10-فبراير-2023
getty

تعمل خلايا مدنية في المناطق التي تسيطر عليها روسيا ومهمتها الأساسية جمع المعلومات (Getty)

منذ الأيام الأولى للغزو الروسي  لأوكرانيا، كانت مدينة خيرسون، هدفًا استراتيجيًا في الحملة الروسية، حيث تمت السيطرة  عليها، في غضون أسبوع من بدأ العمليات العسكرية، ولم يمض إلا وقت قليل، حتى بدأ الروس بمحاولة تغير معالم المدينة عن طريق إنزال الأعلام الأوكرانية، واستبدالها بالأعلام الروسية، والعمل على التداول بعملة الروبل، كما تم نقل العديد من العائلات الروسية، لتأهيلها في المكان.

ساهمت خلايا مدنية أوكرانية في الكشف عن تفاصيل التحركات الروسية داخل مدينة خيرسون

وأعلن المسؤولون الروس أن المدينة الواقعة على مصب نهر دنيبرو بالقرب من البحر الأسود، أصبحت جزءًا أبديًا من روسيا.  بالمقابل، لم يتوقف سكان المدينة عن مقاومة الاحتلال الروسي، وشكلوا مجموعات سرية أطلق عليها "خلايا الأنصار" تنسق العمليات مع قيادة جهاز الأمن الأوكراني داخل المدينة، ولم يُكشف إلّا القليل عن طبيعة تلك العمليات بعد استعادة المدينة، وانسحاب الروس في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، في هزيمة اعتبرت الأقسى للقوات الروسية منذ بداية الغزو.

وتكشف وكالة "رويترز" للأنباء، في تحقيق عن إحدى العمليات الأمنية التي ساهمت في هزيمة الروس بالمدينة، ودور المجموعات المدنية في رصد ومراقبة الروس، ومعرفة خطواتهم القادمة، والعمل عليها، حيث يقدم التقرير حربًا من نوع آخر.

وفي التفاصيل، طلبت المخابرات الأوكرانية الخريف الماضي، معلومات تتعلق بضباط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) المشرفين على احتلال خيرسون، والمقيمون في فندق صغير في شارع خلفي بالمدينة الساحلية الجنوبية.

getty

تولي المهمة مواطن أوكراني مدني، الذي دعوه في العملية بإسم "دولار"، كان يوفر سرًا إحداثيات الاستهداف ومعلومات عن عمليات الروس في خيرسون والمنطقة المحيطة بها. وأجرت "رويترز" مقابلات مكثفة مع "دولار"، واثنين آخرين من أعضاء شبكة الأنصار في خيرسون بعد تحرير المدينة في تشرين الثاني/نوفمبر.

وبحسب "رويترز" توفر حسابات أعضاء الخلية، نافذة نادرة على كيفية تنسيق المعلومات وعمليات التخريب مع أجهزة المخابرات الأوكرانية خلف خطوط الروس، وهي العمليات التي لا تزال جارية في أماكن أخرى في أوكرانيا.

وقال مسؤولان أمريكيان إن "مثل هذه العمليات من قبل عملاء مخابرات وجنود سابقين وهواة، ساعدت في تسريع انسحاب روسيا من خيرسون،  وهي واحدة من أكبر الانتكاسات التي واجهها الكرملين في الحرب".

يقول "دولار"، الذي رفض الكشف عن اسمه الحقيقي لـ"رويترز" لأسباب أمنية ، إنه بدأ في التحرك بالقرب من فندق "Ninel"، مع زوجته العضو في الخلية، وأقنع رجال الأمن الأوكران، بأن ضباط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي يقيمون في داخل الفندق، وأرسل "دولار"  ملاحظاته إلى مشغله في خدمة الأمن في أوكرانيا.

وبعدها بساعات، وقع انفجار ضخم في الفندق، وفقًا لتقارير وسائل الإعلام الأوكرانية والنائب الإقليمي سيرهي خلان، الذي كتب على صفحته في فيسبوك، إن "ضابطين من FSB وسبعة من المسؤولين العسكريين الروس لقوا مصرعهم".

يتذكر "دولار"، الذي اصطحب مراسل "رويترز" لمشاهدة الهيكل المحطم، وقال "تلقيت رسالة نصية قصيرة تقول، ألقِ نظرة وشاهد كيف أصبح فندق Ninel"، وأضاف "ذهبت وقلت، لم يعد هناك فندق Ninel".

