06-فبراير-2022

لوحة لـ أدولف غوتليب/ أمريكا

حين تغمرك التفاصيل تجهد في ألا ترى. تصبح الحاسة التي هندست العالم الذي نعيش فيه مجرد حاسة محتقرة. لا تريد أن تدقق. ولكي تنجح في ذلك تسعى لأن لا ترى شيئًا من حولك. فقط الفجائع والفظائع هي ما يلفت نظرك ويجبرك على الرؤية. وفي المجتمعات الحديثة، حيث كل مكان بات زاخرًا بتفاصيل لا تحصى، تجد نفسك مجبرًا على التعرف إلى الخمول والدعة في الصور لكنك تعجز عن ملاحظته بالنظر. هي العين التي ندين لها بمعظم معارفنا، تكاد اليوم تتخلى عن دورها كحاسة ناظرة. وأحسب أن الفارق المهم بين الحاسة الناظرة والحاسة المشاهدة تتعلق بمسألة الانتماء. فالمرء ينظر إلى الشيء إذا كان في هذا الشيء ما يعنيه حقًا. النظر دائمًا يرتبط بالفكر. عليك أن تفكر وتميز وتلاحظ الإشارات والدلائل التي يبعثها المنظر إلى عينك ودماغك. أما في حال المشاهدة فأنت غير معني بما يجري. سترى دماء كثيرة على الشاشات، وتكمل شرب قهوتك كما لو أن ما يحدث على الشاشة لا يعنيك كثيرًا. حتى حين تكون هذه الدماء هي دماء أهلك ومعارفك ومن تشترك معهم بروابط ما كانت عراها سهلة على الانفصام.

حين تغمرك التفاصيل تجهد في ألا ترى. تصبح الحاسة التي هندست العالم الذي نعيش فيه مجرد حاسة محتقرة

بمثال أوضح، حين تمر أمام رجل امرأة جميلة وراغبة بإظهار جمالها، يسعها أن تنقله من حال إلى حال. سيكون غارقًا في تأمل الشجرة التي أمامه وراغبًا عن أي شيء سوى الاسترخاء الذهني، لكن مرورها أمامه سينشط حواسه الأخرى ويحوله من مجرد مشاهد إلى راغب في المشاركة. إلى معجب ومثار، وستسمح لذكرياته الحميمة بتصدر أفكاره وتأملاته، ستعيد إليه صور كل النساء اللواتي أحبهن وسيرهن وسيشتاق إليهن، ويعيدهن إلى موقعهن الأصيل بوصفهن فاعلات في حياته، ومقررات في الحال التي يجد نفسه عليها الآن.

اقرأ/ي أيضًا: بغداد.. أيُّ قاربٍ أنتِ!

في حالة المشاهدة، يختلف الأمر جليًا، على الشاشة أنت تطلب امرأة كما تطلب فطيرة بيتزا. أنت جائع وهي ليست معنية في إرسال الإشارات. تبدأ إغوائها، إذا كان لنا أن نصف ما يحصل بالإغواء، من مرحلة متقدمة جدا. من حيث يكون المرء على وشك الاستسلام التام. وما أن تنهي لعبتها حتى تخفيها بكبسة زر. هذه المرأة التي تطل من الشاشة لن يحصل أن تتحول يوما إلى جزء من ذكرياتك، وقد تنجح في أن تتحول إلى جزء من إحباطاتك التي تتكاثر كفطر سام على سطح ذاكرتك.   

الفارق بين النظر والمشاهدة هو، في واقع الأمر، الفارق بين أن تكون إنسانًا أو أن تكون نصف إله. في الحال الأولى ستعاني وتتضامن وتشفق وتمرن لمستك على الرقة، وستجد نفسك تحث أذنيك على تطلب الطرب والانتشاء، ويحدث أيضًا أن تشم عطرًا عابرًا، وكل هذا مما يشغلك عن الموضوع الأصلي الذي هو الإغواء، ويضيف إليه حشدًا من الأحاسيس يعادل حياة صغيرة. في حال المشاهدة تجد نفسك في موقع الواثق من قدرته على إشباع جوعه، فلا يعود التمييز بين الطعوم والروائح ضروريًا أو حتى مطلوبًا. حين تشاهد فأنت تنصّب نفسك كائنًا مستوحدًا لا يريد الاشتراك في هذا الزحام من المشاعر المتضاربة. تأخذ كفايتك وحسب، ثم تلتفت إلى شؤون أخرى كحكم في مباراة.

والمشاهدة أيضًا تفرض عليك أن تنشغل عما يريدك الآخر أن تنشغل به، تثار، لكنك في الوقت نفسه تتذكر أنك متأخر على صديقك في المقهى، وأن ثمة أعمال يجب أن تنجزها، وتاليًا ستجد نفسك مضطرًا لتأجيل الاستسلام للإغواء، ما دمت تعرف يقينًا، أنه موجود وحاضر، وكل ما يتطلبه منك لا يتجاوز ضغطًا خفيفًا على زر من الأزرار. كأن الآلات التي تجمعها في غرفتك تغنيك عن الشعور بأي شيء. وأن السماء لن تمطر اليوم، لأنها لم تمطر أمس ولا قبل أمس ولأنها أصلًا لم يحدث أن أمطرت في هذه البلاد.

