساد أو الدكتاتوريات أو العسكر أو الحركات المتطرّفة أيضًا. ومن المؤكّد أنهم جميعًا في النهاية ضمن مجموعة واحدة وبوجه واحد ويتشاركون مع العدو الظلم والقتل والانتهاكات والطغيان والتلفيق والاعتقال، ما يؤكّد أنّنا في دوامة كبيرة تضمّ هؤلاء الوحوش.

زياد عيتاني: في نهاية المطاف، أعزّي نفسي بالقول إنّني أخذت نصيبي من مآسي الشعوب العربية

في نهاية المطاف، أعزّي نفسي بالقول إنّني أخذت نصيبي من مآسي الشعوب العربية، أو كما يقول الفنّان أحمد قعبور في غنائه لقصيدة الشاعر الفلسطينيّ توفيق زياد: "ومأساتي التي أحيا، نصيبي من مآسيكم". أي من مأساة السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والمصريين، والشباب العربيّ بشكل عام، أولئك القابعين في الزنازين والمعتقلات. وهذا الأمر هو ما جعلني أتجاوز ما تعرّضت له بسرعة، كما جعلني أيضًا أكثر تصميمًا وإرادة في تثبيت هذه القناعات أمام الناس، سواءً بالعمل الفنّي أو الكلمة أو الموقف، وحتّى عبر الشارع إن احتاج الأمر النزول إلى الشارع. ومن لفّقَ لي تهمة العمالة والتخابر مع العدو الإسرائيلي، هو أكثر شخص من الممكن أن يُشبه هذا العدو ويتشارك معه الكثير من التفاصيل.

  • عند الحديث عن قضيتك الشائكة والمعقّدة جدًا، نجد أنّ العنصر الأبرز في تركيبتها بلا شك هو شخصية كوليت. سؤالنا لك هنا، كيف تكوّنت أو خُلقت هذه الشخصية، وبهذا الشكل الذي جعل الإعلام اللبنانيّ يتسابق لوصفها ونسج الحكايات والقصص الخيالية حولها؟ كيف تعامل عيتاني معها؟ وماذا تعني له اليوم؟

كوليت بالنسبة لي شبيهة بشخصية "راجح" التي استعملها الرحابنة في مسرحية "بياع الخواتم". أمّا عن الكيفية أو السياق الذي وُجِدت فيه هذه الشخصية، فهي وجِدت من خلال سؤال الضابط الذي كان معنيًا بتعذيبي قبل أي شيء آخر. وهو "صبي" سعيد بالمهمة التي أوكلت إليه. سؤاله كان عن الاسم الحقيقي للمشغّلة، فمن غير المعقول برأيه أن يُعرّف ضابط مخابرات عن نفسه في الفيسبوك ووسائل التواصل باسمه الحقيقي، لذلك كان الجواب هو "كوزيت"، بطلة عمل فيكتور هوغو الشهير "البؤساء"، ولكنّ الضابط حوّلها إلى كوليت بدلًا من كوزيت.

تحوّلت كوليت في هذه الجزء تحديدًا من القضية إلى مادّة أو حكاية رخيصة شأنها شأن الكثير من الحكايات الرخيصة التي صدّرتها الأنظمة العربية لتبرير قمعها وتخوينها للمعارضين، والتي تتمحور عادةً حول فتاة شقراء، وجنس، و"خلص وقع الشب". هذه الأنظمة تعتقد أنّ هذا هو حجمنا، وتعتقد أنّه من غير الممكن أن نكون قد تخطَّينا أمورًا كهذه. والإعلام اللبنانيّ في هذا السياق، والذي خصَّص حلقات مطوّلة لأشخاص تافهين جدًا، لا يحتاج أبسط وأسخف من هكذا حكاية لينشغل بها، متذرّعًا بأنّه أحد خطوط المواجهة والدفاع ضدّ الاحتلال. والإعلام أيضًا جزء من المنظومة المسؤولة بتفاهاته وسخافاته عن تخلّفنا الفكري أمام العدو. سأجسّد وأبسّط ما ذكرته كالتالي؛ ثقافتنا ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ انقلبت من قصائد محمود درويش وأغنيات كالقدس لنا وغيرها، وأصبحت مجسّدة في "اضرب والريح تصيح" التي تُغنّى في النوادي الليلية، وبرعاية الإعلام.

