13-ديسمبر-2022
برونو لاتور

الفيلسوف برونو لاتور

غادرنا منذ أسابيع عدة الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور عن خمسة وسبعين عامًا. كُتب الكثير في وداعه وفي تشعب المنطلقات والمواضيع التي اشتغل عليها وتناقضها. فلاتور خط مسارًا تقاطع فيه العلم والفلسفة والعلوم الاجتماعية، وهو مسار مغاير لأنماط التفكير السائدة في هذه الأوساط. وقد اتهم بعدم المنهجية تارة، وبالضبابية والنسبية النقدية وعدم الوضوح تارة أخرى. لقد جمع تناقضات كثيرة في مجالاته البحثية وصنع خطابا يعرفه فيه نقاده بـ"الميتافيزيقيا الأمبيريقية". وهو بهذا أسس مرتكزات بحثية انطلق منها في مسارات مختلفة خلال ما يزيد عن أربعين عامًا.

لطالما نظر لاتور إلى الحياة من خلال دراسة أنثروبولوجية جديدة للبشر المعاصرين وتبعات التغيير المناخي الذي نعيش فصوله. وعليه قرر إعادة قراءة الاجتماع البشري بعدسات مختلفة عن تلك التي خطتها الفلسفة بشقيها القاري والتحليلي

لطالما نظر لاتور إلى الحياة من خلال دراسة أنثروبولوجية جديدة للبشر المعاصرين وتبعات التغيير المناخي الذي نعيش فصوله. وعليه قرر إعادة قراءة الاجتماع البشري بعدسات مختلفة عن تلك التي خطتها الفلسفة بشقيها القاري والتحليلي. ومن خلال هذا حاول لاتور إعادة تعريف العلاقات البشرية والاجتماعية من خلال بنية الشبكات التي يعيشون فيها، والتي من خلالها تبنى علاقات القوى بينهم وبين التقانة والعلم من جهه، وبين الطبيعة وكائناتها غير البشرية وعواملها الطبيعية من جهه أخرى.

لهذا بدا لاتور مفترقًا في جانب من عمله، عن سطوة العلم الطبيعي وإيجابيته الحاسمة، وفي موقع هجومي على هذا العلم مشككًا بمقولة قدرته على إيجاده الحقائق، بل ذهب ليقول إن العلم بنى الحقائق على مرتكزات اجتماعية وسياسية. وتناول من جانب آخر العلوم الاجتماعية بوصفها علومًا متماثلة، في نحوها الدائم إلى التراص الإحصائي والتنميط البنيوي السهل للكتل المشكلة للاجتماع البشري. وفي هذا يرى لاتور أن هذه التناقضات في المنطلقات المؤسسة لهذه العلوم أدت إلى عمليات فصل معرفي في تناول هذه العلوم للعناصر التي يجدر دراستها، فالفصل بين البشري والعضوي، أي المايكروب والكائنات العضوية، وبين قوى الطبيعة والأشياء الآلية والتقنية التي اخترعها البشر هي ما أوصلنا إلى الحالة البشرية المستعصية التي نعيشها الآن.

هذا الفصل البنيوي والمعرفي بين هذه المجالات أدى بحسب لاتور، إلى التسبب ببناء تطلعات أحادية في تناول اعتمال المعرفة من جانب، ومفهوم السلطة والسياسة وعملية التمثيل المرتبط بها ومندرجاتها من جانب آخر. وهو بهذا يعزو ترسخ هذا الفصل إلى عطب كامن في متن فكر الحداثة وتأسيسها، بما هي مجموعة تناقضات جُمعت على منطق تجاهل كل مجال للآخر. وقد كرست الحداثة نفسها داخل هذه التناقضات، إذ تصدّر خطاب العلمنة الإيجابية على شؤون العلم ومواضيعه، وشكل هذا الخطاب سلطة مطلقة تجاهر دومًا بتطويع الطبيعة والانتصار عليها معلنة "ولادة الإنسان". وفي مقابل ذلك تتجاهل إعلان ولادة الأشياء والمسوخ التقنية وغير البشرية وإقامتها مع البشر وتأثيرها في اجتماعهم.

