16-يناير-2023
كاريكاتير لـ أنتوني فريدا/ أمريكا

كاريكاتير لـ أنتوني فريدا/ أمريكا

هل صار البشر أكثر تطرفًا؟ أم أن تطور التكنولوجيا وتعدد وانتشار وسائل التعبير جعل من التطرف يطفو على السطح بشكل لم نكن نعهده من قبل! والتطرف هنا يتخذ أشكالًا عدة وليس بالضرورة أن يكون تطرفًا بالشكل التقليدي الذي يشير إلى الإرهاب. في كل دقيقة هناك حدث ما يتخذ صفة تريند ويجتاح مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة، فيحتشد رواد هذه المواقع بين مؤيدين ومعارضين وتبدأ الحرب الكلامية والهجمات والهجمات المرتدة ولا يبقى أي حيز ما للتسامح. لكن اللافت أن الطرفين يتخذان من الإنسانية ومن الحق ذريعة ويتشدقون بالدفاع عن هذه القيم، وبغية تحقيق ذلك لا بد من التطرف لدحر الأعداء والخصوم من أتباع الظلام والشر.

برزت "ثقافة الإلغاء" وهي ثقافة تعتمد على إلغاء الآخر عبر سبل عدة، منها شتمه أو نبذه أو شيطنته أو تشويه صورته وسمعته، أو الإبلاغ عنه وإغلاق حساباته عبر السوشيال ميديا، أو تشكيل لوبي مناهض ضده

وسط هذه المعمعة يصبح اتخاذ أي موقف للتعبير عن الرأي في حدث ما عرضة للهجوم من طرف ما، فيجد الشخص نفسه أمام حلين لا ثالث لهما: إما الهجوم والتصدي والدفاع عن رأيه، وإما التقهقر والتراجع وتجنب التعبير عن الرأي واللوذ بالصمت والمراقبة من بعيد دون أي تفاعل.

أمام هذا الواقع، برزت "ثقافة الإلغاء" وهي ثقافة تعتمد على إلغاء الآخر عبر سبل عدة، منها شتمه أو نبذه أو شيطنته أو تشويه صورته وسمعته، أو الإبلاغ عنه وإغلاق حساباته عبر السوشيال ميديا، أو تشكيل لوبي مناهض ضده.. وغيرها من الممارسات. إذًا، ثقافة الإلغاء هي تحديدًا شكل من أشكال المقاطعة وتهدف إلى إزالة أو تنحية أو إلغاء شخص أو مؤسسة أو فكرة أو منتج أو علامة تجارية أو غيرها بسبب تعارض في التوجهات، أو بسبب مشكلة لا يوافق عليها مجتمع أو مجموعة أو جماعة ويعتبرونها مسيئة لهم، أو أنها تتعارض مع قيمهم وتوجهاتهم وآرائهم، وتمس وتنتهك تصوراتهم عن الحياة أو المسائل ربما.

همذا يمكن ثقافة الإلغاء أن تكون عملية يتم خلالها ممارسة شعبية لسحب الدعم من أشخاص فعلوا، أو قالوا، شيئًا يعتبر مرفوضًا أو مسيئًا بالنسبة لأشخاص ومجموعات وجماعات أخرى.

وصار المصطلح يستخدم يوميًا مع كل قضية مهما كانت صغيرة، وسواء كان أصحاب الرأي شخصيات مشهورة، أم شخصيات عادية يتابعها العشرات أو المئات ضمن نطاق إحدى منصات التواصل الاجتماعي. وأيضًا صار السلوك يمارس يوميًا كوسيلة للتعليم وإرشاد الآخرين، ومن أجل جعل الشخص يفكر في عواقب أقواله وأفعاله، ومن أجل فضح التصريحات العنصرية والتحيزات الجنسية، ومن أجل حث الناس على التفكير مرتين قبل إطلاق تصريحات أو القيام بسلوكيات معينة. ولكن المسألة لم تقف عند هذا الحد، بل تعدتها لتصل إلى الأذية والتنمر وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الإعدام المعنوي"، والذي يمكن أن يتمثل في عملية المشاركة في إعدام شخصية ما عبر الفيسبوك أو تيك توك، أو أي منصة من منصات التواصل الاجتماعي.

انتشر مصطلح الإلغاء بعد العام 2010 وبدأ ردًا على السلوكيات التي تتهم الآخرين بالتحيز الجنسي وبمعاداة المثلية وحقوق المرأة، وتابع المصطلح انتشاره حتى وصل إلى مرحلة المقاطعة المهنية والعملية والسياسية، واستخدمه العديد من أنصار الهويات وغيرهم من مؤيدي قضايا مجتمعية وجماعية لإظهار عدم موافقتهم على تصرفات شخص ما.