  • ضمن هذا السياق، هناك الكثير من المحطّات الإعلامية اللبنانية تدّعي الوقوف في جبهة محاربة ومواجهة وكشف الفساد، عبر العديد من البرامج الاستقصائية. ألّا تستحق قضية زياد عيتاني جهدًا استقصائيًا عند هذه المحطّات؟ وكيف تفسّر الحقد الإعلامي الذي بدا واضحًا على زياد عيتاني بعد اعتقاله؟

أوّلًا ادّعاء الإعلام اللبنانيّ بأنّه يُحارب ويعمل على كشف الفساد من خلال برامجه الاستقصائية لا يندرج إلّا في خانة تطويع معاركه الخفية والجانبية المتمحورة حول ابتزاز أي طرف أو شخصية سياسية كانت من خلال تسليط ورقة كـ "الفساد" عليه إلى حين تحقيق مرادها، فتوقف حينها البرنامج. والدليل على ذلك هو عدم وجود حلقة استقصائية واحدة وصلت إلى نتيجة، أو حلّت المشكلة التي تناولتها على الإطلاق.

ثانيًا، ما فعلهُ الإعلام اللبنانيّ بعد أن سُرّبت التحقيقات الأولية من أمن الدولة بطريقة غير شرعية، هو الإسراع إلى تضخيم القضية، علمًا بأنّ التحقيق آنذاك لم يكن قد انتهى. ومن جانب آخر، هناك العديد من الملفات الموجودة في المحكمة العسكرية والمتعلّقة بقضيتي، ومن الممكن الوصول إليها بكل سهولة، ولكنّ وسائل الإعلام أغفلت عن عمد موضوع كهذا، وحاولت أيضًا إغلاق هذا الملف بفعل قربها الشديد من السلطة في لبنان.

  • في إحدى تغريداتك في تويتر، قلت بأنّ الطبقة السياسة في لبنان أقلّ فسادًا من الإعلاميين والطبقة الإعلامية، الأمر الذي أثار حفيظة البعض ممن وصف تغريداتك بأنّها إهانة مباشرة للإعلاميين، وطالب بوقف تمادي زياد عيتاني على الشخصيات والمؤسّسات الإعلامية. كيف ترد؟

من الضروري معرفة أنّ الطبقة السياسية التي يدّعي الإعلام محاربتها، لا يوجد أحد على الإطلاق يستطيع الترويج لها في فترة الانتخابات أكثر من هذه المحطّات الإعلامية التي تُخصِّص حلقات مطوّلة للمرشّحين تتحدّث عن إنسانيتهم وتستعرض مواهبهم وهواياتهم. وبالتالي يكون الإعلام أكثر المستفيدين من الانتخابات دون شك. فلو كانت هذه المحطّات مصرّة على أداء واجبها بالشكل الصحيح، كانت قد اتّجهت إلى تخصيص مناظرات بين المرشّحين تكون مفتوحة لعموم الشعب، بدلًا من المقابلات السخيفة تلك.

زياد عيتاني: الإعلام اليوم بلا شك هو ركن الزاوية لهذه السلطة الفاسدة في لبنان

يكفي الإعلام اللبنانيّ أيضًا أن تقوم مسؤولة نشرة الأخبار في إحدى المحطّات الإعلامية، بالاستشهاد بأقوال مُخبر! نتحدّث عن مخبر، لا عن ضابط أو جهاز أمني، عن مخبر ثمّة من يستشهد بأقواله. وبالتالي، مقام المخبرين في هذه البلاد، من مقام هؤلاء الأشخاص. ولذلك، أنا أتشرّف بمهاجمة الإعلام اللبنانيّ، وأعتبر الأمر بمثابة وسام أضعه على صدري، وجزء كذلك من عملي النضالي الموزّع على قضيتي وما هو أبعد منها. والإعلام اليوم بلا شك هو ركن الزاوية لهذه السلطة الفاسدة. وإذا أردنا القيام بتعريتها، فيجب أن نبدأ من الإعلام أوّلًا.

  • إذًا، نفهم من حديثك أنّ احتياطي القيم والأخلاق على كافّة الأصعدة، والمستويات كذلك، المحلّية والعربية، وصل اليوم إلى أدنى مستوياته. وبالتالي، وفق منظورك ورؤيتك، إلى أين نسير اليوم؟ أو بالأحرى إلى أين سنصل؟