غير أن هذه العلمنة للأفكار وفصلها عن النظام الإيماني، يقابل دائمًا بسلطة الطبيعة التي ماتزال تبرهن لنا كل يوم أنها مميتة في الأزمات التي تلقيها على كاهل البشرية، والسلطات الدينية مازالت موجودة وتغذي المجتمعات بوجودية الله وخطابات مؤسساتها. وهذا التناقض يتجسد في عملية الفصل المعرفي والأنطولوجي الذي أقامته الحداثة بين ميادين دراسة وممارسة السياسة والاجتماع والعلم. وفي هذا النقد يقترح لاتور الأثنوغرافية والأنتروبولوجيا كأداتي بحث يمكنهما درس تفاعلية البشر والتقانة والكائنات البيولوجية من ناحية سياسية واجتماعية وعلمية في آن معا وتعيدان تعريف أدوار اللاعبين ومدى تأثيرهم في الشبكات التي يشكلونها، أكانوا بشرا، أم أشياءً تقنية، أم كائنات بيولوجية أم قوى طبيعية.

في كتابه الذي حمل عنوان "لم نكن يوما حداثيين"، يوضح لاتور أن عمليات الفصل التي تقيمها الحداثة بين هذه المجالات العلمية والسياسية والاجتماعية لم تنجح، وأنها في الواقع في حالة اتصال دائم وتفاعلي. فالعلم والسياسة لم ينفصلا قط، كما أن العلم يبيع منتجاته في سوق اقتصادية تحكمها علاقات هذا السوق والصراعات التنافسية والوسائط السياسية وسياقات التشريع التي تتيح توافر هذه المنتجات، وتتعامل بشكل مباشر مع الخطاب الديني واعتراضه أو موافقته عليها. وعملية الفصل المعرفية هذه يسميها لاتور بعملية "التنقية" التي أنتجتها الحداثة في كل نطاق.

يرى لاتور أن هذه المجالات غير منفصلة في الواقع، فهي تعتمل في عملية تفاعلية تنتج الاختلاط والتهجين عبر التشابك بين المعرفي والسلطوي والطبيعي وما ينتجه هذا التشابك من علاقات بين الكائنات، لا تقع حصرًا في خانات التنميط السائدة للاجتماع والسياسة والطبيعة بتعريفاتها المحددة والمستقلة عن بعضها البعض (الروبوتات، الكائنات المعدلة جينيًا، مختبرات الأدوية واللقاحات، سياسات التصدي للجوائح، صناعات الطاقة وأسواقها، أنظمة الملاحة، الشبكات الاجتماعية، الواقي الذكري، حبوب منع الحمل، أخلاقية الخوارزميات الذكية، اقتصاد المستخدم والتجارب الرقمية، السباق إلى الفضاء، أنظمة الاستشفاء، أنظمة السير وتنظيم الازدحام). ليخلص إلى التعريف بأن عيش البشر "التقني" حوّل الآلات امتدادًا لأجسامنا.

يثير لاتور التساؤل عن نظام التمثيل الذي يحكم المنطق الحداثي، ويطرح بالأخص إشكالية الحداثة في اختزالها للاختلافات هذه إلى اختلاف وحيد يؤطر كلية الاختلاف

يثير لاتور التساؤل عن نظام التمثيل الذي يحكم المنطق الحداثي، ويطرح بالأخص إشكالية الحداثة في اختزالها للاختلافات هذه إلى اختلاف وحيد يؤطر كلية الاختلاف، ما يؤدي بدوره إلى طمس فردانية كل مكون في التشابك الذي ينشأ بين الكائنات المختلفة عبر ترابطها الواقعي في نسيج شبكي. وهذا ما يؤدي بالتالي إلى تجاهل عملية التفاعل والانتقال المداوَر للمعرفة والسلطة بين هذه الاجتماعات. وفي هذه الاختزالية الكبرى التي تتلحفها الحداثة ومبدأ الفصل النظري هذا، يبني لاتور اعتراضه: ليس البشر وحدهم من يبنون الحقائق. فـ"الاجتماع" بالنسبة له ليس اجتماعًا بشريًا خالصًا، بل هو تركيب هجين يجمع البشر وغير البشر في ترابطاته الشبكية. وبهذا يتعارض لاتور مع مدرسة النقد الماركسية بارتكازها على تعريف الاجتماع كخاصية بشرية محض، تعتمل في بنية اجتماعية نظرية. فبتقديمه الأنطولوجي الموضوعي على الذاتي أراد لاتور تنسيب السلطة للمؤثرين غير البشريين في شبكات العلاقات مثل الفايروسات والأشياء التنكولوجية وقوى الطبيعة إلى جانب البشر، ودعا بالتالي إلى ملاحظة تأثيرهم في دراسة ونقد هذا الاجتماع والسياسة وعلاقات القوى التي تنشأ وتعتمل فيه.

