26-ديسمبر-2016

من العرض

تبدأ مسرحية "قناديل ملك الجليل" بمسطح من الغبار يجلس على طرفه أبطال المسرحية، ولا يمكنني كواحد من ملايين معجبي "لعبة العروش"، إلّا أن أنتبه إلى الوجوه الجامدة المرتّبة عشوائيًا بما يذكر بطريقة أو أخرى بوجوه معبد مدينة برافوس. صورة جمالية تبشّر بالخير ولا تكفيها الدقائق القليلة قبل بدء المسرحية حتى تتشرب تفاصيلها. 

المسرحية المأخوذة عن رواية بنفس العنوان لإبراهيم نصر الله، كتابة مسرحية عامر حليحل، من إنتاج "مسرح الحكواتي" في القدس، أما الإخراج والتصميم فلأمير نزار زعبي. يشارك في التمثيل كل من: عامر حليحل، عامر خليل، فداء زيدان، أديب صفدي، منى حوا، محمد باشا، علاء أبو غربية. موسيقى حبيب شحادة حنا، إضاءة رمزي الشيخ قاسم وعماد سمارة.

تدور أحداث مسرحية "قناديل ملك الجليل" حول استلام ظاهر العمر لوظيفة متسلم طبريا

تدور أحداث العرض حول استلام ظاهر العمر لوظيفة متسلم طبريا، ومن ثم خلافه مع إخوته على من "لا يريد" تسلم السلطة، وتمر بتاريخ وأحداث نسيناها وتناسيناها، فنحن كما يبدو قد امتهنّا تحطيم ذاكرتنا بحرفيّة تفوق قدرتنا على تحطيم أصنام المعرفة.

اقرأ/ي أيضًا: لعنة "شبح الأوبرا" تصيب مسرح "موغادور" الباريسي

تتسارع الأحداث والشخوص وتتبدل بتواتر يخلب اللب ويتركك مشدوهًا تحاول إنتاج أذنين وعينين إضافيتين، حتى تستطيع استقبال كل الإبداع الذي يتجلى على ذلك الفضاء المغبرّ. قد يكون مأخذي أنك تحاذر أن ترمش حتى لا تغفل عن بعض التفاصيل من ذلك الشلّال الهادر من الذاكرة. رغم أن هنالك مقطعًا صغيرًا تشعر أن المسرحية انتقلت من الهرولة إلى عرض بطيء لمسير قافلة من الأحصنة، هي تاريخنا من التفاصيل الصغيرة غير المهمّة وغير المذكورة في أمهات كتب التاريخ، ولكنها هي بعينها نحن، هي تاريخنا وكينونتنا وصيرورتنا.
 
تثبت المسرحية بشكل واضح وقاطع غير قابل للتشكيك والمناقشة أن أصل الفلسطيني حصانٌ. حصانٌ عاش في بلاده دون أن يستجلب كوشانًا ربّانيًا، أو يكتب تاريخًا محوّرًا يعطيه وثائق شرعية يناور بها على وجوده. حصانٌ يكتب بحوافره اسمه على التراب ويدفنه بالغبار والعرق، وينسى أن يبني غيتوهات التميّز الطائفي والعرقي، بل يحمل روحه وسيفه ويسير من البحرة إلى البحر جيئةً وإيابًا، كي يملأ رئتيه بأكبر كمّية من هواء وطنه. حصانٌ لم يعترف بالتسميات والحدود، يسير في فضاءات البلاد التي يريد متى يريد.

من الغريب أننا عندما تقول روما، أو باريس، أو حتى فيرونا.. نسترسل في رومانسيتنا ونتخيل تاريخها بما فيه من جماليات كثيرة ودماء أكثر، لكننا نتقبلها كلها بسلام. لكننا حالما نسمع باسم عرّابة أو طبريا أو غيرها من مدننا المغمورة، تطفو علامات السؤال على محيّانا، فرؤوسنا مزروعة بالفراغ عن قرانا القريبة كأنها شبهة بشائنة كبيرة، تمامًا كما نتنكّر تسميات أجدادنا لنباتات وزهور بلادهم كالفرفحنّة، والصفّير، والكرسنّة، والعلت... ونستبدلها في أشعارنا بأسماء جميلة رنّانة لزهور من بلاد أخرى.

عندما نتذكر تاريخ روما، أو باريس.. نسترسل في رومانسيتنا ونتخيله تاريخًا من الجمال

اقرأ/ي أيضًا: هل ثمة "مسرح احتجاجي" عربي؟

تحوي مسرحية "قناديل ملك الجليل" زخمًا رائعًا، وتجليات راقية لطاقم ممثلين مبدعين، وصوت المغنية الرائع في تهليلها الذي يوفر وسادة روحية نتكئ عليها أثناء المشاهدة، تتخلل المسرحية مبارزات محبوكة بشكل مخيف تجعلك تلتصق بالكرسي حتى لا ترشقك قطرت الدم التي قد تنتج من التقاء السيوف والحناجر.

نهاية ألّخص وأقول إن مسرحية "قناديل ملك الجليل" تحمل عبق التاريخ وعمقه وخفّة الأحصنة العربية الأصيلة، وتمزجها بحداثة مشوّقة وتسلسل ساحر للأحداث، ممزوج بموسيقى تنبثق من قلب التوتر الدرامي، فتصبح هي الحدث في باقة من فوضى الجميلة تخلب حواسك وتتركك مشدوهًا لوقتٍ إضافي، حتى تترك لمخّك فسحة -محكوم عليها بالفشل- يعالج فيها هذا الكم من الحياة التي مرت من تحتنا كنهرٍ جبار، مر تحت بلادنا دون أن يراه أحد، فصار كأنه لم يكن، لولا هذه المسرحية التي نبشت تلك الذاكرة.
 

اقرأ/ي أيضًا: 

عمر المعتز بالله.. مسرح صنع في مصر

"بس انت مش شامم؟".. مسارات التشدد في مصر