24-نوفمبر-2023
قبر جماعي في قطاع عزة بجثامين مجهولة الهوية

قبر جماعي في غزّة لشهداء هويتهم مجهولة (Getty)

في فيلم المتبقّي، المقتبس عن رواية غسان كنفاني، حكاية رضيع فلسطيني يفقده والداه تحت القصف؛ يستولي عليه زوجان يهوديان يعانيان استحالة الإنجاب؛ فيتبنَّيانه ويغيِّران اسمه ومحيطه بعد اغتصابه من عائلته الفعلية التي تستشهد وهي تحاول استعادته.

في الفيلم، بطبيعة الحال، قصة رمزية عن اغتصاب فلسطين ومحاولة تغيير هويتها بدءًا بتغيير اسمها ومحيطها، والادعاء بأنها أرض بلا شعب عينيٍّ ذي هوية؛ أو بلا "انتماء" قد يطالب بها. ولو أحلنا على الفكرة الصهيونية المركزية التي اشتهرت عن ثيودور هرتزل عن "وجود" أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، في القرن التاسع عشر، للَحظنا "نزغ" التعريف "العيني" عن الفلسطينيين؛ وإسناد التعريف "بحكم ما سيكون" لليهود الذين جرى تجميعهم على أرض فلسطين "التاريخية" فيما بعد.

الوجود السوسيولوجي والتركيبة الديمغرافية كلاهما مستهدَفان بلا هوادة منذ أسابيع، وهما يشكلان لب حديث المقاومة والتكلفة الفلسطينية اللصيقة بها

وتعكس الخلفية الكونترابوينتل للقصة، إذا ما استعرنا تعبير إدوارد سعيد بتصرّف، التجسُّد العيني لنوع من "القضايا" التي لا يمكن نفي السمة الهوياتية عنها بحيث يكون الانتماء إلى الأرض الرّكنَ الجُوَّاني في معادلة الهوية بما يستتبعه ذلك من تكلفة الموت في سبيلها بالنسبة إلى الفلسطينيين؛ في مقابل محاولات حثيثة للاستملاك والتملُّك البرَّاني بدءًا بشراء الأراضي عبر سلطات الانتداب البريطاني، ووصولًا إلى الاستيلاء على البيوت والمرافق وفعل الإبادة، وليس انتهاءً بمنطق الاستبدال السكاني الذي يقوم عليه الفكر الصهيوني منذ نشأته.

في القلب من هذا الركن الجواني، إذًا، تكمن سمة مهمة وفاصلة و"بطولية" في معادلة صراع الهوية هي التكلفة المقابلة لمنطق الاستبدال. لكنَّ مفردة التكلفة، بمعناها الاختزالي الذي نعرف، تسبغ على الموت والتدمير في الصراعات سمة مادية فجة وجافة؛ لا تُحسب إلا بمنطق "الخسائر" المعبَّر عنها بنطاق التدمير وبعدد الوفيات أو؛ "الضحايا".

ربما نفتقد الى دراسات معمقة عن الكامن في مفهوم التكلفة البشرية زمن الحروب؛ فهي في مفردات السياسة تُدعى الآثار الجانبية للقتال؛ وفي لغة القانون الدولي الإنساني، "الضحايا المدنيون" في الصراعات المسلحة هم قتلى الحروب، ونادرًا ما يُشار إلى تعرُّضهم المباشر إلى القتل المتعمد بوصفهم أهدافًا "معرَّفة" بدقة، تكتيكًا كان الأمر أم استراتيجيا.

وإذا استثنينا ما أنتجه الغرب منذ أطلق الصليب الأحمر الدولي، دعوات انتهت إلى وضع حدود لـ "سلوك الجنود" في النزاعات، ثم المعاهدات التي استحثتها جهوده وأفضت إلى "تقنين القتل إنسانيًا" خلال الحروب؛ فلن نعثر سوى على الحجج التي تخلع عن مدنيي الحروب القائمة على العداء الممتد صفة الإنسانية وتمنع عنهم الهوية تمهيدًا لتدميرهم.

وإذا كان لنا ألَّا نغفل الملحوظة التي ترى في الصليب، وقتها، دلالة على مكون يمنح الأولوية للإنسان "المعرَّف" على الليفياثان "المجهول" في ذلك التاريخ المبكر من القرن التاسع عشر؛ فإنه يكاد يكون من المقطوع به أنها رؤية لم تنفصل عن تقاليدَ غربية اعتادت أن تكون الجوانب الإنسانية والرعائية في الحياة الدنيوية من مهمات الكنيسة؛ فيما يُعترف ضمنًا بأن القتل والقتال والحروب هي من مهمات الليفياثان وجيشه. لذلك فهي أيضًا رؤية لا تنفصل عن الواقع المادي؛ المدنيون فيه محض كائنات بلا هوية؛ مجردة، وهمية، سلبية ومفعول بها، مستباحةٌ قتلًا وقتالًا في صورة تكلفة جانبية.

