14-ديسمبر-2023
روايات إسرائيلية كاذبة عن طوفان الأقصى

تنفذ دولة الاحتلال الإسرائيلية، حملة انقتام عنيفة في قطاع غزة، في أعقاب طوفان الأقصى (Getty)

شكلت عملية "طوفان الأقصى"، لحظة سعى من خلالها الاحتلال الإسرائيلي، وبشكلٍ استباقي، إلى تبرير عدوانه العنيف على قطاع غزة، بناءً على روايات مزعومة، تم تداولها على نطاق واسع في الإعلام الإسرائيلي والغربي، حول حدوث "فظائع" خلال العملية، يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. 

كانت هذه المزاعم الإسرائيلية، طريقًا لحشد الرأي العام العالمي، للتمهيد لعملية الانتقام من قطاع غزة. ومع مرور الأيام، يتكشف زيف المزاعم الإسرائيلية، التي تم ترويجها بناءً على شهادات كاذبة، ودون أي دليل.

وجاء تحقيق صحيفة "ليبراسيون" اليسارية الفرنسية، ليدحض الرواية الإسرائيلية، عبر تناول عدد من الروايات التي روج لها الاحتلال على أنها وقائع حدثت يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ويقوم بتفنيد زيفها، بناءً على البيانات الإسرائيلية. ونقدم في "الترا صوت"، ترجمة محررة، بشكلٍ طفيف، للتحقيق الفرنسي.


كشف تحقيق أجرته صحيفة "ليبيراسيون" اليسارية الفرنسية، أن الادعاءات التي صدرت من دولة الاحتلال الإسرائيلي بشأن حدوث "فظائع" خلال عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كانت كاذبة، والهدف منها هو حشد الرأي العام الإسرائيلي والدولي مسبقًا لعملية الانتقام العنيفة من غزة.

وأجرى التحقيق "قسم الاستقصاء" في الصحيفة الفرنسية، وجاء تحت عنوان "إسرائيل 7 أكتوبر: مذبحة وغموض"، وعمل عليه سيدريك ماثيوت، وفلوريان غوتيير، وجاك بيزيت. وأوضحت الصحيفة الفرنسية أن تحقيقها يأتي في سياق التأكد من الادعاءات الإسرائيلية، حول الأحداث المتعلقة بهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. مشيرةً إلى أن روايات الاحتلال بعيدة عن الحقيقة وتحمل "أهوالًا مزعومة".

يشير التحقيق إلى أنه بعد شهرين من الهجوم، لا تزال هناك الكثير من الشهادات والقصص غير المتماسكة. وكذلك بالنسبة للعديد من الروايات حول "المدنيين" الذين قتلوا، أو ظروف مقتلهم.

ومع ذلك، تؤكد البيانات المتاحة أن بعض "الأهوال الموصوفة في الهجوم لم تحدث"، ويتعلق الأمر بشهادات كاذبة، وبشكل حصري تقريبًا الادعاءات بإساءة معاملة الأطفال، والتي كانت في قلب الحرب الإعلامية التي بدأت قبل شهرين، وتم تداولها لأسابيع من قبل رجال الإنقاذ المتطوعين أو الجنود أو مسؤولي الجيش الإسرائيلي، وأيضًا من مسؤولي الدولة والدبلوماسية الإسرائيلية، التي انتشرت في الصحافة العالمية، وكذلك في تصريحات السياسيين الغربيين.

التحقيق يعمل على تفنيد الرواية الإسرائيلية، من خلال إجراء مراجعة جادة لها، بناءً على بيانات إسرائيلية

وذكرت الصحيفة الفرنسية بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزارة الخارجية، وزوجة الرئيس الإسرائيلي، تبنوا هذه الادعاءات في لقاءات دبلوماسية على أعلى المستويات، من أجل حشد الرأي العام الدولي، معتبرةً أن الحديث عن مجازر لم يكون سوى دعاية للحرب.