ما أستعيده هنا هو مقولة باتت شعبوية جدًا لفرط استخدامها وتكرارها، ولكنّها تفي بالغرض الآن، وهي أنّ القاع قد ازدحم. لذلك، أنا أرى أنّنا نسير نحو الأسوأ. ولكن، في المقابل، أستعيد مثل شعبي شهير جدًا يقول "إن ما كبرت ما بتصغر". المثل قد يكون أقرب إلى إعلان انتحار للمنطقة بفعل الأزمات التي تضربها، وأنواع السلطات الدكتاتورية المستبدّة التي تحكمنا. ولكنّ تراكم الظلم والطغيان والفساد وانعدام الحريّات يستدعي انتحارًا كهذا، من الممكن أن يكون شرارة لموجة جديدة تستعيد فيها الشعوب الشارع مجدّدًا للتعبير عن احتجاجها ورفضها لهكذا أنظمة سياسية. وإن لم تندلع هذه الموجة الآن، ففي السنين القادمة بكل تأكيد، ذلك أنّ الشعوب العربية اليوم شعوب منهارة ولا أمل لها إلّا في الانفجار من جديد.

  • إلى أي مستوى من مستويات الهزلية وصلت إليها قضيتك اليوم؟ وماذا تبقّى للمثقّف اللبنانيّ الآن في مواجهة سلطة كهذه القائمة في لبنان؟ وهل تحوّل لبنان إلى دولة بوليسية؟ نستعيد هنا نموذج الدولة التي صوّرها الروائي البريطانيّ جورج أورويل في روايته "1984". برأيك، هل يجسّد لبنان نموذج هذه الدولة اليوم؟ دون أن ننسى الأخ الكبير ودوره طبعًا؟

من الممكن حصر الهزلية في ثقافة "الترندات" التي تغلّبت اليوم على أي ثقافة أو مفهوم آخر في الشارع اللبنانيّ. ومن الممكن القول أيضًا إنّ هذه الثقافة بمفهومها الجديد كليًّا قد تحوّلت إلى "معبود" الشعب اللبنانيّ اليوم، دون أن ننسى أيضًا أنّنا في بلد صغير جدًا، بمعنى أنّ الشهرة فيه تكون سريعة جدًا، ولكنّها في المقابل تخفت سريعًا أيضًا. قضيتي في هذا السياق، وبمعايير الـ "ترند"، كانت سوف تنتهي شأنها شأن الكثير من القضايا الأخرى لو لم يكن هناك محاكمة، ولو أنّني توقّفت أيضًا عن المطالبة بتحصيل حقوقي كاملةً كمواطن انتُهكت كرامته زورًا. لذلك أنا أعمل اليوم بمفردي، وضمن إطار القانون، من خلال دعوة لم تلقى أي تحرّك حتّى هذه اللحظة، أو اهتمام إعلامي. فالإعلام اللبنانيّ بشكل عام لا يعتقد أنّه من ضمن مسؤولياته الاهتمام بقضية مرفوعة على جهاز أمن أوّلًا، وضابطة سابقة ثانيًا. ولذلك، نحن باختصار بلد "ترندات" فقط.

الأخ الأكبر في لبنان موجود دائًما، ومنذ وقت طويل أيضًا؛ نتحدّث عن الطائفية تحديدًا، فهي من خلال ممارستها للسلطة الأبوية، كانت دائمًا الأخ الأكبر في هذا البلد. والطائفية كما هو معروف في النهاية قد أثمرت أوّلًا مجموعة من الميلشيات، ثمّ زعامات سياسية وطائفية، ومن بعد ذلك قانون إعلامي في منتصف التسعينيات وزّع المحطّات الإعلامية على هذه الميلشيات المتحاربة، وهذه المنظومة نجحت في غسل الأدمغة من خلال تفريخ إعلاميين جديد بمواصفات محدّدة، وإبعاد المثقّفين اللبنانيين إلى الظل. لذلك من المستحيل في بعض الأحيان أن نُشاهد على شاشات هذه المحطّات مثقّفين حقيقيين، وإنّما فقاعات تحظى بغطاء سياسيّ وطائفيّ دون شك. وبالتالي تُعزّز هذه الأمور بكل تأكيد من فكرة الدولة البوليسية وحضورها اليوم في لبنان.

  • بناءً على تجربتك المريرة جدًا، كيف ترى علاقة المثقّف الحقيقيّ بالسلطة اليوم، في لبنان تحديدًا؟ كيف يتعامل رجال الأمن مع المثقّفين؟ أو كيف تعاملوا معك بعد معرفتهم بأنّك الممثّل المسرحي زياد عيتاني؟ وأيضًا، من كان حاضرًا في المعتقل أكثر، عيتاني المواطن العادي أم المسرحي؟

الضبّاط والمحقّقون والعناصر، الجميع باختصار، كانوا فرحين جدًا بما يحدث، دون أن يكونوا في الساعات الأولى من الاعتقال على علم بمن أكون، وهذه فضيحة. وأنا أعتقد أنّ جزءًا كبيرًا من سعادتهم في تعذيبي كانت تنبع من شعورهم المسبق بالدونية تجاه الآخرين، في الوقت الذي يشعرون فيه بأنّه من المفروض أن يكونوا، وبناءً على مناصبهم، مركز اهتمام في البلد. وهذا الشعور يدفع بهؤلاء الأشخاص إلى مضاعفة مستوى التعذيب والتعنيف وممارسة أكبر قدر من السادية والانتقام الشخصي. وهذه أمور متوقّعة في عالمنا العربيّ، وكثيرة الحدوث أيضًا.

