21-أغسطس-2022
كاريكاتير لـ توماس/ إيطاليا

كاريكاتير لـ توماس/ إيطاليا

تدخل إلى فيسبوك لتطمئن إلى نفسك. تراقب من من الأصدقاء تفاعل مع منشورك، من ألقى عليك التحية. أنت حي إذا ويجدر بك أن تطمئن على الأحياء من معارفك وأصدقائك. تواسي الذين ينعون من مات من أحبائهم. هم أيضًا يبحثون عن أنفسهم، عن إشارة تدل إلى أنهم ليسوا الذين ماتوا. 

تدخل إلى فيسبوك لتطمئن إلى نفسك. تراقب من من الأصدقاء تفاعل مع منشورك، من ألقى عليك التحية. أنت حي إذا ويجدر بك أن تطمئن على الأحياء من معارفك وأصدقائك

لا تلبث أن تتفاعل سلبًا وإيجابًا مع منشورات وصور آخرين. هنا تبدي إعجابك، وهناك تتجاهل، وتضحك حين تقرأ منشورًا آخر. وهكذا تقضي جزءًا من يومك وأنت تطمئن إلى أنك ما زلت تعرف كيف تعاقر هذه الحياة. مع ذلك ثمة الكثير مما لم تكن تعرفه وتجيده يقدم إليك جاهزًا ومعلبًا. أنت تعترف بحبك مرارًا هذه الأيام. الحب ليس شأنًا يفترض بنا أن نبخل به ونقصره على من نقتنع حقًا أننا نحبهم. بوسعك أن تحب أشخاصًا وصورًا وكلمات ومقالات، وبوسعك أن تتضامن مع اعترافات وبوح، لم يكن مقدرًا لك في حياة أخرى سابقة أن تتضامن معها. هذا موقع يجعل المشاعر لحظوية، لا تلبث في قلبك أكثر من لحظات معدودة، وأنت تنتقل بين المشاعر كبهلوان، تدرك أن فيسبوك لا يعلمك سوى كيف تكون ممثلًا موهوبًا. تستطيع بلحظات قليلة أن تتقلب بين الحزن والغضب والضحك والحب. تستطيع أن تكون إنسانًا مكثفًا، ينجح في جعل حياته كلها رهينة دقائق معدودة. 

هذا كله تختبره وأنت تتصفح فيسبوك كل يوم. لكن تجربتك في الموقع لن تتوقف عند هذا الحد. أنت الآن أكثر علمًا بما يجري من حولك وبعيدًا عنك. في تلك البلاد القصية فاض نهر، وثمة غرقى، وفي بلاد أخرى احترقت غابة، وهذه صور الناجين والنار معًا، وفي بلاد ثالثة ثمة من يهدد بعض معارفك وأصدقائك بالقتل. في النتيجة الحاسمة، يمكنك أن تكتشف أن الصفحة التي تقلب فيها أحوال الناس البعيدين عنك، قد تكون رسالة منتحر أو محتضر. وقد تكون رسالة ناج أو مغامر. لكنها قد تكون أيضًا رسالة ضجر يريد أن يقتل ضجره بالسخرية. في نهاية الأمر تتعلم كيف تكون ساخرًا، لأن ما تبحث عنه في هذا العالم ليس أكثر من إثارة ضحك الآخرين. هذه الرغبة الملحة، لم تكن مفهومة على الوجه الذي بتنا نفهمها عليه اليوم مع انتشار التلفزيون مثلًا. المسلسلات الكوميدية التي كان أبطالها على الدوام مجرد سذج وأغبياء. تلك المسلسلات التي كانت تدفعنا للضحك على الممثلين، ومن ثم على مقدمي البرامج الخفيفة. نحن أذكى منهم، لأننا نعرف أن ردود فعلهم ليست منطقية. هكذا كنا نضحك على النجوم، لأننا نحسب أنفسنا أكثر معرفة وخبرة منهم. لكننا اليوم، أصبحنا أولئك الممثلين: نسخر من أنفسنا، ويمتعنا أن ننجح في إضحاك الآخرين. فلننجز المواساة والإعجاب بأسرع ما يمكن، ليتسنى لنا أن نتفرغ للضحك على أصدقائنا وهم يهرجون، ونخترع من جهتنا مواقف تجعلهم يضحكون علينا بوصفنا مهرجين. 

موقع فيسبوك يحولنا جميعًا إلى مهرجين على هذا الوجه أو ذاك. وهذا ليس مما يدفعني للاعتراض والمذمة. على العكس، يجرنا هذا الموقع من أيدينا وأصابعنا وابتساماتنا إلى التعامل مع الحياة بالخفة التي تستحق. ليس ثمة ما يثقلنا حقًا. الثقل شأن عليك أن تتعامل معه وحيدًا وصامتًا. العالم والناس من حولك، لا يتواصلون معك إلا حين تكون خفيفًا حقًا. وإن نجحت في إجادة الخفة ستصبح على نحو ما حيًا وحرًّا. على الأقل في تلك اللحظات التي تكتشف فيها أن هذه الحياة لا تستحق هذه الصرامة كلها. وأن العالم يولد ويعيش ضاحكًا، وحين يبكي فإنه يكون كمن يستقبل موته.