مزاعم قتل الأطفال

وفي معرض تفصيلها لحوادث بعينها، ذكرت "ليبيراسيون"، أن الجيش الإسرائيلي سمح في 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، للصحفيين الأجانب بدخول مستوطنة "كفار عزة"، الواقعة على بعد أقل من كيلومتر واحد عن قطاع غزة. تبرز شهادة مراسلة قناة "i24News" الناطقة باللغة الإنجليزية نيكول زيديك، التي قالت إن أحد قادة الجيش في المستوطنة، أخبرها بأن "40 طفلًا على الأقل قتلوا"، وأضاف أن "بعضهم قطعت رؤوسهم"، مدعيًا أنه "لم يشاهد مثل هذه الأعمال الوحشية من قبل".  وتداولت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم على نطاق واسع هذه الشهادة، وكذلك من قبل السلطات الإسرائيلية، لأسابيع طويلة.

ونشر الحساب الرسمي لـ"دولة إسرائيل" على منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، مقطع فيديو لقناة "i24News"، يستحضر "مذبحة كفار عزة"، مرفقًا بعبارة: "قتل 40 طفلًا"، ثم انتشر الفيديو في المواقع الإسرائيلية للتنديد بما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر، كما نشرت المقطع وزارة الخارجية الإسرائيلية. لكن، الصحيفة الفرنسية أشارت إلى أن الشرطة الإسرائيلية أبلغت معهد التأمين الوطني الإسرائيلي، الذي تستخدم إحصاءاته الآن كمرجع، أسماء 789 قتيلًا مدنيًا تم تحديدها (تم استبعاد قوات الأمن في الخدمة)، ولم يتم التعرف على هوية 10 مدنيين من أصل 686، ومن بين 100 اسم غير منشور، تم التعرف على عدد كبير جدًا بفضل "أعمال الجمع المنهجية" التي تقوم بها العديد من وسائل الإعلام، بما في ذلك صحيفة "هآرتس" اليومية، والجمعيات الإسرائيلية، لا سيما على أساس التقارير التي قدمتها عائلات القتلى.  واعتبرت الصحيفة الفرنسية أنه من غير المرجح أن يظل وجود ضحايا أطفال غير معروف، بعد شهرين من الحادث. كما أكدت ذلك المصادر الداخلية للمعاهد الطبية القانونية الإسرائيلية التي استلمت الجثث.

ووفقًا للبيانات التي نشرها معهد التأمين الوطني الإسرائيلي، لا يوجد سوى رضيع واحد بين القتلى في 7 تشرين الأول/أكتوبر، قتل بالرصاص في مستوطنة "بئيري"، وأضافت الصحيفة أنها حصلت على معلومات ترجح وجود رضيع ثانٍ بين القتلى، توفي في منزله المحروق في مستوطنة "نير عوز"، وبخلاف هاتين الحالتين، لم يقتل أي رضيع آخر في 7 تشرين الأول/أكتوبر في كل المستوطنات التي استطاعت الصحيفة الوصول إليها، على عكس ما تم تداوله على نطاق واسع.

وردًا على سؤال من الصحيفة حول مقتل 40 طفلًا قتلوا، قدم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الإجابة التالية: "هناك جندي من الجيش الإسرائيلي شهد ذلك"، ولكن لم يعلق أي مصدر رسمي في الجيش على الموضوع.

ووفقًا للتحقيق، قتل 35 قاصرًا خلال الهجوم، بما في ذلك 7 أطفال دون سن العاشرة، وفي ضوء هذه المعلومات، تبدو قصة مقتل 40 طفلًا كاذبة أو غير دقيقة، وتقول الصحيفة الفرنسية: "يمكن تفسير ذلك ببعض الفوضى التي أعقبت الهجوم، لكن يبدو أن هناك اختراعات خالصة، ولا يربطها أي شيء تقريبًا بالحقائق المثبتة".

الجيش الإسرائيلي على حدود غزة

كفار عزة.. مركز الروايات الكاذبة

ترتكز معظم التصريحات الكاذبة حول قتل الأطفال الرضع أو الأطفال الصغار في مستوطنة "كفار عزة"، وهي واحدة من أكثر المستوطنات تضررًا، حيث قتل أكثر من 50 شخصًا، وهناك ولدت كذبة قتل 40 طفلًا، في حين لم يتم إدراج أي أطفال صغار بين الضحايا. وكانت بعض هذه القصص المتداولة تأتي من مصادر عسكرية إسرائيلية.

