03-يونيو-2018

غرافيتي لـ فولتير

هل العلمانية عزل نهائي للدين أم هي بناء مشروع مجتمع متسامح دينيًا؟ كان هذا السؤال موضوع نقاش أثاره مثقفو أوروبا في القرن الثامن عشر، ضمن مشاريع علمنة المجتمعات الأوروبية، وما زال السؤال يفرض حضوره الواضح في نقاشات النخب في عصرنا الحالي. هذا العصر الذي شهد عودة الدين بقوة إلى الحياة الاجتماعية والسياسية، سواء في المجتمعات العربية الإسلامية أو في المجتمعات الغربية بوصفه تهديدًا لعلمانيتها الموروثة عن القرن الثامن عشر، خاصة مع ازدياد أعداد المهاجرين المسلمين في أوروبا، وتزايد وتيرة الهجمات الإرهابية في العواصم الأوروبية.

هل العلمانية هي عزل نهائي للدين أم هي بناء مشروع مجتمع متسامح دينيًا؟

لقد كان كتاب "رسالة في التسامح" لفولتير، والذي ألّفه في نهاية القرن الثامن عشر، بيانًا تاريخيًا أسّس أولًا لميلاد المثقف الحديث؛ هذا الأخير قرّر أن ينزل من أبراجه العالية، ليكون قريبًا من هموم المجتمع، لا سيما هموم هؤلاء الذين سحقتهم وتسحقهم آلة الدولة كل يوم.

اقرأ/ي أيضًا: شلومو ساند و"نهاية المثقف الفرنسي".. من رهاب اليهودية إلى رهاب الإسلام

فوظيفة المثقف باتت معنية بالانخراط في الحراك الاجتماعي، ليمثل صوت من لا صوت له. وهذه الوظيفة التاريخية، اقترنت بمرافعة فولتير الشهيرة في وجه العدالة الفرنسية التي أصدرت حكمًا ظالمًا في حق عجوز اتهمته بقتل ابنه لأسباب دينية.

وثانيًا، يمكن اعتبار الكتاب صياغة لمنظور فولتير لما يجب أن يكون عليه المجتمع العلماني، وهو دعوة إلى ضرورة تحرير المجتمع من سلطة الأكليروس، الذين حوّلوا الدين إلى وسيلة لممارسة السلطة المطلقة.

إنّ السبب الأساسي الذي دفع فولتير إلى كتابة هذا الكتاب هو حادثة إعدام العجوز جان كالاس، وهو تاجر بروتستانتي من منطقة تولوز الفرنسية، والذي اتهمته العدالة الفرنسية بقتل ابنه جان أنطوان.

وتروي الحادثة بأنّ جان أنطوان قد ارتد عن البروتستانتية إلى الكاثوليكية، وبعد أيام اكتشف ميتًا في غرفته. وعلى الرغم من غياب أدلّة حقيقية عن حيثيات الواقعة، فإنّ انصياع الغوغاء – كما سماهم فولتير – لنوازعهم الدينية  جعلت القضاء يحرّف حقيقة انتحار الابن.

إنّ المشاعر والانفعالات الدينية أصابت العدالة بالعماء، وجعلتها تستسلم لأصوات المتعصّبين الذين نادوا بإعدام العجوز، لأنه قتل ابنه، كراهية بالدين الكاثوليكي. ويذكّرنا فولتير بأنّ ما زاد المتعصبين قناعة بجرم العجوز كالاس هو أنّ من تعاليم البروتستانتية حضّ الآباء على قتل أبنائهم إذا خرجوا عن دينهم.

لقد فجّرت هذه الحادثة حماسًا كبيرًا في الكاثوليكيين الذين أقاموا جنازة مهيبة للشاب المقتول، واعتبروه شهيدًا.

اتخذ فولتير من هذه الواقعة الشهيرة إطارًا تاريخيًا لعرض طبيعة المجتمع الذي تتنازعه داخليًا قوى دينية متناحرة، فبدلًا من أن تفشي روح التسامح بين الناس، فهي تنشر الكراهية وتحرّض على العنف، وإقامة العدالة باسم الإله. أراد من خلال هذه الرسائل إعادة النّظر في مبدأ العدالة: هل يمكن بناء مجتمع متسامح دينيًا دون إرساء العدالة؟ وهل يمكن إقامة عدالة مع وجود هيجان عقائدي عارم؟

إنّ العار الوحيد، كما كتب، هو عار الظلم واللاّعدل. وهو يرى كيف تحولت أوروبا إلى مجموعة من الأخويات الدينية المتناحرة، والتي وضعت أتباعها فوق البشر. إنّ ثمن الصراع الديني  كان دائمًا باهظًا جدًا.

لقد كانت المشكلة في رجالات الدين، وليست في الدين. إنه يحمّل رجالات الدين مسؤولية العنف المسعور، فقد كان العقل اللاهوتي أكبر من تسبب في إرهاق الكثير من الدماء في ألمانيا، وفي هولندا وفي فرنسا.

ليس أمام أوروبا إذًا إلا النزوع نحو التسامح، واحترام عقائد الآخرين. ومن خصوصيات هذا العقل المتسامح، أنه "عقل وديع، إنساني، يحث على الحلم، يخنق الفتنة في المهد، يشد من إزر الفضيلة، يحبب الانصياع للقوانين ويعززها أكثر مما تفعله القوة".  (فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة: هنريت عبودي).

لقد ميّز فولتير بين القانون الطبيعي والقانون الإنساني؛ فالأول هو ذلك الذي ترسمه الطبيعة للبشر كافة. أما القانون الإنساني فيقوم على هذا الجوهر الطبيعي، والذي يتمثل في المبدأ التالي: "لا تفعل ما لا ترغب في أن يُفعل بك".

إنّ الحق في التعصب، يقول فولتير، هو حق عبثي وهمجي. فقد أدان المسيحيين الذين قتلوا وأحرقوا المدن رافعين الكتاب المقدس في يد والسيف في يد أخرى. " لو استعرضنا جميع الشرور التي تسببت فيها الحمية الدينية الكاذبة، لدركنا ان البشر عاشوا طويلا جحيمهم في هذه الدنيا" (فولتير، رسالة في التسامح، ص83).

إنّ الحق في التعصب، يقول فولتير، هو حق عبثي وهمجي

يمكن أن نستخلص من هذا الكتاب سمات المجتمع العلماني، فهو مجتمع متسامح مع كل الأطياف الدينية، يقرّ بالعدالة على أساس مدني وليس تحت إملاءات أية عقيدة مهما كان شأنها. العلمانية هي مقاومة للتعصب الديني الذي يحول المجتمعات إلى ميادين للاقتتال. فالحروب التي تحركها العقيدة الدينية تخلف آثارًا كارثية على الإنسان والمجتمع.

اقرأ/ي أيضًا: في ضيافة فولتير

تبدأ الحياة المدنية، إذًا، من اللحظة التي يتحرر فيها الناس من التعصب لعقائدهم الدينية. من هذه اللحظة يمكن إقامة مبدأ التسامح. فمن غير العقلانية أن يدعي أحدهم الحق في أن يجر غيره من الناس إلى الاعتقاد بأفكاره، فيقيم الحدود في وجه الذين يختلفون عنه فيها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تركة التعصب إذ يرثها مجانين الحكم

تزفيتان تودورف.. صوت متفرد في زمن "البرابرة"