في الانتقال للسؤال الثاني، أستطيع القول إنّ من كان حاضرًا في السجن يختلف بشكلٍ كبير جدًا عن زياد عيتاني المواطن والمسرحي معًا. في المعتقل كان هناك إنسان آخر مكسور ومنهزم ومحبط وشديد اليأس، وهذه المشاعر كفيلة بإعادة صياغتك وتحويلك إلى إنسان مختلف كليًّا عن ذلك الذي كنت عليه قبل الاعتقال، تحديدًا بالنسبة لشخص لم يأخذ الحياة بجدّية كبيرة. وبالتالي، هناك شخص تحطّم بشكلٍ كامل في السجن، ولكنّه أعاد ترميم نفسه بنفسه لاحقًا ليتمكّن من مواصلة مسيرته في تحصيل حقّوقه وتحقيق العدالة. على الصعيد المسرحيّ، ما تغيّر هو أنّ منسوب أو كمّية السخرية والكوميدية والهزلية عند زياد عيتاني قد خفّت وتقلّصت لصالح النضال والعمل على توضيح صورة النظام القائم لجميع المواطنين.

  • ما هو العامل الذي ساهم في تلاشي الرواية التي صدّرها جهاز أمن الدولة إلى الإعلام؟ أي التهم المتعلّقة بالعمالة والتخابر وكوليت. ما الذي ساهم في نزع المصداقية عن هذه الرواية بعد أن تحوّلت إلى حقيقة عند الإعلام وفي الرأي العام؟

تلاشي رواية جهاز أمن الدولة ومن بعده الإعلام، بدأ بمجهود فردي بمساعدة بعض الأصدقاء أوّلًا. بمعنى أنّ تلاشيها كان قائمًا على سعينا الدؤوب لإثبات الحقيقة، حتّى بعد خروجي من السجن. فالموضوع كما أراه يتطلّب، دون شك، العمل على إظهار الحقيقة كاملةً، وهذا ما أفعله من خلال المنظّمات الحقوقية، والضراوة أيضًا في مواجهة ومهاجمة الإعلام، ومن خلال المسرحية أيضًا، وما طلّت كوليت. إلى جوار ذلك، يُضاف أيضًا المستوى المهني العالي للمحقّقين في "شعبة المعلومات" الذين ساهموا من خلال التحقيقات التي تخطّت أكثر من 600 صفحة، في تلاشي الرواية وإظهار الحقيقة، لا سيما وأنّنا نتحدث عن جهاز أمن من غير الممكن تخطيه أو عدم الأخذ بنتائج تحقيقاته التي كانت خلف وصول وتحويل المقدّم سوزان الحاج وقرصانها إلى القضاء. أعرف أنّ هناك غطاءً سياسيًا في البلد عندما يتعلّق الموضوع بالمحكمة، ولكن في حال لم تصل النتائج إلى ما هو منصف بحقّي، فسوف أستمر بكل تأكيد في معركتي هذه.

  • حدّثنا عن المشهد الأكثر ثباتًا في ذاكرتك من أيام الاعتقال والتعذيب والتعنيف داخل المعتقل؟

أكثر مشهد عالق في ذاكرتي، ومن الصعب أن أنساه أبدًا، هو مشهد تعليقي على جدار الزنزانة بعد التعذيب دون أن أكون قادرًا على الحركة إطلاقًا بسبب الضرب المبرح على قدميّ. في هذا الوقت أيضًا، كنت أسمع ما يُقال في التلفزيونات عن زياد عيتاني وقضيته وعمالته وهذه التفاصيل المؤذية.