في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، غطت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" زيارة وفد من البرلمانيين الفرنسيين إلى مستوطنة "كفار عزة"، ووفقًا للصحيفة الإسرائيلية فإن قائد وحدة الإنقاذ الوطنية التابعة للجيش الإسرائيلي العقيد جولان فاخ، الذي رافق الوفد، قال إنه نقل بنفسه "جثث الأطفال الذين قطعت رؤوسهم، وهذا يتناقض مع بيانات المعاهد الطبية والقانونية الإسرائيلية".

وقبل ذلك بأربعة أيام، تحدث اللفتنانت كولونيل المتقاعد يارون بوسكيلا، لصحيفة "إيبوك تايمز" الإسرائيلية، وزعم أنه التقى بحاخام ذهب إلى مستوطنة " كفار عزة"، وأخبر الصحيفة بأنه نادم على مقابلة الحاخام، قائلًا "كانت أوصافه للأشياء التي رآها صادمة للغاية، لدرجة أنني تقيأت للتو"، وفقًا لبوسكيلا، فقد رأى الحاخام "أطفالًا شنقوا على حبل الغسيل بحمالات صدر أمهاتهم".

تشير الصحيفة الفرنسية، إلى أن يارون بوسكيلا عضو في منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي "IDSF"، وهي منظمة أسسها جنرالات الجيش المتقاعدين، والتي تضغط خاصة على الصعيد الدولي للدفاع عن فكرة أن "السلام الإسرائيلي لا يمكن تحقيقه إلا بالقوة". والغرض الرسمي من هذا المنتدى هو "تشكيل والتأثير بالرواية المتعلقة باحتياجات الأمن القومي لإسرائيل"، ونجد أن المتحدث باسم المنتدى المقدم جوناثان كونريكوس، هو أحد الناطقين الرئيسيين باسم الجيش الإسرائيلي في الحرب الحالية، وتحديدًا في وسائل الإعلام الإنجليزية.

ولفتت "ليبيراسيون"، النظر إلى أنه في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، أجرى يارون بوسكيلا مقابلة جديدة مع الصحفي يشاي كوهين، من موقع "كيكار هشبات" العبري، وأخبره في نفس القصة، مع اختلاف، واحد هو حديثه عن مشاهدته بـ"عينيه، الأطفال الذين شنقوا على حبل الغسيل"، وسرعان ما تم إخطار الصحفي يشاي كوهين على الشبكات التواصل الاجتماعي بتناقضات الشهادة، بسبب عدم وجود أطفال قتلى في "كفار عزة"، فقام كوهين بحذف المقابلة، دون الإشارة إلى أن المقابلة عرضت ما ورد فيها على المتحدث باسم جيش الإسرائيلي. وردًا على سؤال يتعلق بهذا التناقض في روايات بوسكيلا، قال الجيش الإسرائيلي إنه "يرى بوضوح أنه لا ينبغي معالجة المواقف ذات التفاصيل الغامضة وغير الرسمية علنًا"،  لكنه لم يرد على سؤال بخصوص تأكيد الصحفي يشاي كوهين بأن الشهادة عرضت عليه.

قصص غير  متماسكة

لم يتوقف الأمر عند أشخاص، بل تحدث التحقيق عن أن هناك قصص أخرى غير متسقة أو لم يتم التحقق منها، كانت خلفها من وكالات الإغاثة الإسرائيلية، وخاصة وكالة "زكا"، وهي منظمة خيرية معترف بها من قبل الحكومة الإسرائيلية، والتي يديرها بشكل رئيسي اليهود الأرثوذكس (متشددون دينيًا)، وتعمل على جمع الجثث أو رفات الجثث، من أجل السماح بإجراء الدفن وفقًا للدين اليهودي.