يعيد لاتور تقفي أثر بداية هذا الفصل بين الطبيعي والسياسي إلى بدايات القرن السابع عشر، وتحديدًا إلى السجال بين روبرت بويل وتوماس هوبز في اسكوتلاندا حول اكتشاف ماكينة ضغط الهواء. وهو السجال الذي أفضى بفصل العلم عن السياسة عبر تحديد عملية من يمثل هذا الاختراع في المجالين. فبويل لم يتبن الإسقاطات اليقينية التي لا تقبل الجدل لتخريخ براهين الاكتشافات العلمية الاصطناعية في المختبرات. ومنهجيته لا ترتكز على الأبستمولوجيا والطرح المعرفي في المحاججة.

تسلح بويل بمنطق "الدوكسا" الذي يقوم على إيجاد نقاط معينة لتكوين سياق عام متفق عليه بين أقرانه الخبراء المختبريون الذين عملوا وراقبوا جهاز الضغط المصطنع. وعليه عوضًا عن تثبيت قراءة وتفسير وشرح عمل المضخة بشكل منطقي وعقلاني ورياضي بحت، استعمل بويل منهجية شبه قضائية (parajudicial) بين الأقران العلمائيين لإكساب هذا الشرح الثقة والأهلية اللازمة، وتكوين حجة إقناع تتأتى من عملية معاينة وتفحص يقوم بها أهل الاختصاص للتأكيد على وجود الوقائع الدامغة في معاينتهم هذه. وبهذا أخرج بويل العلم من المنطق الرياضي البحت ووضعه في عملية أمبيريقية تتوسل السياسي للمصادقة على وقائع رُكبت واُنتجت اصطناعيا في المختبرات. وفي هذا أوجد نظامًا تمثيليًا سياسيًا جديدًا للاختبارات الاصطناعية والعلمية.

في المقابل فإن توماس هوبز رفض منحى بويل هذا كليًا، فاعتماد هكذا منهجية تعني إفساح مجال لتدخل أنواع أخرى من السلطات، التي قد تبدو مستقلة عن سلطة الملك والوحدة الدينية والسياسية التي أرادها هوبز أن تُختزل بالملك. فالبنسبة له، لم يكن ممكنًا إيقاف الحرب الأهلية الإنجليزية التي كانت مستعرة آنذاك، إلا إذا تم توحيد النظام السياسي عبر عقد اجتماعي ينصِّب الملك فوق سلطة مدنية، وهو بدوره يمثل سلطة الله عبرها. أي أنها سلطة تقوم على جمع المدني والديني في تمثيل أحادي يختصره العرش. وبهذا الالتفاف حول العرش وغلق أي باب تأويل ديني لا يصادق عليه الملك، تُقطع الطريق على أي نوع من استحضار سلطات إلهية وتأويلات أخرى قد تغذي الحرب الأهلية وتقوض السلم. ومن شأن اختصار السلطتين بالعرش أن ينزع أيضًا عن المحكومين من قبل هذه السلطة المدنية الممثلة بالملك إمكانية التماس العفو أو المغفرة من الله مباشرة كما يحبط إمكانية أن يثور هؤلاء لينصّبوا ملكا آخر.

أراد هوبز أن يمنع إمكانية مناشدة تتطلع إلى سلطة مقدسة أعلى من السلطة المدنية التي يترأسها الملك. فبالنسبة له كان الخطر الأكبر الذي يحدق بالسلم الأهلي يتمثل بمنطلقات تؤمن بأجسام غير مادية كالأرواح والأشباح وتفسير الماورائيات، أي تلك النزعات المتفلتة التي قد يتوجه إليها العامة رفضًا لأحكام السلطات المدنية. ومن هنا يرى لاتور أن منطق هوبز لتوحيد السياسة في سلطة مدنية تحت إمرة الملك الذي يملك حصرًا أمر تمثيل الله على الأرض هو منطق ميكانيكي بحت. فالملك ذو السيادة بالنسبة لهوبز هو ممثل محتكر لسلطة إلهية في برنامج حكم مدني مصنوع عبر العقد الاجتماعي. وبهذا التركيب الميكانيكي لهذا العقد الاجتماعي أقفل هوبز باب العودة إلى المقدس مباشرة، وأعطى أحجامًا تمثيلية لللاعبين المشكلين للسياسة والاجتماع. وعليه فإن منهج بويل، وأقرانه العلماء في مجمع العلوم الملكي القاضي باعتماد منطق المناظرة وتفسير المادة غير المرئية والطبيعة في عمل المضخة، يشكل خطرًا على وحدة هوبز السياسية وعقده الاجتماعي الميكانيكي وينذر بعودة الشيطان (ليفيثان) إلى المملكة.

