05-نوفمبر-2023
الدمار في غزة

الإبادة التصاعدية هو المصطلح الأنسب لوصف حروب الاحتلال على غزة (Getty/ الترا صوت)

يقوم جزء كبير من الدعاية الإسرائيلية التي تبنّاها الغرب، وروّجتها مؤسساته الإعلامية والأكاديمية والثقافية على نحوٍ واسع لتبرير جرائم "إسرائيل" في غزة، ونزع الشرعية عن معاناة الفلسطينيين؛ على أمرين هما: اعتبار "حماس" تنظيمًا إرهابيًا، والادعاء بأن الحرب على غزة "دفاعًا عن النفس" في مواجهة التنظيم السابق، ما يجعل من موت الفلسطينيين في هذا السياق مجرد أضرار جانبية لا بد منها.

في كتابه "عشر خرافات عن إسرائيل" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018/ ترجمة سارة عبد الحليم)، يرى المؤرخ الأكاديمي إيلان بابيه أن وصم "حماس" بأنها تنظيم إرهابي، واعتبار قصف قطاع غزة دفاعًا عن النفس، مجرد خرافات تضلل "إسرائيل" عبرها الرأي العام بشأن عنفها المستمر في القطاع، إلى جانب خرافة ثالثة تتعلق بالانسحاب أحادي الجانب منه في عام 2005. ولذلك، فإن هذه الخرافات مدخل لا بد منه لفهم السياسات الإسرائيلية تجاه غزة.

"حركة تحرير" لا تنظيمًا إرهابيًا

يرى إيلان بابيه أن حماس "حركة تحرير" مشروعة. وهذا ليس مجرد موقف وإنما نتيجة نظرة سريعة على تاريخ الحركة التي يُحدد السياق الذي نشأت فيه هويتها ويمنحها تعريفًا دقيقًا وواضحًا لا يحتاج إلى تفسير إن أُخذ بعين الاعتبار. فحماس، وفق قراءة بابيه، ردة فعل على سياسات "إسرائيل" الاستيطانية من جهة، والمسارات "المشوّهة" التي قدّمتها القوى الفلسطينية الاشتراكية والعلمانية في الماضي من جهةٍ أخرى.

يرى بابيه أن ما يقوم به جيش الاحتلال في قطاع غزة، منذ عام 2006، ليس حرب دفاع عن النفس، أو ضد الإرهاب، وإنما "إبادة تصاعدية"

ولذلك، كان من الطبيعي أن تتمدّد الحركة وتتوسع وتزداد شعبيتها بين الفلسطينيين الذين وجدوا فيها ما كانوا يبحثون عنه بعد "تبخّر" وعود اتفاقية أوسلو، وفشل السلطة التي تمخضت عنها في رفع المعاناة عن الفلسطينيين، وازدياد جرائم "إسرائيل" ما يعني أن ازدياد شعبية "حماس" مردّه، أولًا، إلى فشل اتفاقية أوسلو بعد انقلاب "إسرائيل"، عليها وتخليها عن الوعود التي قطعتها خلال المفاوضات، إضافةً إلى سياساتها الاستيطانية، وازدياد استخدامها للعنف المفرط ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

وثانيًا، إلى فشل "الحداثة العلمانية" في إيجاد حلول لصعوبات الحياة اليومية تحت الاحتلال، وهو ما دفع الفلسطينيين، إضافةً إلى الأسباب السابقة، للعودة إلى "الدين" الذي تمثّله "حماس" بوصفها جماعية إسلامية.

يتضح مما سبق أن وجود "حماس" مرتبطٌ إلى حد بعيد بعنف وجرائم "إسرائيل" وسياساتها الاستعمارية والاستيطانية العدوانية التي تفاقم من سوء الأوضاع سواءً في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، الذي فرضت عليه حصارًا خانقًا منذ 17 عامًا، تحوّل خلالها إلى أكبر سجن على وجه الأرض. وبالتالي، فإنه لا يمكن فصل أفعال "حماس" عن الممارسات العدوانية الإسرائيلية المتصاعدة لأنها لم تأت من فراغ (في استعارة لما قاله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الشهر الفائت).

ومع أن هذا ليس بجديد علينا، لكنه يكتسب اليوم أهمية كبيرة في ظل الحملة الغربية لشرعنة جرائم "إسرائيل" من خلال اعتبار عدوانها "حربًا للدفاع عن النفس"، والتعامل مع ضحاياه بوصفهم أضرارًا جانبية لا يمكن تفاديها، وكذلك إخراج ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت من سياقه التاريخي، بحيث يكون مجرد فعل إرهابي لا بد من القضاء على من ارتكبه عبر شن حرب ضده.