بيد أن مثال الفلسطينيين في معركة غزة، في هذا المقام، يكشف عن التجسّد العيني لما يعنيه مفهوم التكلفة في الصراعات، وذلك من ناحيتين. أولاهما أن ثمة إصرارًا لا تخطئه العين بين الغزيِّين على الصمود؛ يجسده فعل البقاء وسط "سجن" كبير آلت إليه غزة منذ عشرين عامًا؛ في محيط عدائي واجتثاثي لا همّ له سوى الفناء والإفناء لمجموعة بشرية برمتها. ثمة جيل وُلد في غزة إبَّان هذين العقدين وبعضهم شباب اليوم، لا يعرف من العالم، خلف خطاب الثورة الاتصالية التي صيّرت العالم قرية صغيرة، سوى مدركات الحصار والسجن والمنع من السفر إلا في حدود، وثقافة المعابر والأنفاق، والرقابة التي يفرضها وجود الاحتلال ذاته خارج حدود القطاع. وهو للصدفة جيل عاصر الانتفاضة الثانية بداية القرن، وتلا جيل الانتفاضة الأولى أواخر الثمانينيات؛ بحيث يجتمع الجيلان اليوم على أرض غزة في مكوّن مجتمعي لافت، فريد وقادح.

من هذا الجيل الذي توارث الوجود على أرض غزة، سيهالُك، على سبيل المثال، مشهد شباب عشريني فلسطيني، تحلَّقوا حول صحن يتناولون فيه زيت زيتون وزعترًا فيما القصف من حولهم معتمل على بعد أمتار؛ أو من كانوا ينطقون بالحمد، رجالًا ونساء، ويشعرون بالفخر لأنهم قدّموا للأرض شهيدًا من عائلاتهم. وهذا موت لا يُقاس بحجم الأجسام المحترقة والأطراف المقطوعة والأشلاء المتقطعة تحت الأنقاض والخسائر المادية المصاحبة. بل مقياسه مختلف لا يعرف كنهه اليوم سوى فلسطينيي غزة.

ثانيتهما "التكلفة" التي نقول إن الفلسطينيين يرفعونها في وجه العالم اليوم- نعزف عمدًا عن القول إنهم يتكبدونها أو يدفعونها- فهذه مفردات تحسب التكلفة من منظار مادي اقتصادوي. لا أتصور أن الفلسطينيين فاعل سلبيّ في "معركة" غزة؛ بل هم فاعل حقيقي عارف بأنه مستهدَف، مدرك معنى الأرواح التي تسقط كل يوم منذ السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر، وهم في صمود[هم] ربما يدفعون بروحانية خفية في معادلات الصراع لا تعترف بالمكونات المادية للوجود [وحدها]؛ وإن كان يعتريهم السأم من خطاب الصمود أحيانًا بحكم "بشريتهم" ووحشية العدو الذي يستهدفهم؛ وهم واعون ومدركون أن الموت والتدمير هناك لا ينفصل عن "حجيّة" الانتماء إلى الأرض وتكلفته.

ما يعني أن لفظة المقاومة، ولفظةُ التكلفة هنا بها لصيقة، هي الصمود الضمني لمجموعة بشرية كاملة في وجه محاولات المحو والاجتثاث التي تفرضها الكولونيالية الاستيطانية؛ بل حتى وإن غادر بعضهم مساكنهم تحت القصف والقسر والقنص. الدليل؟ العودة السريعة لكلمة فلسطين نفسها رغم عقود طويلة من التعتيم والتضليل ومحاولات المحو والطمس؛ ومعه الانتشارُ الواسع والوقعُ الكثيف الذي أحدثته على وسائل التواصل الاجتماعي ومكونات المجتمع المدني العالمي، الصورُ "المجتمعية" و"القتالية" القادمة من غزة، والتي استطاعت انتزاع الاعتراف الاجتماعي بها رُغم فجاجة وبجاحة الخطاب السياسي مستترِه وصريحِه. ذلك أن سلطة الفعل الإنجازي للكلام تعتمد على مدى الاعتراف بها اجتماعيًا مثلما يقول أوستن.