يرى لاتور أن بويل قد كرس منهجًا سياسيًا في تظهير الوقائع العلمية المشكلة من المادة والطبيعة والمجمعة في مواضيع وأشياء جديدة مصنعة في المختبرات، ورسخ نظام تمثيلها في عملية أمبيريقية تعتمل بالتجارب والمعاينة والبراهين التي يقودها أصحاب الاختصاصات حصرًا. لكنه يرى أن هذا النظام هو في حقيقته نظام سياسي خارج السياسة العامة. في حين أن هوبز وضع منطقًا ميكانيكيًا سياسيًا يتناول السلطة والتمثيل السياسي والديني ومفهوم السيادة والعقد الاجتماعي والملكية والمواطنة، ولكنه منطق يتلافى المنهج العلمي الأمبيريقي. وبهذا يرى لاتور أن بويل وهوبز صنعا عالمنا الحديث في تناقض ثنائي، حيث باتت عملية تمثيل الأشياء والمواضيع المصطنعة عبر المختبرات كوسائط منفصلة كليًا عن عملية التمثيل السياسي المدني للمواطنين عبر وساطة العقد الاجتماعي المقترح بعقل ميكانيكي. وبهذا صارت قوة هذين النظامين التمثيلية تُستمد من عملية الفصل هذه التي تشكل متن بناء الحداثة وتناقضاتها.

الأشياء التقنية المركبة والكائنات الحية غير البشرية والطبيعة على حد سواء تملك سلطة في تقرير مصير البشر وحياتهم

 

من هذا الفصل يتابع لاتور بناءه للقول بأن الأشياء التقنية المركبة والكائنات الحية غير البشرية والطبيعة على حد سواء تملك سلطة في تقرير مصير البشر وحياتهم، وعكف على طرح سؤال يبحث إمكانية النظر إلى الاجتماع بما هو خليط يجمع هؤلاء والبشر في شبكات تفاعلية، وكيفية فهم ودراسة هذه الشبكات. وتأسيسا على ما سبق وضع لاتور وعلماء آخرون، كميشال كالون، نظرية "شبكة المؤثرين". وهي محاولة "أنالوجية" لمحاكاة تشابك الكائن البشري والكائنات الحية والعضوية، وتلك الآلية والعناصر المادية الجامدة وعملية التأثير التي تمارسها هذه كلها على بعضها البعض، وتخضع لها ولارتداداتها أيضا في إطار شبكي تفاعلي. تحاول هذه المحاكاة الأنالوجية إيجاد أطر بحث ومعاينة لدور التكنولوجيا والطبيعة في تشكيل الاجتماع. وهي بهذا ليست نظرية كاملة وناجزة الأطر، بل يمكن النظر إليها كإطار نظري عريض وفضفاض يستعمل منهج معاينة عملي إمبيريقي في تعريف المؤثرين في هذه الشبكة والأدوار التي يلعبونها وتقييم درجة تأثيرهم في سياقات اتصالهم باللاعبين الآخرين فيها.

حاول لاتور استعمال شبكة المؤثرين كمساحة عمل ونقطة وصل، وسط الانقطاعات بين المجالات البحثية العلمية والسياسية والاجتماعية المستقلة التي أرساها هوبز وبويل، في إطار براغماتي يحاول التخلص من ثنائيات الماكرو والمايكرو والمحلي والعالمي، وبتوظيف أنثروبولوجي جديد لدراسة علاقات البشر والأشياء والكائنات الأخرى وطبيعة هذه العلاقات التي تنشأ بينهم، وحدود التأثير الذي يمارسه اللاعبون على بعضهم البعض، ودراسة خفوت و تغير نسب هذا التأثير وانتقالاته في أصقاع الشبكة وسياقات تمدده وتغيره الطوبوغرافي في النسيج الشبكي هذا، محاولا بذلك بناء إتاحة مغايرة لدراسة هذا الاجتماع الهجين، بعيدا عن المنهج البنيوي في التحليل الذي يتناول علاقات القوى حصرًا في بنية الطبقات الاجتماعية البشرية البحت، وعلاقاتها مع مراكز السلطة والتمثيل في النظام السياسي.

