23-نوفمبر-2017

سوريا

ترى ما الذي يدفع فلاديمير بوتين ومسؤولين روس رفيعي المستوى للحديث عن " شعوب سوريا"، في تجاهل واضح لواقع سوريا التاريخي والاجتماعي؟ هل هي محاولة لإحداث صدمة في الوعي السياسي الثقافي للنخبة السورية وللشعب السوري عمومًا؟ هل تحوّل بوتين إلى منظر ثقافي أيديولوجي للسوريين على شاكلة مُنظري حزب البعث؟

النظرة لسوريا من قِبل بوتين والمسؤولين الروس وكذا المسؤوليين الغربيين، هي نظرة استشراقية ظالمة للبلاد وللعالم العربي عمومًا

وبعيدًا عن المصطلح الفتنة، لماذا انساقت قيادة النظام السوري مع هذه الدعوة البوتينية متخلية عن ماضيها البعثي، وبسرعة ملفتة للانتباه؟ إذ قيل إن أحد أكبر المسؤولين الفاعلين حاليًا بدأ بانتقاء الأسماء للمشاركة في المؤتمر الذي تأجل مرارًا، والمزمع عقده الشهر القادم (كانون الأول/ديسمبر 2017) في منتجع سوتشي بروسيا، بعد أن كان مقررًا في مطار حميميم باللاذقية أو في مطار دمشق.

اقرأ/ي أيضًا: انسحاب بوتين.. إعلان تأمين حدود "دولته" في سوريا

سأجيب ابتداءً من السؤال الأخير، لأقول إن القيادي النظامي الذي لا يملك ثقافة سياسية أو وجدانًا وطنيًا، يمكن لأيٍّ كان إقناعه بأي فكرةٍ كانت، ما دام ذلك يضمن بقاءه على الكرسي، فليس من فرق بين القول بعشب عربي واحد أو شعوب سورية، ولا أهمية عند هذا المسؤول ما دام أن في هذا الأمر تغطية لكارثة بقائه مسؤولًا، وانسياقًا مع سوق الأفكار الأيديولوجية السائدة.

أما الجواب على السؤال الأول، المتعلق بنظرة بوتين والمسؤولين الروس بل المسؤولين الغرب عمومًا، إلى سوريا والشرق، فيكشف عن رؤية استشراقية ظالمة لسوريا والعالم العربي والشرقي عمومًا، مفادها أن سوريا مجموعة طوائف وإثنيات متخاصمة، وهي نظرة قديمة، عمرها على الأقل ثلاثة قرون، عمل الغرب على تثبيتها عمليًا، وتحويلها لواقع.

ومن أجل ذلك، افتعل الفرنسيون مثلًا، فتنة طائفية في جبل لبنان عام 1860، لتبرير تدخلهم السياسي في شؤونه وشؤون الدولة العثمانية، وتعاملوا مع الموارنة باعتبارهم أُمّة منفصلة، كما شجع سياسيون بريطانيون مراكز الأبحاث والمستشرقين على نشر أبشع الكتب التراثية الإسلامية التي تدعو لتكفير غير السنة، وقتلهم، كما شجعوا فكرة "أهل الذمة" وذكّوها، وشجعوا كل فكرة تحث على الخصام والقسمة، فدفعوا بالدولة العثمانية لتمييز المسيحيين واليهود الشوام، باللباس، وإعفائهم من العسكرية، ومنحهم صفة رعايا الدول الأوروبية.

تصعيد الهوس الطائفي يُؤدي لمزيد من الخراب على كافة المستويات، وهو ما تُؤكده نماذج سابقة كالعراق ولبنان 

هذه النظرة الاستشراقية عينها، ترى أن سوريا كما البلاد العربية، عبارة عن طوائف وجماعات لا يمكن مصالحتها أو جمعها إلا تحت مظلة دستور روسي يقسم البلاد بينها حصصًا وغنائم، فتنال كل طائقة وإثنية حصتها من مقاعد مجلس الشعب، أو ليصبح مجلس الشعوب حينئذ، ومثلها الوزارات والمناصب الحكومية والوظائف... إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: الضربة الأمريكية.. وخيارات تقسيم سوريا

وهذا بالطبع أسلوب لتصعيد الهوس الطائفي والإثني والقومي، ويؤدي كما في نماذج سابقة، أقربها النموذج العراقي واللبناني؛ إلى مزيد من الخراب المادي والاقتصادي والتخلف الفكري والنفسي والاجتماعي. فلا تنمية ممكنة ولا إصلاح ممكن، وليس سوى الشلل والعجز الكامل في جميع مناحي الحياة الخاضعة أصلًا لتوازنات حساسة؛ طائفية وإثنية وعشائرية وقومية.

في هكذا نظام يقترحه الروس أو الأمريكان أو إيران أو نظام الأسد أو حتى السعودية، لن يقوم عمران، ولا صحة أو تعليم أو إنماء وإنتاج؛ إذ إنه لا يراعي إلى رضى زعماء الطوائف الذين بدورهم سيتحولون لزعماء مافيات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية.

بذلك لن تعرف سوريا الاستقرار أبدًا، لأن الصراعات بين زعماء الطوائف قد تتحول لصراعات عسكرية بين مليشياتهم. تُصبح سوريا إذ ذاك مستحيلة العيش فيها.

هذا ليس تصورًا أو تخيلًا شخصيًا لمستقبل سوريا، وإنما هو واقع قديم لبلد مجاور هو لبنان، وواقع راهن لآخر هو العراق. والمرجح أن يكون المستقبل السوري أسوأ، في حال سار النظام والمعارضة، وراء تنظيم بوتين أو ترامب أو خامنئي أو ابن سلمان؛ لأن التكوين السوري أكثر تعقيدًا من لبنان والعراق.

النظرة الاستشراقية لسوريا من روسيا أو حتى أمريكا، ترمي إلى تقسيمها لطوائف وإثنيات في تكرار لنموذج لبنان

يعيد التاريخ نفسه، وكأننا في فتنة لبنان الفرنسية الأوروبية، أواسط القرن التاسع عشر، التي فصلت لبنان الجبل عن محيطه الشامي، وصنعت كل حربه الأهلية التي انتهت في أربعينيات القرن العشرين بدستور توافق طائفي، لم يمنع هو الآخر حربًا أهلية بعد ثلاثة عقود، انتهت هي أيضًا إلى ما يُعرف باتفاق الطائف الذي أكد على التعايش، ولكن بصيغة طائفية، بعيدًا عن قيم الحداثة، وانتهاكًا للديمقراطية التي يدعيها.

إنه النموذج اللبناني مع بعض التعديلات، هو ذلك الذي تريده روسيا لسوريا. نموذج يضمن للروس وغيرهم مواقع في سوريا، ويجعل السوريين أنفسهم غرباء عن بلدهم، وفقراء معذبين في وطنهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

20 معلومة لا بد من معرفتها عن سوريا

سوريا واستنساخ سيناريو تبعية العراق