31-أكتوبر-2016

تظاهرة باريسية مطالبة باستقلال الجزائر (1961/أ.ف.ب)

تشارلي أويل، صحفي وكاتب بريطاني يعمل في المنطقة العربيّة،  وكتب للعديد من الصحف والمواقع المختصة بتغطية الشرق الأوسط، وهو مهتمّ بشكل خاص بقضايا حقوق الإنسان، والاقتصاد السياسي للعنف، ودور الهويّة في الصراعات. يتناول تشارلي أويل في هذه المقالة مذبحة باريس، المعروفة باسم "مغرقة السين"، التي راح ضحيتها أكثر من 200 من المتظاهرين الجزائريين في باريس، ويلقي الضوء على هذه الأحداث ليذكّر بحالة الإنكار الفرنسيّة لجرائمها ضد الجزائريين بشكل عامّ، في ذلك الفصل الدمويّ من تاريخ فرنسا الحديث.

تمثل حرب الاستقلال الجزائرية فصلًا داميًا نظرًا لدموية المستعمر الفرنسي، فقد قدم الجزائريون ما يقارب مليون ونصف شهيد

تمثّل حرب الاستقلال الجزائريّة (1954-1962) فصلًا داميًا في تاريخ الجزائر نظرًا لدموية المستعمر الفرنسيّ. فقد قدّم الجزائريون خلال ثورتهم ما يقارب المليون ونصف المليون شهيد، قضوا إمّا في قصف عشوائيّ أو إطلاق رصاص أو تعذيب، في عمليّات "مشط" وتصفيات جماعيّة لإخماد الثورة، التي اندلعت لإنهاء استعمار دام مئة وثلاثين عامًا. لقد مثّلت "خسارة الجزائر" ضربة موجعة للفرنسيين، لم يسعهم حيالها سوى بناء جدُر من الصمت لا تزال قائمة حتى اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: تجارب فرنسا النووية.. جرح الجزائر الغائر

في عام 1999، اعترفت الحكومة الفرنسيّة بأنّ الثورة الجزائرية كانت حركة مناهضة للاستعمار، بعد أن كانت تشير إليها على مدار سبعة وثلاثين سنة سبقت هذا الاعتراف بأنها "les événements" (الأحداث) واستخدمت عبارات من قبيل "ضبط الأمن والنظام" لوصف ما قامت به من جرائم لمواجهة عمليّات الثوّار وفظائع التعذيب الجماعيّ، التي نالت من مئات الآلاف من الجزائريين.

فإن كانت هذه المجازر الكبرى لم تلقَ سوى التجاهل والتناسي من قبل فرنسا، فلا عجب أن تنسى تمامًا تلك المجزرة التي وقعت في وسط باريس أثناء الثورة، إلى درجة أنّها باتت شبه ممحيّة من الذاكرة الفرنسيّة.

في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر عام 1962، تجمّع بضعة آلاف من المتظاهرين الجزائريين في بعض الميادين في باريس للتظاهر ضدّ قرار حظر التجوّل الذي أقرّته الحكومة الفرنسيّة بحقّهم. نظّم هذه المظاهرات الجناح الباريسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، فردّت الحكومة بإصدار أوامر للشرطة بقمع هذه المظاهرات، وقاد رئيس شرطة باريس، موريس بابو (الذي حوكم لاحقًا لدوره في عمليات نقل أكثر من 1600 يهودي إلى معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالميّة الثانية) عمليات فضّ المظاهرات التي تسببت بمقتل أكثر من 200 متظاهر.

اعترف هولاند سنة 2012 بمجزرة السين لكن لم تجر أي محاكمة للمتورطين في هذه المجزرة وباقي مجازر الثورة الجزائرية

استخدمت قوات الشرطة الرصاص الحيّ والضرب المميت بالهروات في مراكز الاعتقال، وألقي العديد من الضحايا في نهر السين، وكانت الجثث تشاهد طافية على النهر بعد عدة أيام من المجزرة. وقدّر عدد المعتقلين يومها بأكثر من 11 ألف معتقل، نقلوا بحافلات كبيرة إلى مراكز الاعتقال، حيث تعرضوا للضرب المبرّح وتركوا بلا طعام لأيام عديدة.

اقرأ/ي أيضًا: جزائريو كاليدونيا الجديدة.. حنين من وراء البحار

هذه المجزرة، التي لا يرد ذكرها بطبيعة الحال في الكتب المدرسية الفرنسيّة، صارت جزءًا هي الأخرى من حالة النسيان في الذاكرة الاجتماعية الفرنسيّة تجاه الثورة الجزائريّة بكل تفاصيلها. في اليوم الذي تلا المجزرة، أشارت إحدى الصحف إلى أنّ الجهات الرسميّة قد أعلنت عن موت اثنين من المتظاهرين. وبعد عدّة سنوات حظرت الحكومة الفرنسية نشر كتاب عن المجزرة يشتمل على صور التقطها صحفيون في تلك الليلة.

في العام 2012، أنهى فرانسوا هولاند ذلك الصمت الرسميّ حيال هذه الحادثة وكان أول رئيس فرنسي يعترف بـ"المغرقة"، التي حدثت في نهر السين. ولكن هذا غير كافٍ لتحقيق العدالة للضحايا وأهاليهم. لقد حاكمت فرنسا بعض الشخصيات من حكومة فيشي ممن تورطوا في جرائم حرب ضدّ المدنيين، إلا أنّه لم تجر محاكمة أي شخص على خلفيّة جرائم ارتكبت أثناء الثورة الجزائرية، ولاسيما هذه المذبحة التي وقعت في قلب باريس عام 1961. كل هذا يعني أنّ صكّ غفران شامل قد قدّم عن جميع الجرائم التي ارتكبت في تلك الفترة من التاريخ الفرنسي.

إنّها حصانة لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على فرنسا اليوم. فالثورة الجزائرية لا تنفكّ تؤثّر على العلاقة بين الدولة والفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية، وهي علاقة لا تزال مشوبةً حتّى الآن بالتمييز والتوتّر الاجتماعيّ، كما أنّها أبعد ما تكون عن الاندماج الحقيقيّ والشعور بالمستقبل المشترك.

قد يكون من العسير في فرنسا إنعاش ذاكرة جمعيّة مشتركة بخصوص الثورة الجزائريّة، تؤدّي بعد حين إلى تحقيق العدالة وتحديد المسؤوليّة عن الجرائم المرتكبة، ولكن لا يمكن بحال تجاوز أهمّية تعرية الاستعمار الفرنسيّ ومواجهة أي محاولة لشرعنته. وهنا تكمن أهمّية كسر حالة الصمت عن أحداث كالتي جرت في مذبحة باريس عام 1961، وتجنّب المضيّ في هذه الحالة من التناسي والإنكار.

اقرأ/ي أيضًا: 

عن تجربة المدارس المختلطة بين الجزائر وفرنسا

تعديل الدستور والعجز الدائم في الجزائر