22-يوليو-2020

أوضاع مكررة يعيش فيها اللبنانيون من سنوات (ميديل إيست آي)

كل ما يملكه اللبنانيون هو الانتظار. انتظار سعر صرف الدولار في الصباح. انتظار ظهور المازوت. انتظار الكهرباء التي لن تأتي. انتظار خطاب أو خطابين أو ثلاثة: هتاف، تصفيق، قبضات، وعيد، إلخ.

كل ما يملكه اللبنانيون هو الانتظار. انتظار سعر صرف الدولار في الصباح. انتظار ظهور المازوت. انتظار الكهرباء التي لن تأتي. انتظار خطاب أو خطابين أو ثلاثة: هتاف، تصفيق، قبضات، وعيد، إلخ

انتظار اتفاق ثلاثي أو رباعي. انتظار حرب من طرف واحد، بين طرفين، أو بين عدة أطراف. انتظار اختفاء وباء كورونا هكذا من تلقاء نفسه. انتظار عديم الكاريزما جو بايدن، لعل حدة العقوبات الأمريكية تخف، أو يظهر أفق جديد في النظام العالمي، فيكون ذلك نصرًا مجانيًا، يضاف إلى سلسلة الانتصارات المتخيّلة. انتظار "هبة" بمليارات الدولارات، من أي مكان في العالم، أو من الفضاء، لعلها تحيي جثة الاقتصاد. انتظار إعلان السرطان مرضًا وطنيًا، في بلد يعرف أعلى نسبة إصابات بهذا المرض في العالم العربي، لا بل في كل آسيا. انتظار الحرائق في موجة الحرّ، والتذكّر بأنه لا طائرات مخصصة للإطفاء، ثم البدء بحملة "نق"، والتحسر على المحميات وعلى الأرز، وعلى ما تبقى من الجبال التي نهشتها كسارات آل كابوني التي لا يقوى عليها أحد.

اقرأ/ي أيضًا: الأزمة الاقتصادية مستمرة في لبنان.. مآلات مجهولة

انتظار السيول في الشتاء، وطوفان مياه الصرف الصحي في الشوارع، وتبادل الاتهامات بين البلديات وحقوق الطوائف الكريمة ومبادرات الـ USAID السخية لمد القساطل البلاستيكية في الأراضي الترابية، وحل النزاعات بين الجماعات، كما تقول الجمعيات. انتظار إغلاق ما تبقى من مدارس وصيدليات، وامتلاء الطرقات بالنفايات، والبحث عن مطمر للشيعة، ومطمر للسنة، ومطمر للأرثوذكس، وهكذا حسب ما يتداول في الإعلام، ويسمى "ميثاقية". انتظار المحللين الذين يستخدمون العلكة الشامية لتفسير الأحداث، وفي أحسن أحوالهم يستخدمون أفكارًا فضفاضة على بلد يعجز من ثلاثين عامًا عن توليد الكهرباء، ويشتري أهله المياه بعدما تملؤها الشركات الخاصة بعبوات. 

بعد الانتظار، التوقعات. التغيير آت لا محالة. يتوقع اللبنانيون عودة سعد الدين الحريري لرئاسة الحكومة. هذا احتمال وارد، أو على الأقل ليس احتمالًا مستبعدًا. وبذلك يكون صار أكبر من والده، وصار والده هو ابنه. فالحريري الأب ومنذ 1992، قضى 13 عامًا في صدر المشهد السياسي، معظمها في رئاسة الوزراء، والبقية رئيسًا لكتلة نيابية ضخمة، قبل اغتياله في 2005. مرّ 15 عامًا ونجله يفعل الأمر نفسه. ترأس حكومتين أو ثلاثة، لا فرق، وعيّن فؤاد السنيورة في المنصب، وقبل بنجيب ميقاتي مرة أخرى. منذ 26 عامًا، وآل الحريري يديرون الحكومة في لبنان. ومنذ 1992 أيضًا، وحسن نصر الله ما زال أمينًا عامًا لحزب الله. ومنذ 1992، ونبيه بري ما زال رئيسًا للبرلمان. وما زالت الوجوه الطيبة ذاتها، حتى أن المتابعين العرب غير المهتمين بالسياسة اللبنانية بالضرورة، حفظوا هذه الوجوه لشدة تكرارها، ورغم تقلباتها، من وليد جنبلاط إلى ميشال عون.

 ثلاثون عامًا على الأقل، ظهر فيها الإنترنت والهاتف الذكي، والفايسبوك، وانتهى زمن الـ MSN واختفت الكاسيتات وأشرطة الفيديو والأنتينات وبطلت موضة السراويل الواسعة وصار القمر قريبًا، ولم يتغيّر زعيم واحد على الأقل في لبنان. حتى أن مصطلح "زعيم" الرتيب نفسه لم يستبدل بمصطلح آخر أكثر لطفًا.

