14-فبراير-2017

من العرض

بطاقة العرض

مسرحية "ألاقي زيّك فين يا علي" من تأليف وتمثيل رائدة طه، ومن إخراج لينا أبيض، عرضت مؤخرًا في حيفا، ضمن جولة عروض في فلسطين.
 
في البدء كان البرّاد

لم تكن البداية مشجّعةً بتاتًا، مشاهد صغيرة متواصلة تتحدث عن محاولة اغتصاب من قيادي في منظمة التحرير، بداية صادمة نوعًا ما تروى بمقاطع صغيرة مشتّتة قليلًا. لم تدلّ بتاتًا على ما سيحدث ما بعدها. 
 
في "ألاقي زيّك فين يا علي"، تتجاور الكوميديا والتراجيديا في المشهد الواحد

يحدث كثيرًا أن تشاهد فيلمًا أو مسرحية وتقتنع أن الممثل خلق للقيام بدوره هناك، لكن بعد مشاهدة "ألاقي زيك فين يا علي" حدثت طفرة على فهمي لمصطلح "خلق للقيام بهذا الدور"، فهذه الممثلة والمؤلفة رائدة طه، التي لا أشك لوهلة بقدراتها المسرحية، قد تبلورت حياتها وحياة أهلها حول هذه المسرحية، بدءًا من قرار والدها "علي طه" أن يصبح فدائيًا، وخروج والدتها عن نصيحة "تتجوزيش حكيم أو فدائي"، ووقوعها في حب علي طه، وزواجها منه. مرورًا بهجوم باراك ونتنياهو على الطائرة ومقتل علي، وصولًا إلى برادات دولة الاحتلال.

اقرأ/ي أيضًا: قناديل ملك الجليل.. أصل الفلسطيني حصان

هناك في البرّاد تحديدًا تتبلور المأساة لتأخذ هذا البعد الإنساني البسيط، ولتخلق غرفًا ذات حيطان ضاغطة تقترب من بعضها البعض، ولكن هذه الغرف الصغيرة الباردة، تضغط على أرواح بطلتنا وعائلتها، لتخلق بها تشوهات الفقد وقلّة الحيلة في غياب "علي"، غرف باردة كالموت تكشف عوراتنا وتعرّي خذلاننا لمن مدّوا أنفسهم جسورًا لنا نحو أحلامنا، التي عجزنا حتى أن نتكلم عنها بصوت مرتفع.

المسرحية تسرد أحداث ما بعد الاستشهاد، ولكنّها تتركز في ما لن يعرض على شاشات التلفزيون من عائلات وأبناء، عن فناجين القهوة المتسخة ومنافض السجائر الممتلئة والمتراكمة في المطبخ، وماذا يعني أن تكون فلسطينيًا في لبنان في السبعينيات.

بين العمّة والأم

لا شك أنّ العمّة، التي أقسمت أن لا تتغطى حتى يواري أخوها التراب، والتي دارت في شوارع القدس الغربية بحثًا عن كسنجر، ولم تعد إلى البيت قبل أن تقابله ويعدها بإعادة جثمان أخيها، هي نجمة القصّة، كيف لا وهي رمز المرأة الفلسطينية الأميّة التي تفعل ما عجزت عنه آلاف الرجال. وذلك رغم أن فتحية هي تذكار حيّ أنّ فلسطين ولّادة، فقد استطاعت الحفاظ على عائلتها في اللجوء اللبناني وأن تبنيها، وابنتها رائدة هي أكبر برهان على تفوقها في ذلك وعلى مهارتها في تنشئة جيل لاحق، لا يزال يسير على الدرب رغم شحّ الموارد وفقدان البوصلة الكبرى.

طلّ سلاحي من جراحي

شاهدت طبعًا مسرحيات استطاعت أن تستدرّ دموعي، وشاهدت مسرحيات استطاعت إضحاكي، وحتّى أنّي شاهدت مسرحيات استطاعت فعل الأمرين في مقاطع مختلفة، لكنّ هذه المسرحيّة استطاعت فعل الأمرين في مشهد واحد، تبكي وتضحك، تحزن وتفرح، تصفق وتنتكس، تطرب وتنشّز، تحبّ الوطن وتكرهه، تشعر أنّك جزء من واحد لا تعرفه وتشعر كم هو مشتّت هذا "الواحد".

