23-نوفمبر-2018

إدمون جابيس (1912 - 1991)

متخيّل الكتابة 1

يتحرّر الكاتب من كتابته عن طريق فعل القراءة الذاتية التي ترافقه لحظة انكتاب نصّه، حتّى أنّ الكتابة تبدو متداخلة على نحو كبير بالقراءة. ليس هناك أسبقية ما للكتابة على القراءة. سيكون هدف الكتابة هو قراءة ما سينكتب. الكتابة لحظة تشكّل طرفها الآخر هو القراءة كشاهد على تلك اللحظة. القارئ هو العين التي تراقب وتلاحظ وتعايش ميلاد الكلمة المكتوبة. فالكاتب هو أوّل قارئ لنصّه، حيث تتولد القراءة من رحم الكتابة، إنّه الشاهد الأوّل على ذلك الميلاد. هذا ما سمّاه إدمون جابيس بفعل الانكتاب. نفهم بأنّ الكاتب مجرد أداة لنصه، هو طرف غريب عن نصّه، أي بمثابة الشاهد الأوّل على انكتاب النص من تلقاء نفسه.

يقول إدمون جابيس: الكتاب السيئ هو الكتاب الذي أساء كاتبه قراءتَه

يميز جابيس بين الكلمة الملفوظة (المشافهة) وبين الكلمة المكتوبة (الكتابة)؛ فوحدها الكلمة المكتوبة تقتحم نظام القراءة، لأنّها تٌقرأ أساسا بالعين (الكلمة رسم – وشم – أثر – شكل – هندسة – معمار)، ومن خلال حاسة العين تنفجر أعماق الكلمة المكتوبة، وتُحرّك داخل الأعماق القصية للكلمة آلاف الأسئلة النائمة.

اقرأ/ي أيضًا: فصل المقال في ما بين القارئ والكاتب من الاتصال

يقول جابيس، بأسلوب اعترافي: الكتاب السيئ هو الكتاب الذي أساء كاتبه قراءتَه. بهذا الاعتراف يدمّر جابيس أسطورة الكاتب، بل يضع مقاصده بين قوسين. كاحتراز ضروري. هل بقي الآن للكاتب شيء من الشجاعة ليتهم القرّاء بأنهم لم يفهموا نصّه؟

متخيّل الكتابة 2

التجأ إدمون جابيس إلى استعارة الحرب لتعريف علاقة الكتاب بالقارئ. فالكتاب غنيمة، والغنائم هي ما تُخلفه الحروب. إلا أنّ الكتابَ – الغنيمةَ قد يكون من نصيب الجميع، مثلما قد لا يناله أحد. من هذا التحديد المُربك نُدرك أنّ معركة الكتابة مفتوحة على الاحتمالات الضدية الممكنة. الكتاب مِلك وليس مِلك أحد. كتب جابيس: "أن يكون الكتاب غنيمة لكلّ القرّاء المُحتملين يعني هذا في آخر المطاف أن لا يكون غنيمة أحد".

قراءة الكتاب ثمّ نقده يعني أن يجد الكاتبَ نفسه تحت رحمة نيران القرّاء. إنّ أضواء الشهـــرة بقدر ما تصنع مجد الكاتب بالقدر نفسه تصــــنع بــــؤسه. مازلنا داخل استعارة الحرب. هناك تهديد ما يمارسه القارئ على النص. يقول جابيس: "تاريخ الأدب هو بطريقة ما تاريخ الانتقام". لا يمكن إذًا أن نفصل الكتابة – الأدبية عن هذا الانتقام. انتقام من طبيعة مزدوجة: انتقام الكاتب/ انتقام القارئ. تاريخ الكتابة ـ الأدب هو تاريخ طويل من التهديدات والانتقامات المتبادلة.

متخيّل الكتابة 3

هل تدرّبنا الكتابة على القول أم على الصمت؟ من السهل أن نتكلّم، لكن من الصعب أن نصمت! الصمت امتياز. إنّ الكتابة، عكس المُعتقد الشائع، هي خطاب الصمت، تتشكّل من داخل الكون الصامت للكاتب. الكاتب لا يكتب في لحظة ضجيج. بقي الآن سؤال جابيس: كيف أصمت؟ سؤال غير مفكر فيه. لكن الأخطر هو كيف يمكن كتابة الصمت؟ ما هو الشكل المناسب للامفكر فيه؟

هناك كتاب واحد. إنّه مكبون الكتابة. وكل الكتب هي إجابات لسؤال طرحه الكتاب – الأصل

بين "كيف أصمت؟" و"كيف أقول" تتجلى الكتابة كحالة كبت. جوهر الكتابة أنها مكبوتة. يلازمها هذا الكبت، وإلا كانت مجرد ممارسة فارغة. مكبوت الكتابة؟ فيما يتجلى؟ هل هو نفسه مكبوت الكاتب؟ لنتعمّق أكثر في فهم ألاعيب جابيس.

اقرأ/ي أيضًا: عن القارئ

هناك كتاب واحد. إنّه مكبون الكتابة. وكل الكتب هي إجابات لسؤال طرحه الكتاب – الأصل. ما طبيعة هذا الكتاب العجيب؟ لا يُمكن معرفة الأصول؟ الأصل هو ما يستحيل الكتابة عنه. يقول جابيس بلغته الاستعارية – المتاهية (أليست الاستعارة متاهة فنية؟): تشبه الكتابة تخوم الصحراء. كم هي مُربكة هذه الجملة!

 

اقرأ/ي أيضًا:

زيف النقّاد

القراءات المُذلّة للكتاب