يشير "دولار" والعاملون الآخرون في الشبكة، إنهم حذفوا محادثاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام لأسباب أمنية.

تلقى "دولار" وزوجته التي ساعدته في المهمة، أوسمة من وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، نقشت عليها "مع الشكر على التعاون مع القوات المسلحة"، وفقًا لصورة اطلعت عليها "رويترز" بتاريخ الأول من كانون الأول/ ديسمبر الماضي،  وقال "دولار"، إن مارت وكوليا، العضوان الآخران في الخلية المؤلفة من أربعة أشخاص، تم تكريمهما أيضًا من قبل ريزنيكوف.

 وردًا على سؤال حول عمليات المقاومة في الأراضي الاوكرانية التي يحتلها الروس،  قال مسؤول من المديرية الرئيسية للاستخبارات الأوكرانية (GUR)، إن "السكان المحليون داعمون"، رافضًا الإدلاء بتفاصيل عن أنشطة محددة.

getty

تتواصل عمليات استهداف أفراد الأمن الروس، وتعطيل خططهم عبر مساحات من شرق وجنوب أوكرانيا تسيطر عليها روسيا وحلفاؤها، وفقًا للعديد من المسؤولين الأوكرانيين والروس وأعضاء خلية خيرسون.

ويقول معهد دراسة الحرب الأمريكي أن حرب خلايا "الأنصار الأوكرانية" تشن في ميليتوبول وتوكماك وماريوبول في الجنوب ودونيتسك وسفاتوفا في الشرق.

وقال الحاكم المنفي لإقليم لوغانسك سيرهي هايداي،  الخاضع للسيطرة الروسي ، إن خلايا "الأنصار الأوكرانية" هناك ينفذون عمليات تخريب، ويهاجمون من يشتبه في أنهم متعاونون روس. 

وقال "دولار" الذي نفذ عملية تفجير الفندق الذي يقيم به جنود روس، إنه على الرغم من مخاطر الاعتقال والاستجواب والتعذيب والموت، إلّا أن الأنصار في مدينة خيرسون، علقوا الأعلام الوطنية الأوكرانية على الأشجار، ونقلوا مواقع تمركز القوات الروسية على "Google Earth"، وخرائط أخرى عبر الإنترنت، إلى مسؤولي الأمن الأوكرانيين.

وقال فيتالي بوجدانوف، عضو المجلس الإقليمي في المحافظة، إنه خلال الاحتلال الروسي الذي دام ثمانية أشهر، جمع ونقل إلى سلطات "إنفاذ القانون" في كييف المعلومات التي استخدمت لاحقًا في بداية التحقيقات مع المشتبه بأنهم تعاونوا مع الروس.

وأضاف "تمكنا من معالجة عدد كبير جدًا من القضايا الجنائية"، لكنه رفض الإدلاء بمزيد من التفاصيل لأن التحقيقات لا تزال جارية.

وقالت كوليا، وهي جزء من خلية خيرسون، إن المجموعة أخبرت من قبل مسؤوليها بعدم استخدام الأسلحة النارية لأن المعلومات كانت سلاحًا أكثر فاعلية.

من جهته تحدث أليكسي لادن، المحامي في شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا، لوكالة "رويترز"، أنه كان يدافع عن اثنين من الأوكرانيين المحتجزين هناك، متهمين من قبل جهاز الأمن الفيدرالي بشن هجمات عنيفة ضد الروس.

وقال لادن إن بافلو زابوروجيت خدم في الجيش الأوكراني بين عامي 2014 و 2017، وانضم إلى المخابرات العسكرية الأوكرانية خلال احتلال مدينة خيرسون، اعتقل أثناء محاولته مهاجمة دورية ليلية عسكرية روسية ويواجه حاليًا عقوبة السجن مدى الحياة بتهمة "الإرهاب الدولي".

وذكر لادن أن تحقيق جهاز الأمن الفيدرالي، استند إلى شهادة تم الحصول عليها عندما تعرض موكله الذي كان محتجزًا لدى الروس، للتعذيب أثناء الاستجواب وأظهر لـ"رويترز" نسخة من مذكرة مكتوبة بخط اليد، ووصف فيها تعرضه للضرب والصعق بالصدمات الكهربائية أثناء احتجازه.

وأشار لادن إلى أن جهاز الأمن الفيدرالي رفض الاعتراف بزابوروجيت كجندي أوكراني مؤهل لتبادل الأسرى، قائلًا إنه "لا يمكنه التحقق من الوثيقة التي قدمها الدفاع تؤكد وضعه".