حسنات ثقافة الإلغاء!

يرى البعض أن ثقافة الإلغاء يمكن أن تساعد في مكافحة الأخطاء ومنع تكرارها أو جعل تكرارها أمرًا غير يسير عند البعض. إنهم يشبهونها بالعصا كما في التربية القديمة، أو يشبهونها بالثواب والعقاب كما في التربية الحديثة. ويرى هؤلاء إلى أن التساهل والتسامح مع آراء معينة يمكن أن تضر بقضايا إنسانية وتلحق الأذى بالجهود التي دامت عقودًا، وهدفت إلى تثبيت هذه القضايا ومنها ما يخص قضايا المرأة والحقوق والطفل والتمييز العنصري والعرقي والطبقي وغيرها من القضايا.

يرى البعض أن ثقافة الإلغاء يمكن أن تساعد في مكافحة الأخطاء ومنع تكرارها أو جعل تكرارها أمرًا غير يسير عند البعض. إنهم يشبهونها بالعصا كما في التربية القديمة

ويشير هؤلاء إلى أن ثقافة "الاتحاد" تشكل عنصر قوة لتثبيت الحق في كافة الميادين ومساءلة الآخرين عن أفعالهم وسلوكياتهم. على سبيل المثال لا الحصر، في المجال السينمائي، قام العديد من العاملين في صناعة السينما من مقاطعة حفلات جوائز الأوسكار بسبب عدم وجود تنوع بين المرشحين لنيل هذه الجوائز، حيث اقتصرت بغالبيتها على الفنانين من ذوي البشرة البيضاء. وقد ساعد هذا التضامن في إحداث التغيير المنشود وارتفعت نسبة المرشحين من ذوي البشرة السوداء. وبنظر هؤلاء فالمجتمع الذي يتحد من أجل قضية مشتركة يكون أكثر قوة ويحقق أهدافه.

آثار نفسية؟

في المقابل، برزت انعكاسات سلبية لثقافة الإلغاء. وساد جدال طويل حول جدواها، سيما وأن أثارها السلبية فاقت مردودها الإيجابي في بعض الأحيان، حيث إن الإلغاء يتحول إلى تنمر بكل ما يحمله من تبعات نفسية كبيرة على الأفراد. يشار إلى أن التنمر على الشخصية العامة يمكن أن تكون أقل وطأة من التنمر على الأفراد ذات الحظوة المحدودة. لنوضح المسألة أكثر: الشخصية العامة عادة ما ينقسم متابعوها بين مؤيدين ومعارضين، بين داعمين في مقابل ساخرين، مما يخفف من وطأة وحدة التنمر وتباعته على الشخصية المذكورة. يضاف إلى ذلك كون الشخصية العامة عادة ما تعرف وتختبر بالتجربة والممارسة حتمية انقسام الرأي العام حولها وحتمية النقد والهجاء وبذلك تتحضر له أو لا تعيره أهمية في أحسن الأحوال.

بينما الأفراد الذين يتعرضون للإلغاء فإنهم ربما يواجهون مشاعر وأحاسيس تتمثل بالنبذ والعزلة الاجتماعية والوحدة. وتشير الدراسات في مجال علم النفس أن آثار التنمر والنبذ والعزلة والوحدة ترتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، ومحاولات الانتحار والانتحار والفشل في تأدية المهام.. وغيرها من العوارض النفسية والجسدية. لكن تجدر الإشارة إلى أن التفريق بين عملية الإلغاء التي يتعرض لها الأفراد العاديون والشخصيات العامة لا يعني بأي من الأحوال عدم تأثر الشخصيات العامة، كما لا يعني بالضرورة وقوع الأفراد العاديين تحت وطأة تبعات التنمر والنبذ. المسألة نسبية هنا وقد تطال كل من الأشخاص المذكورين وبنسبة مختلفة ووفق درجات محددة من الشدة.

انتشار ثقافة عدم التسامح

لنأخذ مثلًا على ذلك من لبنان، في الآونة الأخيرة قام شاب لبناني يبلغ من العمر 19 سنة بالقول إنه حصل على شهادة من جائزة غينيس كأصغر مخترع، وقد تبين زيف أقواله، فالفتى قام بما قام به عن قلة وعي وإدراك، أو لطموحه المتزايد أو بسبب رغبته للشهرة أو لأي سبب آخر سواء كان عن قصد أم بدون قصد. لكن الشاب تعرض لحملة سخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حملة كانت شديدة جدًا، ومن ثم انتهت بعد أيام. لكن هل سألنا أحدنا ما الذي حصل مع هذا الفتى؟ وهل الخطأ الذي ارتكبه يستأهل كل هذا السلخ والإعدام المعنوي؟ هل الخطأ الذي ارتكبه الفتى يعد جرمًا أو خطيئة؟