 في الأيام والأسابيع التي تلت عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ظهر رجل في وسائل الإعلام يرتدي سترة الإنقاذ الصفراء، ويدعى يوسي لانداو، هو مسؤول وكالة "زكا" في المنطقة الجنوبية. وتحدث في مقابلات متعددة، عن "ارتكاب العديد من الفظائع"، دون السؤال حول صحة تلك الشهادات. ورسمت العديد من وسائل الإعلام صورته، بما في ذلك في وسائل الإعلام الفرنسية، لكن بعض عناصر قصصه ظهرت فيما بعد مشوهة، إن لم تكن مخترعة.

وفي عدة مناسبات، تحدث لانداو عن أنه اكتشف جثث 20 طفلًا محروقةً في مستوطنة "بئيري"، وقال: "رأيت 20 طفلًا معًا، وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم، وتم إطلاق النار عليهم، وحرقهم"، ونقلت قناة "i24New" شهادته، وقد تناول عدد كبير جدًا من وسائل الإعلام هذه الشهادة. وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر، تم تصوير بنيامين نتنياهو وهو يجري محادثة هاتفية مع جو بايدن، ويخبره: "أخذوا العشرات من الأطفال، وقيدوهم، وأحرقوهم وأعدموهم". 

وتقول الصحيفة الفرنسية، إن هذه القصة، مرة أخرى، تتناقض مع ما نعرفه اليوم. قتل عشرة مراهقين في مستوطنة "بئيري"، ولم يتم تجميعهم معًا. بل في غالبية الحوادث قتلوا في منازلهم، وفي كثير من الأحيان مع والديهم.

وفي مقال تفصيلي نشر أوائل هذا الشهر في صحيفة "هآرتس"، يشير إلى أن قصة يوسي لانداو قد تكون مستوحاة من مشهد موثق حدث في "بيري"، ولكن لا علاقة له بما يقوله لانداو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي. إذ تم جمع 15 محتجزًا، 13بالغًا ومراهقان، لساعات طويلة، في أحد منازل المستوطنة، من قبل العشرات من مقاتلي حماس، قتل الجميع بما فيهم جميع المحتجزين تقريبًا. نجا اثنان فقط، خلال المواجهة العنيفة بين عناصر حماس وأفراد من الجيش الإسرائيلي، وأفادت شهادات الناجين، أن دبابة إسرائيلية أطلقت قذيفة تجاه المنزل، وتم تدميره بالكامل تقريبًا. وهذه واحدة من الحالات التي يحتمل أن يكون فيها "المدنيون" ضحايا إطلاق النار الإسرائيلي.

كما أخبر يوسي لانداو العديد من وسائل الإعلام الدولية، أنه اكتشف جثة امرأة حامل، أطلق عليها النار في الرأس، وتم بقر بطنها لإخراج الجنين، الذي يزعم أنه طعن. وقال لصحيفة "بيلد" الألمانية في 24 تشرين الأول/أكتوبر: "كان علينا أن نتداول بشأن ما إذا كنا سنأخذ كيسًا أو كيسين لجثة امرأة حامل مقتولة وطفلها الذي لم يولد بعد". 

وكرر روايته لـ"هآرتس" عن المرأة الحامل التي قال لانداو، إنه عثر عليها ميتة بالقرب من المنزل 426، المكون من شقتين، ويقع في حي يعيش فيه كبار السن بشكل رئيسي. لكن شهادات الناجين من المبنى الذين قابلتهم الصحيفة الإسرائيلية، تشير إلى أنه لم تكن هناك أي نساء حوامل. كما أكد رئيس الكيبوتس لـ"هآرتس" أن "قصة المرأة الحامل التي أبلغت عنها "زاكا" لا علاقة لها ببئيري". من جهته، أوضح المتحدث باسم "زكا" أنه "بسبب الحالة الصعبة للجثث، تمكن المتطوعون من إساءة تفسير ما شاهدوه".