غير أن الهجوم الحاد على مسار برونو لاتور جاء من مدرسة النقد الماركسية، التي اعتبرته مبشرًا نيو ليبيراليًا، باعتباره يتبنى اعتماد منهج أنطولوجي مسطح، ومضاد لبنيوية الاجتماع الطبقي ومتجاهل لمنطق الإنتاج والصراع على أدواته. رأى هؤلاء أن لاتور استعمل منطقًا مناورًا، فلجوؤه الاختزالي للشبكات هو تجاهل للبعد الطبقي، ومساهمة في طمس أبنية الرأسمالية وقواها. فالتركيز على تشييء المؤثرين في شبكته والركون إلى تكبير دور الفعاليات (agencies)، عبر إسباغ تعريف موضوعي على الاجتماع، وتجاهل البعد الذاتي-البشري فيه، ما هو إلا نوع من تسطيح للرأسمالية يهدف لنزع الحجج عنها وبالتالي تنزيهها عما تخلفه من مآس.

كان سلافوي جيجك من أشد المهاجمين لأنطولوجيا الموضوعات "المسطحة"، متهمًا منحاها المادي الجديد بالمخاتلة، ونحوها لإنتاج نوع جديد من الروحانية المبطنة، عبر استثمار الذاتية البشرية في العالم المادي ومحاولة تظهيرها بعيدة عن التأثير المطلق . وبهذا يرى جيجك أن هذه المدرسة المادية الجديدة فشلت في محاولة تخطي ثنائية الذات والموضوع، لأنها لجأت إلى استخدام التسامي الإنساني كخاصية ذاتية أساسية في معرض إعادة تعريفها للأشياء والفعاليات غير البشرية. ويعتبر أن هذا المنحى يخطىء في تعريفه "للآخر" غير البشري بصفات ومقدرات بشرية كآخر يمكن للبشر أن يبنوا علاقات تفاهم ناجزه ومفهومة معه.

غير أن مفهوم التهجين الذي وسعه لاتور، ونسَّب من خلاله الفعالية للأشياء التكنولوجية والكائنات العضوية والبشر على حد سواء، في شبكات العلاقات المتغيرة، جاء متقاطعًا مع منطلقات التفكير النسوي، بخاصة مع دونا هاراواي في سعيها لبناء سياق جديد تعرف من خلاله الجسم من خارج بناء الفصل الجندري الذي أرسته الحداثة ورأس المال. وفي هذا تلاقت هاراواي مع ميتافيزيقيا لاتور"الواقعية" في تعريفه للأشياء، مع مشروعها لإعادة تعريف الجسم البشري في مساحة المواجهة والتشابك مع التقانة وآلاتها وأنظمتها البرمجية، حيث يُعاد إنتاج العالم وعيشه وتصوراته في أبنية المعلوماتية. فالسايبورغ هو نوع من تعريف أنالوجي أسطوري لكائن هجين قدمته هاراواي في مواجهتها مع السلطة الذكورية التي سيطرت على التعريف التاريخي والسياسي للجسم. فهي رأت في الأصل التكنولوجي للجسم وإقامته في شبكة الأشياء التقنية والبيولوجية العضوية، مساحة عيش مختلفة ومتفلتة من التنميط الجندري المبني على رؤية اجتماعية طبقية وجنسانية محددة لوظائف الجسم والمؤسسات والبنى التي يعيش فيها، كالعائلة وسوق العمل وأجهزه الدولة ومبانيها.

امتد تأثير لاتور إلى مناخات بحثية أخرى في مسارات الفلسفة والعلوم الإنسانية. فاهتمام تيار أنطولوجيا الأشياء بأعمال لاتور كان من أبرز المواضيع التي طغت على مساحات النقاش في العقدين الماضين في حقول الدراسات الأكاديمية المتعددة الاختصاصات. وهذا الاهتمام يمكن تتبعه في كتاب الأمير والذئب الذي أتاح نص المناظرة في جامعة ل س أي في لندن بين برونو لاتوروغراهام هارمن، أحد أبرز المنظرين لأنطولوجيا الأشياء. فالتهجين في عمل الشبكات بين المواضيع والأشياء والبشر وتشابك فاعلياتهم يتقاطع مع تصورات تلك المدرسة لناحية تناولها للمواضوعات (objects) كعناصر وأشياء مستقلة، تقيم خارج علاقات البشر واستعمالهم وتفاعلهم واهتمامهم بها. فشبكة المؤثرين اللاتورية شكلت المساحة الخصبة لإظهار استقلال الأشياء عن التعريف البشري لها.

