28-أغسطس-2018

كريم سعدون/ العراق

كتابة المادة للصحافة

لحسنِ حظي شخصيًا أنَّ مجموعًا طيبًا من المحررين الذين أرسلت لهم قراءاتي "النقدية" للكتب هم بالأساس كتّاب ومثقفون، تربطني ببعضهم صداقات، وبعضهم معرفتي بهم من خلال منجزهم وإعجابي بهم، ما خلقَ أرضًا خصبة للتواصل معهم، فقدرت لهم اهتمامهم، وقدّروا لي قراءاتي التي تتجاوز الانطباع إلى النقد بما يتّطلب ذلك من تعب وافر لا تطلبه المادة الصحفية السريعة، فكانت تأتيني ملاحظاتهم مغلّفة بالدبلوماسية والمحبة بقصدِ التخفيف عن قارئ جريدة، ليست ثقافية صرفة وإنّما الثقافة باب فيها فحسب ومشغلٌ من مشاغلها الكثيرة، في وقت تَطغى فيه السياسة على مفاصل الحياة ويهمّش سواها، وهذا الأمر بحدّ ذاته مثلبة واعتوار يقع فيه المشتغلون في حقلِ الإعلام، وهو ما ظهر بفجاجة واضحة بإغلاقِ الملاحق الثقافية العريقة في بعض الصحف مؤخراً، ما يعني أنّ الثقافة في ثقافتنا هي ما يمكن أن يُضحّى به كما لو أنّه عضو زائد عن الحاجة أو "كركبة" يمكنُ رفعها إلى "سقيفة" البيت!

يشكو المشتغل الإبداعي من ضعف الفعالية النقدية الموازية للكتاب، ويعزو ضياع كتب جيدة في الزحمة النسبية في النشر

ولهذا كنت أتجاهل المحاذير مستغلًّا المحبة لأكتب مادة قريبة من النقد وثقيلة على الصحافة، ومع أنني لفترة كنت بحاجة للمردود الذي توفره القراءة ماديًا، وكانت النصيحة تأتي أحيانًا مطالبة بمرور سريع وتعريفي للكتاب ما يوفر عليّ تعبًا ورجوعًا إلى البعيد في المعرفة والقراءات المؤسسة لشخصي كناقد أو على الأقلّ كمحبّ لهذا الفضاء الثري بعطاءاته وانفتاحه على الجديد، رغمَ كلّ هذا كنتُ أميّلُ إلى نفسي من خطوط حمر يرسمها المحرر، ولهذا وربّما أدّعي بأنني لم أستطع قراءةَ كتابٍ من خارجه، مسلّطًا عليهِ فكرة مسبقة، وكذلك لم أستطع قراءة قراءةٍ منزوعة الدسم أو مقلّمة الأظافر لا تخرمشُ ذائقتي وتخلق صراعًا بيني وبين المادة المرصودة موضوع القراءة!

اقرأ/ي أيضًا: مأساة الأدب

القراءة الرّثة للكتاب الرّث

يشكو المشتغل الإبداعي من ضعف الفعالية النقدية الموازية للكتاب، ويعزو ضياع كتب جيدة في الزحمة النسبية في النشر إلى هذا الغياب أو الاعتباط الحاصل في التداول كنتيجة موضوعية لعدم وجود نصّ نقديّ موازٍ، ولهذا فالتوجه إلى فتحِ نوافذ للإطلالة على الكتب الجيدة تحتمل نية حسنة، لكن تنتفي منها الدراية أو الإستراتيجية التي قد تجعل من هذه النافذة "ميزان الذهب" أو عين الصائغ الخبير الذي سيميزُ المعدن الثمين من المعدن الرخيص. هذه الزوايا المعدّة بخجل، تصرّح علانية أنّها تأخذ بالمادة السريعة، التعرضيّة، وفي الوقت نفسه تنظرُ إليها وتنظّر لها كـ"نقد" فجاء عدد لا بأسَ به من الكَتبة مدفوعين بالاستسهال ومستثمرين اسمهم ومتأملين بالمردود المالي على ضآلته إلى الكتابة عن كتب جديدة ولكتاب لهم حضورهم وآخرين جدد، وبما أنّ سقفَ المادة محدود فجاءت القراءات مستندة إلى كلمة على الغلاف الخلفي أو مقتطعة مقطعاً أو مستندة إلى اسم الكاتب والكلام المسبق فيه إذا كان معروفًا، وفي حال كان جديدًا على الساحة تأتي القراءة مبشرة مع تلكئها في الإتيان بالمقبوس الذي يظهرُ جدية هذا الكاتب أو تلك الكاتبة، على أننا نقرأ أيضًا تنظيرًا وعرضًا للعضلات، يبدي بوضوح جهلَ القارئ/ الناقد، ونرى إسقاطًا مجافيًا لروح الكتاب، وبما يجعلُ هذه القراءة "كليشة" تنطبق على أيّ مادة جيدة كانت أم رديئة، جديدة أم قديمة، ولا تتطلب قراءة للكتاب وإنّما النظر في عنوانه وجنسه وسنة صدوره وعدد صفحاته، وهو ما يجعلُ المتابع غير مستغرب في عدد لا بأس به، يتكرر في أكثر من مكان، ويجعل السؤال عن الوقت الذي يقرأ فيه هؤلاء كلّ هذه الكتب، وعن الوقت الذي يستهلكونه في الكتابة عنها سؤالاً عقيماً، فقد قيل "إذا عُرف السبب بطلَ العجب".

اكتسبت بعض الأسماء حصانة زائفة ضدّ النقد، ما جعلها فوقه كما لو أنّها نصوصًا مقدّسة لا يمكن الاقتراب منها

الكتابة الرديئة عن الكتابِ الجيد

اكتسبت بعض الأسماء حصانة زائفة ضدّ النقد، ما جعلها فوقه كما لو أنّها نصوصًا مقدّسة لا يمكن الاقتراب منها، وهذا بدوره جعلَ الكتابةَ "المطَبلة" لها جواز سفر صالحًا لينفذ منهُ "المطّبّل" إلى الحقلِ الصحفي/ الثقافي الذي يروم قارئًا إلى حدّ ما يأخذ بما يأتيه دون مشاكلة وهذا الاطمئنان نفسهُ جعلَ ناقدًا/ باحثًا عاجزًا عن اختراق هذه الطمأنينة التي أصبحت تابو لا يمكن إقلاقها أو محاججتها، وفي الآن ذاته تعطّلت القدرة في تتبعِ المنجز الجديد والكتابة عنه وله بإنصاف، قد يجعلُ من روح المنافسة أمرًا واردًا ومطلوبًا، لا سيما أنَّ نصوصًا جديدة تزاحم وتداحم بقوة، ولا يُشكل عليها إلّا القراءات العابرة التي تنحاز إلى المكرّس ولا تنظر في الجديد إلّا بالمقارنة معه -المكرّس- وليس بأحقية المنافسة والجودة.

اقرأ/ي أيضًا: النقد محروم من الوعي النقدي

عودة إلى الشخصي

مع أنني لا أرى في التوازن بين العمق والسهولة إلّا أمرًا حميدًا وأتمنى فعله، غير أنني ومن الزاوية ذاتها أجدُ انزياح العمق على السهولة أجودُ من طغيان الاستسهال على العمق، وقد قرأنا كثيرًا في القراءاتِ الغربية مع عدم تأليهي أو إعجابي الزائد بتًا وإنما تقديري لها ولجديتها بأنها تنزعُ إلى الارتقاء بذائقة المتلقي وجعله طرفًا أساسًا لا محايدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النقد فعل جماليّ

زيف النقاد