ومع ذلك، قدمت السلطات الإسرائيلية هذه الشهادة، ونُشرت على حساب السفارة الإسرائيلية في الولايات المتحدة على منصة "إكس" و"انستغرام". وفي مقال رأي نشر في مجلة "نيوزويك" الأمريكية، بعنوان "صمت الهيئات الدولية في مواجهة الاغتصاب الهائل الذي ارتكبته حماس هو خيانة لجميع النساء"، كما أشارت المحامية وزوجة الرئيس الإسرائيلي، ميخال هرتسوغ، أيضًا إلى هذا الفعل، قائلةً: "يظهر مقطع فيديو لأفراد من حماس في الكيبوتس يعذبون امرأة حامل ويخرجون جنينها"، لكن فريق التحقيق في الصحيفة الفرنسية تمكن من مراجعة مقاطع الفيديو، وأثبتت "رابطة مكافحة التشهير"، وهي منظمة غير حكومية مرجعية في الولايات المتحدة في مكافحة معاداة السامية، أن الصور مأخوذة بالفعل من مقطع فيديو تمت مشاركته في عام 2018، والذي يظهر الإساءة التي ارتكبتها عصابات الجريمة في المكسيك.

 وبناءً على طلب فريق التحقيق، تداركت الرئاسة الإسرائيلية، وقالت: إن "الفيديو الذي تم إرفاقه مع المقال قد لا يكون مرتبطًا بالحدث". ومع ذلك، تحدثت زوجة الرئيس الإسرائيلي أيضًا إلى العاملين في المجال الإنساني في مكان الحادث، وكذلك إلى المتخصصين في الطب الشرعي الذين جمعوا أدلة تثبت هذا الادعاء. لكنّ فريق التحقيق طلب أن يكونوا على اتصال بهذه المصادر، فأبلغتهم الرئاسة الإسرائيلية أن وكالة "زاكا" أخبرتهم أن الشاهد "لم يكن قادرًا على الرد علينا بسبب الصدمة التي تعرض لها"، كما أن الطبيب الشرعي لم يكن متاحًا. ولكن وفقًا لمصدر داخل خدمات الطب الشرعي المشاركة في تحديد هوية قتلى هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، اتصل به فريق التحقيق، لم يكن من الممكن التأكيد عن وجود ضحية ينطبق عليها هذا الوصف.

ولم يتوقف يوسي لانداو، عند هذا الادعاء، بل واصل سرد حادثة أخرى، زعم فيها اكتشافه جثث عائلة في "بئيري"، بما في ذلك طفلان يبلغان من العمر 6 و11 عامًا، وفي مقابلة أخرى يبلغان 6 و7 أعوام، تعرضا للتعذيب، وبعدها أكل عناصر حماس "بقايا وجبة السبت". وتختلف الروايات التي قدمها لانداو لوسائل الإعلام، فمرة يتحدث عن "الأطفال الأحياء المحروقين" أمام أسرهم، ولكن في معظم الأحيان، ذكر بالتفصيل عمليات التشويه التي لحقت بكل فرد من أفراد العائلة. وخلال كلمة أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في 31 تشرين الأول/أكتوبر تحدث أنتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة: عن "صبي وفتاة صغيران، يبلغان من العمر 6 و8 أعوام، ووالديهما حول طاولة الإفطار، حيث تم اقتلاع عين الأب أمام أطفاله. وتم قطع ثدي الأم، وبتر قدم الفتاة، وقطعت أصابع الصبي قبل إعدامها. ثم جلس جلادوهم وتناولوا وجبة الغداء".

لكن وفقًا للتقييمات المتاحة لم يقتل أي طفل يتراوح عمره بين 6 و11 عامًا في بئيري، والأسرة الوحيدة التي شهدت مقتل طفلين من جنس مختلف في بيري هي عائلة "هيتزروني" التي لا تتوافق ظروف مقتلهما، مع الوقائع المذكورة في قصة لانداو.

و تتساءل الصحيفة الفرنسية أنه من المستحيل معرفة ما إذا كانت العناصر التي أبلغ عنها لانداو هي تشويه للحقائق التي حدثت أو هي قصص مخترعة. وردًا على هذا سؤال، لم يستجب يوسي لانداو لطلب الصحيفة للتعليق. وفي حديثه لصحيفة "هآرتس، أوضح المتحدث باسم "زاكا" أن "المتطوعين ليسوا خبراء في علم الأمراض، وليس لديهم الأدوات المهنية للتعرف على الشخص المقتول وعمره، أو تحديد كيفية قتله، بخلاف شهادة شهود العيان".