زياد عيتاني: هناك شخص تحطّم بشكلٍ كامل في السجن، ولكنّه أعاد ترميم نفسه بنفسه لاحقًا ليتمكّن من مواصلة مسيرته في تحصيل حقّوقه وتحقيق العدالة

هناك أيضًا مشهد البحث عن العبوة البلاستيكية المخصّصة للتبول في الزنزانة الانفرادية المُظلمة، مشهد لا يبدو قابلًا للنسيان على الإطلاق. أضف إلى ذلك لحظة إخلاء سبيلي وإبلاغي ببراءتي من التهم الموجّهة أو الملفّة لي. في تلك اللحظات، كان السؤال الأكثر إلحاحًا عليّ هو "لماذا؟"؛ لماذا حصل كلّ ذلك؟ وما الذي يدفع بهؤلاء الأشخاص إلى فعل ما فعلوه؟

  • وصف البعض مسرحية "وما طلّت كوليت" بأنّها ثأر أو انتقام زياد عيتاني مما تعرّض له. برأيك هل كانت المسرحية فعلًا ثأرًا أو انتصارًا؟ وهل جسّدت المسرحية الحكاية كاملةً؟ بمعنى أنّها لم تعد اليوم قابلةً لأن تُروى من جديد؟ وهل كانت المسرحية في مكانٍ ما رثاء للدولة اللبنانية؟

إطلاقًا، لم تكن المسرحية ثأر شخصي أو انتقام، ولو كانت كذلك لما وصلت إلى المكان الذي وصلت إليه الآن وبعد كلّ عرضٍ لها. المسرحية باختصار شديد وبساطة كانت مرآة تعكس ما تعرّضت له في المعتقل أوّلًا، والواقع الذي نعيشه كلبنانيين في مواجهة هذه السلطة والنظام. وانطلاقًا من انتمائي للمسرح الشعبيّ، فضّلت ألّا أحمّل المتفرّجين قضايا وشعارات كبيرة، بقدر ما أردت أن أروي لهم الحكاية بطريقة تسخر أوّلًا من الجلّاد، وتوصّل الحكاية لهم بأمانة دون إضافات وزيادات، وثالثًا بأسلوب لا يشعر فيه المتفرّج بأنّه يتعرّض للتعذيب معك.

والمسرحية كانت أيضًا جزء من منظومة مرثيات كبيرة قائمة منذ فترة كبيرة، منذ حراك 2015 تقريبًا، حين نزل الناس إلى الشوارع للاحتجاج على أزمة النفايات ووجودها إلى جوار منازلهم، وتعرّضوا حينها لحملات تخوين كبيرة، ووصفوا بـ "الدواعش". وبالتالي منذ ذلك الوقت، هناك مجموعة مرثيات مستمرّة لهذه البلاد، والمسرحية جزء منها دون شك، وللسلطة القائمة، وللموت المعلن كذلك، مجازيًا، في مشهد الازدحامات المرورية التي تشعر للحظة بأنّها مقابر جماعية، والناس جثث هادمة داخل سياراتهم.

  • تعرّضت لتعذيب مبرح جدًا، وأذى نفسي وجسدي كذلك. فلماذا غابت المشاهد القاسية عن المسرحية؟

كنّا ندرك، أنا وأصدقائي، بأنّ الطريقة الجدّية والحادّة في التعذيب والضرب المفرط والعنف والإيذاء الجسدي والنفسي، لا تستحق إلّا الرد بالسخرية. أستعيد هنا بيت شعر أو مقولة لتميم البرغوثي يقول فيها إنّ: "في عداء الوضيع ما يضع".

زياد عيتاني: الطريقة الجدّية والحادّة في التعذيب والضرب المفرط والعنف والإيذاء الجسدي والنفسي، لا تستحق إلّا الرد بالسخرية في المسرح

لم نكن نريد في الحقيقة تكبير هذا الجلّاد بقدر ما أردنا أن نسخر منه، ونُضحك الآخرين عليه. لأنّ الجلّاد في الأساس كان يسعى لأن يكون جزءً من هذه السلطة، وصاحب دور كبير في قضايا كهذه أيضًا. ولو أنّ المسرحية ضمّت أو احتوت مشاهد تعذيب، لكنّا أوصلنا الجلّاد إلى المكان الذي يريد الوصول إليه. ولذلك كان لا بدّ من السخرية.

  • لو فكّرت يومًا في كتابة حكايتك هذه ضمن رواية أو قصّة، ما العنوان الذي سوف تختاره لها؟

"بلاد كوليت وسوزي". وهذا العنوان اقتباس من قول لصديقي مغنى الراب مروان بو ناصر: "نحن ولاد الناس، الناس العادية، والشوارع المنبوذي، وهنّي ولاد السلطة وكوليت وسوزي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| فيصل دراج: المثقف قائم في النقد

حوار| كريم مروة: ثورات الربيع العربي بوصلة نحو المستقبل