المؤثرون في تلك الشبكة أكانوا بشرًا أو موضوعات تقانة أو كائنات بيولوجية يتعاونون ويتفاعلون ويتصارعون وينتجون موضوعات أكثر تعقيدًا وحالات مركبة، دون أن يخسروا صفاتهم النوعية المتمايزة

المؤثرون في تلك الشبكة أكانوا بشرًا أو موضوعات تقانة أو كائنات بيولوجية يتعاونون ويتفاعلون ويتصارعون وينتجون موضوعات أكثر تعقيدًا وحالات مركبة، دون أن يخسروا صفاتهم النوعية المتمايزة. وما يجعل تلك الأشياء والمواضوعات واقعية في تأثيرها، ويكسبها الفاعلية، ليس ماديتها أو جوهرانيتها، وليس أيضًا معرفتها واستعمالها من قبل الذات البشرية، بل العلاقات التي تقيمها مع الأشياء الأخرى البشرية والجامدة والعضوية على حد سواء.

وحيال هذه النقطة بالتحديد يبرز الخلاف بين لاتور وشبكة المؤثرين، فلاتور ينظر إلى العلاقات بين المؤثرين بوصفها عملية تفاعلية، لا تقتصر عليهما فقط بل يقوم طرف ثالت بتحمل مهمة "الترجمة" والتوسط بين طرفي العلاقة المتفاعلين. وبحسب لاتور فإن هذه المثالثة هي التي تؤلف العلاقة، وبهذا فإن العلاقات الشبكية تقوم، عبر الوساطة هذه، بإنتاج عملية اختزال أحد الأطراف للآخر. وبهذا البعد الاختزالي في العلاقة يتم إكساب الأشياء والموضوعات صفة الفعالية. غير أن هارمن يرى أن العلاقات الاختزالية هذه لا تُفقد الأشياء المتفاعلة هويتها وصفاتها، وبهذا يخرج هارمن الأشياء والمواضوعات من معادلة العلاقاتية اللاتورية لينظر للأشياء والمؤثرين بوصفهم غير مُختَزَلين وغير مختزِلين في العلاقات هذه، لأنهم يحافظون على صفاتهم ونوعياتهم الوحدوية الكامنة حتى في أثناء اتصالهم بالآخر.

لكن مشروع لاتور لا يتوقف هنا، فانطلاقه من مقولة أن الفكر الحداثوي، بسعيه لتحرير البشر من الطبيعة، قد أنتج كائنات هجينة لم تلتفت لها العلوم الطبيعية والسياسية المنفصلة عن بعضها، ما أدى إلى مفاقمة مصاعب حياتنا وادخل تعقيدات جمة إلى متن السياسة والاجتماع. وحمل مشروعًا يدعو فيه إلى تفكير مغاير في السياسات المناخية والأيكولوجية ويجري فيه إدخال الكائنات غير البشرية والهجينة إلى متن السياسة والاجتماع ودراسة سلوكاتهم وتفاعلهم مع البشر.

يعاين لاتور في كتاباته أزمة ثقب الأوزون التي طرحت نفسها في السياسة الدولية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ويرسم خريطة تأثير هذا "الموضوع" في تقاطعات شبكية تمددت بين السياسة الدولية، علوم الاجتماع والسياسة، سياسات الطاقة، علوم الكيمياء والبيولوجيا، علم الفضاء، علم الجينولوجيا، علوم المحيطات، علم الاقتصاد، وعلم المعلوماتية وغيرها. وهو بهذا يبدي خشية من بناء تصورات متضاربة في ما يخص الحقائق العلمية، وبخاصة لدى أولئك الرافضين للتغيير المناخي وتأثيره على حياة البشر، محتجين بتباين الوقائع العلمية في إسناد ذلك. ويذكر أن تناوله النقدي لمنهجي بويل وهوبز كان يهدف لتبيان ضعف اليقين العلمي في بناء الحقائق وليس لإيهام العامة بالتعتيم على يقين علمي دامغ عبر تبني حقائق مطلقة.