حين تشاهد فأنت تنصّب نفسك كائنًا مستوحدًا لا يريد الاشتراك في هذا الزحام من المشاعر المتضاربة

اقرأ/ي أيضًا: إماتة الموت

المرأة التي تحاول إغواء المشاهدين من غرفتها، ليست مهتمة بشخص معين، كل المشاهدين بالنسبة لها سواسية. وهي تاليًا تريدهم أرقامًا في مفكرتها الإلكترونية، وإذا نجحت في أن تحولهم إلى تحويلات مالية، فسيكون ذلك قمة النجاح. والإغواء في هذه الحال لا يعقبه اتصال من أي نوع. بتنا لا نخرج من الإغواء إلى أي مكان. نبقيه حبيس غرفنا التي لا يزورها سوانا، وحين نخرج إلى الناس، نجهد في أن نخفي وجوهنا وأجسامنا بأقنعة التعب والرغبة في أن يدعنا الآخرون وشأننا. الإغواء الحديث في مآله النهائي هو حديث المرء مع جسمه وصور الآخرين. لم يعد ثمة رسائل تطلقها أجسامنا إلى أجسام الآخرين. لقد أصبحوا يختفون في لحظة رغبتنا بالإغواء ويحضرون ما إن تتعاظم رغبتهم بالإغواء. وعلى هذا فنحن نخزن صورهم في حواسيبنا وماكيناتنا لنطلق عنان رغباتنا ما أن تغيب أجسادهم من المشهد وتبقى ذكراها.

هذا الطارئ الهائل الذي طرأ على حيواتنا لا ينحصر أثره في الشارع والحي والمدينة. إنه يتعداها كلها إلى ما يشبه رغبة عامة وعارمة في إماتة المكان. سلطته على وجه التحديد، قدرته على تشكيلنا، وأثره في مسالكنا اليومية. والأرجح أن المقبل علينا من تقنيات سيخفي المكان عن كل عين، وسيجعل العالم الخارجي برمته غير مرئي لأحد. منذ اليوم بتنا نسير في الشارع بوصفنا ماكينات تريد الوصول إلى غايتها في أقرب وقت. وكل الذين يجاوروننا على الطرقات وأمام الإشارات الضوئية وفي أروقة السوبر ماركت ليسوا أكثر من عميان ساقتهم أقدامهم العمياء إلى هذا المكان ولن يلبثوا أن يختفوا إلى غير رجعة. لنعود وإياهم إلى اللامكان الذي نطلق من بطنه العاقر رغباتنا وأفكارنا ومنه نبث كل رسائلنا. كما لو أننا جميعًا أصبحنا آلهة نخاطب نظرائنا من شاهق سلطتنا عليهم، ثم لا نلبث أن نتبادل الأدوار فنخضع لنصغي لخطابهم.  

منذ اليوم، لم يعد الحب حبًا، ولم يعد الجنس جنسًا، وحتى الجسم لم يعد جسمًا. ذلك أننا لم نعد متساوين مع أقراننا، لقد بتنا أسرى أجسامنا الشخصية ولم يعد ثمة متسع لجسم آخر يشاركنا في هذا العالم. وحين تعوزنا السبل ونجد أنفسنا في موقع نضطر معه أن نتصل بالآخرين، علينا أن نخفي عن هؤلاء الآخرين كل أهوائنا ونختفي في الجمع كما لو أننا أبناء منام.

بتنا لا نخرج من الإغواء إلى أي مكان. نبقيه حبيس غرفنا التي لا يزورها سوانا، وحين نخرج إلى الناس، نجهد في أن نخفي وجوهنا وأجسامنا بأقنعة التعب والرغبة في أن يدعنا الآخرون وشأننا

اقرأ/ي أيضًا: رثاء الشوارع

كتب ماريو بارغاس يوسا ذات يوم أن المرء في المدينة قد يلتقي بامرأة في حافلة ويؤمن أنها قد تكون أفضل شريكة له، وحبه الأكبر، لكنها تنزل في محطتها وتغادر إلى الأبد. هذا ما كان يحصل في المدينة السابقة. في المدينة الراهنة، لن يلتقي المرء بامرأة في حافلة، سيلتقي بكائنات هربت من جحورها لزمن وجيز بغية تأمين بعض حاجياتها وسرعان ما ستعود إليها وتختفي عن ناظريه. إذا كنت تريد أن تقابل حبك الأكبر وشريكة عمرك، عليك أن تلقي نظرة على كائنات تيك توك، هناك تنشأ مملكة الإغواء من طرف واحد، وهناك سوف تكتشف أن مستقبلك نفسه ليس أكثر من ذكريات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وصايا الأجداد.. وأمجادهم

رسالة إلى سكان ومديري الميتاڤيرس