أثناء الانتظار، وخلال التوقعات، يتخيّلون السيناريوهات. ربما السيناريو اليمني. قد تعتدي عليهم طائرات، أو يموتون من الجوع، قد يتركون لمواجهة القذائف والأوبئة. لكنك إذا أوغلت في النقاش عمومًا مع أشخاص غير محددين، ستجد أن المزاج اللبناني عمومًا، لا يشعر بالخطر. وقد تسمع من يخبرك في كسروان أن "فرنسا لن تتركنا"، أو يأتي مستلب آخر في الجنوب وينصحك بالاتجاه شرقًا وقبول العروض الإيرانية. وهناك من يراهن على رحيل دونالد ترامب، أو على تدخله لحل أزمة في لبنان، وهناك في العاصمة من ينتظر "مكرمة" من هنا، أو هطول الدولار من السماء. لذلك، بالنسبة للبنانيين ومن دون إحصاء، هناك شعور عام بالغضب والتشاؤم، لكنه ليس تشاؤمًا مطلقًا، وهو غير قابل للتحول إلى ذعر.

لأسباب ربما يمكن تفسيرها، وأخرى لا يمكن تفسيرها بأي شكل من الأشكال، يعتقدون أن ثمة معجزة ستحدث، أو أنها لن تسوء إلى تلك الدرجة. ربما سيناريو غزة. الحصار التام، الانقطاع عن العالم. لكنهم لا يعتقدون أن هذا احتمال ممكن أيضًا. حتى الذين يتحدثون باسم فلسطين، من دون أن يطلب أحد منهم ذلك، يعتقدون أنهم أقوى من هذا الاحتمال بكثير. وهناك استحالة في النظر إلى هذا الخطاب بحد أدنى من الجدية، بالنظر إلى تحالفاته في لبنان، وفي كل مكان. ربما يتخيّلون سيناريو الحرب الأهلية اللبنانية. وهذا أفضل ما تنتجه المخيّلة اللبنانية ـ التي اكتشفت الصباغ الأرجواني حسب كتاب التاريخ المدرسي ـ دائمًا عن شكل الأزمة.

 ستحدث حرب على أن يتم تمويلها من الخارج. ثم يحترب اللبنانيون ويقتلون بعضهم، ويتصالحون، لكنهم يضحكون على الجميع، ويستفيدون من الأموال التي ستدخل البلاد. وهذه ليست سخرية، بقدر ما أنها اعتقاد شعبي رائج بين مجموعة كبيرة من اللبنانيين عن الحرب الأهلية، يفتخرون بمجازرهم ودماء أقربائهم وبعنفوانهم، الذي يتبخر فجأة عندما تصرف مجموعة كبيرة من العمال تعسفًا. يتخيّلون حربًا مثل الحرب القديمة، أبطالها مثل صدام حسين ومعمر القذافي وبعض الدول الخليجية إضافة إلى آخرين استثمروا في الحرب اللبنانية، ولا ينتبهون إلى أن الحرب كانت حربهم هم بالذات، ولم تكن حرب أي أحد آخر، كما يحلو لهم الاعتقاد وهم يتناولون جبنة بيكون على مائدة العاشرة صباحًا. كانت حربًا بين طبقاتهم، وحربًا على هوياتهم، وهم الآن، بعد كل هذا السنوات في لعنها، وفي نظم المرثيات السميكة لأجلها، هناك بينهم من ينطر إليها بوصفها حلًا.

بعد كل شيء لا يشعر اللبنانيون بالملل. وباستثناء 17 تشرين الأول، لم يطلقوا صرخة واحدة، ضدّ الرتابة. حتى أنهم أعادوا ترتيبهم حسب الملل القديم، ولم يحاولوا استبداله بملل جديد. من بعيد، وبدون كلفة الدراسات والمقارنات، بدون مراعاة للشروط العلمية، يشبه هذا الوضع المقارنة بين مصر أيام حسني مبارك، ومصر حاليًا. استبدال الملل بملل آخر. في لبنان، ما زال صندوق النقد الدولي هو الحل، والاستدانة هي النهج، والنخبة الحاكمة هي النخبة الحاكمة. وهناك دولة عميقة، لا أحد يعرف إلى أين يصل عمقها بالضبط، وهناك أشخاص نافذون، وتبادل للوهم على نطاق واسع يسمّيه اللبنانيون "الحريات". وما زال الاستقطاب يحدث وفق القواعد القديمة نفسها، كما لو أن اللبنانيين اقتنعوا فعلًا بوجود حلول، إذا افترضنا أنهم يتفقون على وجود مشكلة. اقتنعوا بالملل، والقناعة كنز لا يفنى فعلًا، ذلك أن ما سيفنى هو البلاد، ولا شيء غيرها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

موجة انتحار جديدة في لبنان.. يأس من الواقع واحتجاج عليه