مستوطنات غلاف غزة

الحصول على دعم ثابت من الإدارة الأمريكية

يشير التحقيق إلى أن العديد من القصص المشكوك فيها أو غير ثابتة، مصدرها المنظمات غير حكومية، من بينها منظمة "United Hatzalah"، التي تجمع رجال الإنقاذ وأطباء الطوارئ والمسعفين المتطوعين للتدخل في مواقع الكوارث في إسرائيل، وزار رئيسها إيلي بير، الولايات المتحدة في نهاية تشرين الأول/أكتوبر، بنية مزعومة للحصول على دعم القادة الأمريكيين .وقبل مغادرته، قال بير، الذي تحدث مع جو بايدن خلال زيارة الأخير إلى إسرائيل، لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية: "نحن نشهد الآن محاولات آلة الدعاية لحماس لإنكار هذه المذابح وتقليلها إلى أدنى حد من أجل تحسين وضعها الدولي خلال الحرب"، وأضاف: "من واجبنا، كشهود على هذه الأعمال الهمجية، الحصول على دعم لا يتزعزع من صناع القرار الأمريكيين لإسرائيل". مشيرًا إلى أنه أخبر الرئيس الأمريكي بعضًا من هذه القصص، والآن سيخبر أعضاء القيادة الجمهورية.

وفي 28 تشرين الأول/أكتوبر، اجتمع بير في لاس فيغاس، مع الائتلاف اليهودي الجمهوري. وذكر "الفظائع" التي يزعم أنه شهدها، ولكن لم يتم تأكيد أي منها. ويبدأ هذا الشخص المسؤول بهذه الشهادة التي هي كاذبة، قائلًا: "رأيت بأم عيني امرأة حامل في شهرها الرابع، كانت في كيبوتس صغير. دخلوا منزلها، وأمام أطفالها فتحوا بطنها، وأخرجوا الطفل، وطعنوا الأطفال الصغار أمامها، ثم أطلقوا النار عليها أمام عائلتها. ثم قتلوا بقية الأطفال"، ويتابع: "رأيت أطفالًا صغارًا يتم قطع رؤوسهم، ولم نكن نعرف أي رأس لأي طفل.. رأينا طفلًا صغيرًا في الفرن. وضع الأوغاد، هؤلاء الأطفال في فرن وأشعلوه.  لقد وجدنا الطفل بعد بضع ساعات".

وعاد فريق التحقيق، في نهاية تشرين الأول/أكتوبر، إلى هذا الادعاء بأن طفلًا قتل في فرن. ولم يتم تأكيد ذلك أبدًا، ونفى العديد من الصحفيين الإسرائيليين ذلك. ولا يتوافق سياق وفاة الطفلين اللذين يظهران في السجل الرسمي للضحايا بأي شكل من الأشكال مع ما يصفه إيلي بير.

ومع ذلك، وبعد أكثر من شهر، يستمر هذا الادعاء في الانتشار. ففي يوم الإثنين 4 كانون الأول/ديسمبر، دعا السيناتور الجمهوري من لويزيانا، جون كينيدي، الرئيس جو بايدن إلى "الحفاظ على الدعم الأمريكي لإسرائيل"، قائلًا: "لا تحتاج إلى قراءة معاهدة بشأن الشرق الأوسط لمعرفة أن الوحوش ذات القلوب السوداء ستضع طفلًا في فرن وتشغله، كما ذكر أحد رجال الإنقاذ، شر خالص".

يشير فريق التحقيق أنه بعد تبادل قصير للآراء في 6 كانون الأول/ديسمبر، لم تجيب "United Hatzalah" في نهاية المطاف على أسئلتنا حول مزاعمها.

وفي الوقت الذي كان فيه إيلي بير يدلي بشهادته أمام المسؤولين الجمهوريين الأمريكيين، كانت مسؤولة أخرى في المنظمة وتدعى لينور أتياس، تجري مقابلة مع قناة "سي إن إن" الأمريكية، ووصفت المسؤولة "مشهد الرعب" الذي قالت إنها حضرته في بئيري، إذ "كانت هناك فتاة صغيرة، تبلغ من العمر 8 أو 9 سنوات، قطعوا يدها، وكانت لا تزال تتنفس، وكانت تلك أنفاسها الأخيرة. لقد فقدت الكثير من الدماء لساعات".