آه يا وجع الروح المستشري، لقد خرج اليسار من الموضة، اليسار الذي يحبّ الإنسان ويكره الضيم، اليسار الطوباوي الذي يحمل القضية ويقنع بها البشر من كل الجنسيات والأديان، فينضم إليها اليابانيون وأبناء أمريكا اللاتينية حتى يدافعوا عن حقّ البشر في الحصول على حقّهم. وبدّلته ثقافة الكره، الرجل الأبيض يكره الأسود، والمسيحي يكره اليهودي، واليهودي يكره المسلم، والمسلم يكرههم جميعًا. ثقافة الحور العين والانضمام الجماعي إلى قطيع الملّة، كل تلك الأفكار مرّت بينما كنت مستغرقًا في الضحك والبكاء على صوت "أغنية طل سلاحي"، بينما تقوم الممثلة بتأدية التحية والمارش العسكري.
 
النص الذي يدخل في ما خرج من النص

خرجت الممثلة عن النص مرّتين ولم تقلّ تلك المقاطع حيوية وأَلَقًا عن المقاطع الأصلية، فهي تارة تذكر مسؤول الإضاءة أنّه هناك في الخليل لم يقوّ الضوء إلى هذه الدرجة فتعطيك تذكارًا صغيرًا أن المسافة بين الخليل وحيفا هي مجرد اختلاف طفيف في قوة الضوء، وتارة تنادي على مرافقيها من الخليل وتسألهم عن حيفا، وهناك شعرت بغصّة صغيرة، فأنا أعيش في مدينة يحلم أهلها الأصليون برؤيتها ولو في الحلم. فتعود المسافة بين حيفا والخليل بالاتّساع لتعود الفجوة. 
 
بماذا يختلف علي؟

قدّم شعبنا آلاف التضحيات في تاريخه، لكنّ علي يتبلور كحالة خاصة حيث قام بما قام به لأنّه يعرف "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"، لأنه يعرف كل حجر من حجارة القدس، علي قام بما قام به لأنه يحبّ، يحب زوجته وبناته، يحبّ وطنه يحبّ القدس ويحبّ شعبه، ويحب الأسرى الذين غرقوا في السجون دون أن نتذكرهم، يحبهم حدّ الموت.

كم بقي من الفلسطينيين المثقفين والقياديين المستعدين دفع كلّ ثمنٍ شخصي من أجل قضيتهم؟

اقرأ/ي أيضًا: إبريق الشاي في مرآة المسرح السحرية

سفر الخروج

تخرج من مسرحية كهذه بفجوة في رأسك، يخالجك بعض الندم لأنك دخلت أصلًا، ندم لأنها حفرت عميقًا في دمك، لأنها فصدت شرايينك وأخرجت شلّالات من الدم الفاسد، إذا كنت تقصد التسلية فقط فأنا أنصحك بعدم مشاهدة هذه المسرحية، فسوف يخالجك الشعور بأنّك نكرة، نكرة مبهمة لا محل لها من الإعراب: ماذا فعلت من أجل فلسطين وأنت جالس في مقعدك المفضلّ في المقهى؟ هل فكّرت باللاجئين وسكّان المخيمات؟ وبمن يحلمون ب "والدٍ" يدخل المنزل، والدٍ صارت جثته خطرًا أمنيًا على أقوى جيش في الشرق الأوسط؟

تستحي أن تسأل نفسك "هل أنا مستعد أن أهبَ نفسي من أجل الوطن؟"، فالجواب واضح، وعندما تساءلت: كم بقي من الفلسطينيين المثقفين والقياديين المستعدين دفع كلّ ثمنٍ شخصي من أجل قضيتهم؟ لوّح لي الجواب على شكل اسم مسرحية شاهدتها للتو: "ألاقي زيّك فين يا علي؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرحية "ليكستا".. الجزائر عاريةً

عن اختراع ميتة لخالد تاجا!