يرى لاتور أن مدارس النقد الحداثية جهدت في تفكيك المقولات وإبطال الوعي الزائف وتأسيس تفكير عام سليم، وإظهار أن مرتكزات البشر الإيمانية كانت بمعظمها تركيبًا أيديولوجيًا. غير أنه في زمننا الراهن فإن أساليب النقد هذه باتت تستعمل للتشكيك في وجود حقائق علمية كالاحتباس الحراري أو إيجاد أرضية منطقية لمعارضي لقاح فايرس كورونا. وفي هذا يرى لاتور أن النقد يمكنه أن يهدم الحقائق، ويفككها غير أنه لا يبدو قادرًا على تأسيس أي تصور متين يصمد في وجه نظريات المؤامرة. وفي ورقته الشهيرة عن ضمور النقد، يتساءل لاتور: هل بإلامكان إيجاد أدوات جديدة يمكنها الإضاءة على القضايا المقلقة والمهددة للحياة البشرية وديمومتها؟ وبهذا يتوجه لاتور إلى النقاد والفلاسفة متسائلًا إذا ما كان مازال ممكنًا تحويل الدافع النقدي في روحية النقد من التفكيك وهدم الحقائق الموروثة إلى إضفاء الواقعية على الوقائع المثبتة علميًا.

تناول لاتور في كتابات لاحقة "طبيعة" الطبيعة التي نعيش فيها والتغيير المناخي والعصر البشري والجيولوجي الحالي (الأنتروبوسين) حيث البشر هم الفاعلون الأساسيون في التغييرات على الأرض، وجمع كل هذه المحاولات تحت تسمية "غايا" للدلالة على كوكبنا، وهو اسم مستمد من أعمال الكيميائي جيمس لوفلوك وعالمة الأحياء لين مارغيلوس، وهذه تسمية أطلقها اليونان القدماء على آلهة الأرض. بالنسبة للوفلوك ومارغيلوس فإن "غايا" تمثل كائنًا شبه حي مستقل يحافظ على توازنه الخاص عبر تعديل مستويات الأوكسيجين والحرارة بما يؤمن هذا التناسب. رغم أن هذه النظرية ليست علمية بل تظهر كعمل أدبي خيالي، إلا أن لاتور وجد فيها سندًا أنالوجيًا ليدعم مقولاته، التي تفيد أن الفعاليات ليست حكرًا على البشر. وليقول، من ثم، إن التحولات الحاصلة على كوكب الأرض لا يمكن تناولها ودراستها دون إضافة عمل وتأثير الكائنات العضوية والحيوية الأخرى المقيمة على الأرض مع البشر، الذين في كلية عيشهم وتفاعلهم جعلوا من الأرض ما هي عليه.

في مختلف كتاباته "سياسات الطبيعة"، و"مع الأرض"، مثالًا، يعود لاتور إلى مهاجمة الحداثة والتنوير في مقولة الانتصار على الطبيعة وتحرير الإنسان، ليقول إن البشر وتأثيرهم مهم جدًا، ولكنهم ليسوا من يسيطر على التغييرات وحدهم، فهم لايعيدون إنتاج المعاني والتصورات والأفكار الكبرى بعزيمتهم ووعيهم المكتسب من العلوم. فهم بتلاعبهم بمقدرات الأرض لا يفرضون واقعهم وحدهم عليها بل يشاركهم بذلك كل الكائنات العضوية والحيوانات والعناصر الأخرى. ومن دون هذه الكائنات لن يكون هناك مناخ أبدًا. والحال، فإن تصورنا عن نقاوة الهواء وشاعريتنا اتجاه الماء تصبح مرتجة إذا ما أضفنا إلى تصوراتنا هذه الكائنات الميكروسكوبية التي تعيش فيها والتي تتفاعل معها وتغيرها. وبهذا يتوجه لاتور إلى صناعة النفط والغاز والفحم الحجري، ليقول لا يمكن للبشر أن يقضوا المئة سنة الماضية يستخرجون أجياف المواد المتحولة من جوف الأرض ليولدوا الطاقة ولا يتوقعون أي تغيير في سلوك الكائنات الأخرى التي تعيش معنا. ومن هنا ينطلق للدعوة في البحث عن نوع جديد من الاجتماع الذي يلحظ هذه الكائنات وسلوكاتها وحاجاتها إضافة إلى البشر.