لفت فريق التحقيق إلى أنه شاهد عدة مقابلات مع لينور أتياس في الفترة الممتدة ما بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و1 تشرين الثاني/نوفمبر. ولم تشر في أي وقت من الأوقات، في الروايات التفصيلية التي قدمتها عن تدخلها في الكيبوتس، إلى هذا التسلسل. وردًا على سؤال صحفي قناة "سي إن إن" عن الأسباب التي دفعتها للإدلاء بشهادتها في وقت متأخر حول هذا الموضوع، قالت لينور أتياس: "بعد ثلاثة أسابيع، أدركت أهمية الحديث عن هذا الأمر"، ولا توجد شهادة أخرى، على حد علم فريق التحقيق تؤكد كلامها.

ووفقًا للتقارير المتوفرة اليوم، لم يقتل أي طفل يبلغ من العمر 8 أو 9 سنوات في "بئيري"، وفي مكان آخر، قُتلت ثلاث طفلات تتراوح أعمارهن بين 8 و12 عامًا، لكن ظروف مقتلهم المعروفة لا تتفق مع رواية لينور أتياس.

وأشار فريق التحقيق، إلى أنه غير قادر على معرفة ما إذا كان هذا تشويهًا للحقائق أم اختراعًا، إذ نقلت عدة صحف هذه الشهادة، وشاركها المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي على شبكات التواصل الاجتماعي، مع تعليق يقول: "لن يكون هناك وقف لإطلاق النار مع الشر".

ولم ترد " United Hatzalah" على أسئلة فريق التحقيق بخصوص هذه الادعاءات.

قصة أخرى، لم يتم التحقق منها، تتعلق بالمحتجزين، وحقيقة أن حماس احتجزت امرأة حامل على وشك الولادة كرهينة وأنجبت في الأسر، وفي 15 تشرين الثاني/نوفمبر، كتبت سارة نتنياهو، زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى العديد من "السيدات الأوائل"، بما في ذلك زوجة رئيس الولايات المتحدة جيل بايدن، رسالة  تقول فيها دون أي احتياط: "كانت إحدى المختطفات حاملًا. وأنجبت طفلها عندما كانت أسيرة لدى حماس. يمكنكم أن تتخيلوا، مثلي، ما تمر به هذه المرأة نفسيًا منذ أن تم احتجازها مع طفلها على أيدي هؤلاء القتلة".

يكشف التحقيق، عن زيف الروايات المتعلقة بالتمثيل في جثث الأطفال، خلال عملية "طوفان الأقصى"

 وتم تناقل هذه الرسالة على نطاق واسع من قبل العديد من وسائل الإعلام، في إسرائيل، وأيضًا في فرنسا بعد مقال من وكالة "فرانس برس".

وفي 18 تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد ثلاثة أيام من نشر الرسالة، نشرت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية مقالًا يزعم أن امرأة تايلاندية، كانت محتجزة لدى "حماس"، أنجبت في الأسر، لكن هذه المعلومات نفتها عائلة المحتجزة المعنية التي تم إطلاق سراحها في الأيام التالية.

وتحدث فريق تحقيق "ليبيراسيون" إلى العديد من المصادر الإسرائيلية للحصول على التفاصيل. لكن لم يحصل على أي رد، ولم يحدد الفريق أي عنصر يؤكد هذه الرواية، وعلى العكس من ذلك، لم تكن أي من النساء المفرج عنهن حاملًا أو أنجبت للتو.

وتوصّل فريق التحقيق إلى أن هذه الحملة، التي أطلقت في آذان القادة السياسيين، وتم الترويج لها على شبكات التواصل الاجتماعي وفي أوساط الصحفيين، تهدف إلى حشد، ثم تعزيز، دعم الرأي العام الإسرائيلي والدولي للأعمال الانتقامية العنيفة في غزة.