فأين هي قيم التسامح التي تزخر بها كتب التربية؟ أين مقولة "الاعتراف بالخطأ فضيلة" والمسامحة لمن اعترف بخطئه ودعمه وإعطاء فرصة ثانية بدلًا من العمل على هدمه؟ أسئلة كثيرة تطرح أمامنا يوميًا مع كل ترند وقضية تشغل بال الرأي العام وتتضمن كبش فداء أو ضحايا. يتم إلغاء هؤلاء الأشخاص لفعل أو قول أو سلوك وتكبح مجهوداتهم وقدراتهم او حريتهم في التعبير عن رأيهم.

إذا تعرض شخص ما للإلغاء فقد يشعر كما لو أن الجميع تخلوا عنه دون أن تتاح له فرصة الاعتذار وتصحيح خطأه وتغيير سلوكه. وبدلًا من إنشاء حوار لمساعدة الشخص على فهم سلوكه وأقواله وأفعاله وكيفية إلحاقه للضرر بالآخرين، بدلًا من ذلك، تغلق أمام الشخص المعني كل سبل التواصل والاتصال، وتتحول المسألة من كونها محطة للتعلم والنمو ومراجعة الذات بهدف التطور وإصلاح الخطأ ضمان عدم تكرار الخطأ، تتحول المسألة إلى عملية هدم لذات إنسانية مع كل ما يرافقها من توحش متراكم لدى الشخص المعني بغية الدفاع عن نفسه ووجوده في وجه الهجمة التي يتعرض لها.

ثقافة الإلغاء وحرية التعبير!

لا تؤثر ثقافة الإلغاء فقط على الأطراف المعنية مباشرة بالمسألة، بل تطال الأشخاص العاديين أو مجموع من المتفرجين والمشاهدين وذلك عبر خفض قدرتهم على التعبير عن آرائهم بحرية. تجعل مشاهدة الكم الكبير من الصراعات عبر السوشيال ميديا ومدى استفحالها وضررها.. تجعل فئة كبيرة من الناس تخاف من التعبير عن رأيها بحرية. ولا بد هنا من التفريق بين الرأي وبين الوقائع. الرأي متاح للجميع وحرية التعبير عن الرأي يجب أن تكون في المتناول دون أن يعني ذلك ضرورة أن يكون هذا الرأي صحيحًا أو جميلًا أو منسجمًا مع رأي الغالبية. هناك أشخاص لديهم آراء مناهضة للمثلية الجنسية، للمساواة بين الرجل والمرأة، للثورة، لإنجاب الأطفال، لمؤسسة الزواج، للإجهاض، السياسة، الحروب، إلخ.. وغيرها المسائل والقضايا الحساسة التي لا يم يوم دون أن تكون مدار سجال عند الناس.

الخوف الناتج عن ثقافة الإلغاء يحمل كثيرين على الصمت والخشية من التعبير عن آرائهم تجنبًا للتعرض لحملات إلغاء من قبل الآخرين

الخوف الناتج عن ثقافة الإلغاء يحمل كثيرين على الصمت والخشية من التعبير عن آرائهم تجنبًا للتعرض لحملات إلغاء من قبل الآخرين. ويزداد قلق الأشخاص في حال قرروا التعبير عن أنفسهم وأفكارهم وعواطفهم وتصوراتهم علنًا فيكبتونها داخلهم. تكمن الخشية لدى هذه الفئة من إمكانية فحص كل كلمة يقولونها وقولبتها وإعطائها معاني إضافة مبالغ بها واستباحة حيزهم الخاص وحياتهم بفعل التعبير عن رأيهم. تضعهم ثقافة الإلغاء تحت المجهر فيكون الحل الأنسب التراجع والسكوت، وربما يدخلهم هذا التراجع في مرحلة من مراحل الشعور بالذنب لعدم قول الحقيقة الخاصة بهم أو عدم دفاعهم عن شخص ما أو موقف ما أو فكرة ما مما جعل من مسألة العلاقة بين ثقافة الإلغاء وحرية التعبير تطفو إلى السطح.

إذًا، هذا العالم المعقد والمتشعب والجماعي الذي يختلط فيه الحابل بالنابل عبر وساط التواصل الاجتماعي جعلني أفقد قيمة الرأي والرأي الآخر من محتواه. فإذا رأى شخص ما أو مجموعة ما أن تصريحاتنا وسلوكنا خطأ فإن ذلك يكفي لشن الحملة علينا، وإلغاء وجهة نظرنا بعد صبغ تصريحاتنا بتفسيرات ربما تكون خاطئة أو مبالغ بها.