الأنصار أعضاء خلية خيرسون، دولار وكوليا ومارت، عضو آخر في الخلية، قالوا إنهم شعروا بضرورة مقاومة الاحتلال الروسي  لخيرسون، لأنه لم يكن هناك دفاع منظم عن مدينتهم عندما هاجمها الروس في 24 شباط/فبراير من العام الماضي.

وجاءت أولى المحاولات لدولار ومارت لمواجهة الروس في الأول من آذار/ مارس، كما قالوا، عندما قادوا شاحنة محملة بكتل خرسانية باتجاه جسر أنتونوفسكي، وهو نقطة دخول رئيسية إلى المدينة، بهدف إبطاء تقدم القوات الروسية. وأضافوا إنهم استداروا لأنهم كانوا يخشون أن "الغزاة كانوا بالفعل في المدينة".

نظر دولار في خياراته، تنظيم حركة عصيان مدني، حمل السلاح أو جمع المعلومات الاستخبارية، يقول لـ"رويترز" إن الأصدقاء وضعوه على اتصال مع ضابط في إدارة أمن الدولة الأوكراني، واتفق دولار وكوليا، وهما صديقان قديمان، على جمع المعلومات عن الروس، وبناء شبكة من ضباط الشرطة المتقاعدين، والمسؤولين السابقين في إدارة أمن الدولة والمتقاعدين وغيرهم.

getty

طلبت كوليا، وهي صائدة محنكة كانت تعرف ريف خيرسون، معلومات من القرويين المحليين، بما في ذلك امرأة مسنة كانت تعد عدد القوافل الروسية أثناء حلبها لبقرتها. ومن بين مهمات الاستطلاع، التقى الاثنان بمصادر في مقهى لجمع المعلومات الاستخبارية.

وخلال الصيف، أعطى مزارع لكوليا، إحداثيات موقع قاذفة صواريخ روسية محمولة على شاحنة تُعرف باسم " Tochk-U" حول قرية تبعد حوالي 12 كلم شمالي خيرسون، ونقل دولار المعلومات.

في اليوم التالي، أبلغ المزارع كوليا أنه لم يكن هناك سوى حفرة في الطريق حيث كانت الشاحنة واقفة ذات يوم، على حد قول دولار. 

في الوقت نفسه، واصل مارت جهودًا مستقلة لجمع المعلومات الاستخبارية، حيث قام بزيارة الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من مطار خيرسون الدولي في تشورنوبايفكا، وحثهم شخصيًا عبر محادثات على موقع تليغرام، لإرسال المعلومات إليه حول تحركات القوات الروسية، وأطلق على خليته المكونة من خمسة أفراد اسم "ميامي"، فقد أقامت القوات الروسية في آذار/مارس مقرًا لها داخل مجمع المطار، الذي تبلغ مساحته ثلاثة كيلومترات مربعة، والذي تعرض للقصف المتكرر من قبل القوات الأوكرانية.

وقالت كييف إن أعدادً كبيرةً من الجنود الروس قتلوا، بما في ذلك جنرالان على الأقل، كما دمرت طائرات ومخازن ذخيرة، وسحبت موسكو عتادها العسكري من المطار في تشرين الأول/ أكتوبر، قبل انسحابها من المدينة.

يشير مارت ودولار إلى أنه مع تزايد الخسائر الروسية، ازدادت ثقة  أعضاء الخلية التي جندها مارت وبدأوا في تحمل مخاطر أكبر، وعندما اعتقل الروس أربعة من أعضاء خلية "ميامي" في نهاية آب/أغسطس، خشي مارت من أن يعترفوا عنه، ففر مارت إلى قرية فاسلييفكا في إقليم زاباروجيا، عبر نقطة التفتيش الوحيدة التي سمح الروس للمدنيين الأوكرانيين بالعبور إلى الأراضي الخاضعة للسيطرة الأوكرانية، ثم شق طريقه إلى كييف.

ساهمت الخلايا المدنية في استهداف القوات الروسية في خيرسون إلى جانب جمع المعلومات عنها

وعلى الرغم من تحرير خيرسون، يقول دولار إنه وكوساتكا سيواصلان مساعدة المقاومة حتى تستعيد القوات الأوكرانية شبه جزيرة القرم، حيث يمتلك الزوجان شقة، وأضاف "نهاية الحرب بالنسبة لي ستكون عندما أعود إلى شقتي".