كما يدعو لاتور إلى التفكر بردة فعل الأرض تجاهنا، والتوقف عند سؤال إمكاناتنا في تأسيس ردة فعل مغايرة لمنطق السيطرة عليها، عبر إشراك الكائنات الأخرى في تكوين أطر الاجتماع. وهذه دعوة إلى إعادة تصور اجتماع جديد يقوم على مرتكزات مختلفة، ويتطلع إلى منطلقات وأبنية سياسية مختلفة عن سياسات الصراع على السلطة الحديثة.

يشبّه برونو لاتور البشر المحجوزين بالنمل الأبيض، فالجائحة وضعتنا في مواجهة مباشرة مع فعالية الفيروس، الكائن المجهري الذي شاركنا حياتنا وغيرها

مع ذلك يبدو لاتور متناقضًا وإشكاليًا في كل الأبعاد التي اتخذها مقارنة مع توجهات اليمين واليسار المختلفة والمتنافرة في العالم. ويبدو كذلك بسيطًا، إذ أن عمله قليل التعقيد ومباشر مقارنة بمدارس نقد الحداثة وما بعدها. فمنطلقه للوهلة يبدو يساريًا "اجتماعيًا" ومناصراتيًا يدعو فيه إلى توسيع الاجتماع عبر ضم الكائنات الأخرى إليه، ولكنه لا يأبه كثيرًا للفروقات الطبقية والمحلية مقابل العولمة. وفي مكان آخر يقول ليس هناك شيء اسمه اجتماع حديث، وهذا ما جعل البعض يربطه بمقولة ثاتشر الشهيرة. وهو من هذا المنطلق يرفض الدلالات المجردة كالرأسمالية، وهو الرفض الذي يصير حفيظة اليساريين. ومع هذا يبني مشروعه فوق الثنائيات التي تحكم الصراع بين هذين التيارين، فهو يحاول تخطي تطلعات العولمة وخطاب النمو، بالإشارة إلى استنزاف مشروعها وعدم قدرة الأرض على مجاراة سرعة النمو ومتطلباته. في حين يرى أن اليسار يدفع بأجندة اقتصادية حمائية محلية مع تطلعات كوزموبيوليتية.

مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ونجاح حملة بريكزيت في بريطانيا، بدا أن تأزمًا حل بمنطلقات لاتور. حيث بدا أن تطلعاته تهدف إلى جمع منطلقي اليمين واليسار، عبر إصرارها على إمكانية المواءمة بين النمو وتحقيق أعلى درجات الأرباح وبين الخطابات الوطنية المحلية المرتدة إلى الداخل. ويخرج بآراء أكثر غرابة، مطالبًا بنوع من إعادة تعيين التاريخ، باسترداد منطلقات التنوير والحداثة (كما تسترد الشركات منتجاتها المعيوبة من الأسواق) وما تولد منها من استعمار وتغيير في أنماط الحياة على الثقافات والمجتمعات غير الغربية. ويدعو في هذا السياق إلى إعادة التفاوض مع هذه المجتمعات التي ربما لا تريد هذا النوع من الحداثة والتنوير. ويخاطب تيارات البيئية السياسية داعيا إياهم إلى النظر في فعالية المناخ التي ترخي بأثقالها على هذه المجتمعات وعلى مستقبلها في ظل لامبالاة الخطاب الاقتصادي وسطوة أجنداته، فجعل وول ستريت "خضراء"عبر إخضاعها لمنطق هذه التيارات، لن يساعد في عملية التصدي لأزمات المناخ المحدقة في العالم والتي تتفاوت قدرات هذه المجتمعات حيالها لإيجاد استراتيجيات ناجعة للبقاء على قيد الحياة.

في كتابه الأخير "After Lockdown"، بعد جائحة كورونا، يشبه برونو لاتور البشر المحجوزين بالنمل الأبيض، فالجائحة وضعتنا في مواجهة مباشرة مع فعالية الفيروس، الكائن المجهري الذي شاركنا حياتنا وغيرها. لاتور يقول إن هذه التجربة هي تجربة خلاّقة لأنها أجبرتنا أن نعي حجم التحولات الاجتماعية والسياسة التي علينا أن نخضع لها، ولنظام العيش الذي علينا التأقلم معه، والتسويات التي علينا أن نعقدها مع الفيروس، كما مع طريقة تلبية حاجاتنا وسبل حمايتنا من قوة وبطش الكائنات الأخرى التي تتواجد معنا على الأرض.

برونو لاتور الساخر دائمًا في كتاباته يقول لنا إن العالم الحالي ليس لديه بوصلة خلاص، فنحن كائنات تعيش وتكافح في الوحول وليس في طبيعة أم.