إبادة تصاعدية

الدفاع عن النفس الذي يشدّد الغرب على أنه حق مشروع لـ"إسرائيل"، إحدى الخرافات التي تضلل الأخيرة عبرها الرأي العام بشأن حروبها المستمرة على قطاع غزة بحسب إيلان بابيه، الذي يرى هنا أن ما يقوم به جيش الاحتلال في القطاع، منذ 2006، ليس حربًا وإنما "إبادة تصاعدية". وهذا المصطلح ليس مجرد وصف لجرائم "إسرائيل" وإنما استراتيجية متكاملة تقف خلفها.

فبخلاف استراتيجياتهم الواضحة بشأن الضفة الغربية، والقائمة على بناء المستوطنات والقواعد العسكرية تمهيدًا لضم نصفها بعد تهجير سكانها إلى الأردن بصورة تدريجية بطيئة، يقول بابيه إنه لم يكن لدى قادة دولة الاحتلال استراتيجية واضحة تجاه قطاع غزة بعد الانسحاب منه.

وفي ظل عدم وجود استراتيجية واضحة، لجأت "إسرائيل" إلى فرض سلسلة إجراءات عقابية لا نهائية ضد القطاع قائمة على الحصار والقصف، فكانت عملية "أول الغيث" في 2005 التي يقول بابيه إن الغرض المعلن منها كان إضعاف دعم سكان غزة لحماس، لكن الغرض الحقيقي كان: "تجريبيًا. فجنرالات إسرائيل أرادوا أن يعرفوا كيف يُنظر إلى مثل هذه العمليات في الداخل، وفي المنطقة عمومًا، وفي العالم الأكبر. وحين تبيّن أن الإدانة الدولية محدودة للغاية، وغير ذات أثر، كانوا راضين عن النتيجة" (ص 172).

ومع الوقت، تحوّلت هذه الإجراءات العقابية إلى استراتيجية للتعامل مع القطاع، أي أن "الإبادة التصاعدية" – زيادة القوة النارية وأعداد الضحايا وحجم الدمار مع كل عملية – أصبحت الطريقة التي يُريد قادة الاحتلال حل "مشكلة قطاع غزة" عبرها، حيث قاموا بتحويل سكان غزة إلى هدف رئيسي لكل عملياتهم العسكرية التي تلت "أول الغيث"، وأرادوا منها – إلى جانب الحصار – تدمير قدرة الناس على البقاء في قطاع غزة، كما يرى بابيه في كتاب آخر بعنوان "أكبر سجن على الأرض".

ويُظهر العدوان الحالي على قطاع غزة تحوّلًا خطيرًا في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه القطاع، إذ تحوّلت "الإبادة التصاعدية" إلى "تطهير عرقي"، بدعمٍ دولي لا محدود، بعد استشهاد قرابة 10 آلاف فلسطيني، وإصابة أكثر من 24 ألف، وإلقاء 25 طن من المتفجرات على القطاع، بالإضافة إلى الحديث المستمر عن تهجير سكانه إلى مصر، والضغوط الإسرائيلية على الولايات المتحدة وأوروبا لإقناع مصر باستقبالهم.

لا يمكن فصل ما تقوم به "حماس" عن عنف وجرائم "إسرائيل" وسياساتها الاستعمارية والاستيطانية العدوانية المتصاعدة

تُبرِّر "إسرائيل" إذًا عدوانها على قطاع غزة عبر تصويره بوصفه "حربًا ضد الإرهاب"، وبالتالي حرب دفاع عن النفس. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنها استفادت من الإسلاموفوبيا في الغرب، بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، لتعزيز دعايتها وتقديم حروبها بوصفها جزءًا من الحرب "الكونية" ضد الإرهاب على اعتبار أنها تحارب تنظيمًا إسلاميًا وإرهابيًا بالضرورة.

الانسحاب من غزة.. بادرة سلام؟!

تتعلق الخرافة الأخيرة بادعاء "إسرائيل" أن انسحابها أحادي الجانب من غزة عام 2005 كان "بادرة سلام"، بينما هو في الواقع خطوة أولية في مشروع تحويل قطاع غزة إلى "سجن" يُراقب ويُحكم من الخارج، من الجو تحديدًا. وهذا لن يكون ممكنًا دون إخلاء القطاع من المستوطنات.

يقول بابيه: "كان شارون يريد أن تبسط السلطة الفلسطينية سيطرتها على غزة وتعاملها كالمنطقة "أ" في الضفة الغربية؛ لكن هذه النتيجة لم تتحقق. لذا، اضطر شارون للتعامل مع غزة بإحدى طريقتين؛ إما إخلاء المستوطنين كي يقتص من حماس دون أن يجازف بتعريض المواطنين الإسرائيليين للأذى؛ أو مغادرة المنطقة بالكامل كي يعيد تركيز جهوده على ضم الضفة الغربية، أو أجزاء منها. وكي يضمن أن يتم فهم البديل الثاني دوليًا، نظّم شارون تمثيلية هزلية صدقها الجميع" (163).