هذا النمط من المقاومة لن تكفي للإحاطة بكنهه مقولاتُ التنشئة الاجتماعية والتنميط الإيديولوجي، ولا حتى القسر مثلما يروّج لذلك المروّجون في الطرف الآخر من الطيف. ما يمكن أن يحيط به حقًا شيئان. أولهما أن غزة برمتها غدت اليوم جيبًا ثوريًا اكتشفه العالم فجأة؛ فقد أضحت ببرّها وجوّها، وبأهلها، ومعظمهم نازحون، بؤرة الصراع الفلسطيني "المتبقِّي" لا محليًا فحسب، بل وعالميًا أيضًا؛ بعد أن استُنفذت كل الرساميل الثورية بدءًا من نهاية سبعينيات القرن العشرين؛ وبعد أن استمالت دواليب الدولة في كل مكان، كل المعارضين؛ وبعد أن اعتُقد أن الكولونيالية الاستيطانية امتصت ما تبقّى من الأصلانيين الهوياتيين المتشبثين بالأرض؛ وبعد أن شيَّأت وميَّعت الليبرالية والعولمة كل شيء؛ حتى الانتماء بما هو صنو الامتلاء الذي أسهب فيه تشارلز تايلور.

ثانيهما هو فعل الاحتلال نفسه والقصف "غير العشوائي" الذي ينفذه منذ أسابيع. لا بد من الالتفات إلى منطق التكلفة البشرية التي نراها اليوم في غزة من خلال وقعها بعيد المدى؛ إذ لا يتحرك العدو الصهيوني، منذ "عرفناه"، إلا بناء على هذا البُعد في المدى. فالعائلات التي استهدفها القصف حتى الآن، وإن رافقها "قتلى جانبيون" آخرون، تؤكد أن "الضحايا" ليسوا محض كائنات مجردة بلا هوية؛ بل عائلات "جيلية" ممتدة من النمط السوسيولوجي، ويمكننا أن نقول إنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، وهي ثالثًا طبقة منتجة اجتماعيًا بمعنى أنها تشكل الكادر الفلسطيني الفعلي، ثم هي رابعًا عائلات متدينة تدفع بالخطاب الذي تكرهه إسرائيل في معادلة الصراع؛ وهو خطاب الانتماء الهوياتي الأوسع إلى الأرض؛ الذي يعيد دمج مكونات أخرى في الصراع، كامنة، وغير سياسية ابتداءً.

ولا بد من النظر بعمق أيضًا، في منطق التعمية اليوم على الأهداف الصهيونية الكامنة خلف هذا الإصرار  المحموم على استمرار القصف الهمجي غير العشوائي الذي يتقصّد تدمير المستشفيات، واحتلالها للحؤول دون علاج من يمكن علاجه، وضرب البنى التحتية، ومؤسسات التعليم بمستوياتها؛ وكل ذلك إنما يستهدف شيئين؛ أولهما محو المنجزات "الغزّية" التي تجسد الوجود السوسيولوجي "المستقل" للفلسطينيين؛ وثانيهما ضرب التركيبة الديمغرافية التي ظلت حتى اليوم مَعين الصراع؛ لا سيما في غزة.

الوجود السوسيولوجي والتركيبة الديمغرافية كلاهما مستهدَفان بلا هوادة منذ أسابيع، وهما يشكلان لب حديث المقاومة والتكلفة الفلسطينية اللصيقة بها.

مثال الفلسطينيين في معركة غزة، في هذا المقام، يكشف عن التجسّد العيني لما يعنيه مفهوم التكلفة في الصراعات

وأن يشمل حديث التكلفة الفلسطينية هذَين العنصرين يعني الحذر لِألّا يستبطن خطاب الاستجداء بالقانون الدولي أو الحماية الدولية للمدنيين دعوةً إلى "أنسنة" الفلسطينيين حتى تنطبق عليهم مقولاتهما. فكل هذا الالتئام "السياساتي" الدولي وإخفاق كل المحاولات "المدنية" لاستجداء المقولات الإنسانية وتطبيقها في الحالة الفلسطينية؛ إنما هو نتاجُ جهد حثيث بذله الفكر الصهيوني والفعل المصاحب له، لنزع الإنسانية عن الفلسطينيين، ومحوهم، وتصييرهم كائنات مجردة بلا هوية ولا أرض، ليطمس هذا الانتماء الهوياتيّ المقاوِم في الصراع، وينزعه عن سياقه، وينتزعه من التاريخ.

وإنما الدعوة اليوم هي إلى الخروج من ثوب الضحية، والبناء على ما تحقق على الأرض، محليًا وعالميًا، وتحويله إلى معيار؛ المعيار بأن تتكاتف مطالب الانتماء الهوياتي، تكاتُفَ الكولونياليات الاستيطانية القائمة على منطق المحو والإزالة.